من الصحافة العالمية

الفصام في قتال واشنطن وطهران معاً في الموصل

حازم الأمين
كان العالم يحاول توقع مسرح المواجهة المقبلة بين واشنطن وطهران، كان جنود أميركيون يتولون قيادة كتائب من الجيش العراقي الوثيق العلاقة بالحرس الثوري الإيراني، في معركة الموصل، وكانت طائرات مروحية أميركية تتولى تغطية هجوم هذه الكتائب على أحياء الموصل القديمة، حيث يتمركز مقاتلو «داعش» وقناصوه!
من المفترض أن لا يعطيك تصاعد القتال هنا في الموصل، وقتاً لكي تتأمل في المشهد، لكنك تشعر بأنك تعيش توتراً موازياً لتوتر الحرب، ذاك أن المواجهة بحسبك مقبلة لا محالة، وإذا لم يكن العراق مسرحها، فستكون سورية القريبة أيضاً من هذا القتال.
ثمة ما يدفعك إلى الاعتقاد أن أميركا حددت موقعها في العراق منذ 2003، فهي تقاتل إلى جانب هؤلاء الجنود منذ ذلك التاريخ. هذا هو موقعها الذي يبدو أنه من الصعب تبديله على رغم قرار إدارة ترامب أن طهران هي العدو اللاحق. ويضاعف حيرتك حقيقة أنك تعاين خصومة تولتها سنوات الافتراق بين جنود يتقدمون سوية إلى وسط الموصل.
النصر في الموصل نصر لواشنطن وطهران معاً، لا بل إن إيران ستكون المنتصر الأوضح، فكيف يمكن تصريف ذلك في المواجهة المقبلة؟
حين يتحدث الجنود عن تكتيكات الحرب يشيرون إلى أن مصلحة طهران تقضي بقتل كل عناصر «داعش» في الموصل، ومنعهم من التسرب إلى سورية. وميدانياً تتولى واشنطن تلبية هذا الهدف، فجنود النخبة الأميركيون الثمانمئة، وطائرات الـ «إف 16» يقودون المواجهة! وعليك هنا أن تُقصي ميلك إلى تفسير المفارقة بمؤامرة. فما يحصل فعلاً أن واشنطن، ومنذ إسقاط النظام في العراق، تؤمن لطهران نفوذاً وتفتح لها طرقاً، من دون أن يكون ذلك صفقة أو مؤامرة، فميزان القوى لا يسمح لغير طهران بأن تستثمر في النصر على «داعش».
لكن، هل يعني ذلك أن تفادي تقديم هدايا لطهران يقتضي الاستنكاف عن هزم «داعش»؟ فالتنظيم لم يترك فرصة إلا استدرج فيها العالم إلى مواجهته، وكان من المستحيل تحوله أمراً واقعاً يجب التعامل معه. ثم إنه سبق لطهران أن ملأت في العراق فراغاً خلفه الأميركيون وليس «داعش»، وبهذا المعنى هي البديل الوحيد وسط هذا الفراغ الكبير.
المفارقة صنعها الأميركيون من دون شك، وهم اليوم مستمرون في صناعتها. فهم يقودون الحرب على «داعش»، ويُعدون العدة لحرب موازية مع طهران. يحصل ذلك من دون تنظيم شروط المواجهتين، وهو أمر يمكنك هنا على الجبهة تلمس مظاهره على نحو مباشر. الجنود العراقيون يسعون إلى مشابهة الجنود الأميركيين في القتال وفي غير القتال، لكنهم يُضمرون ضغينة وريبة وشكوكاً حيالهم. والجنود يتقدمون بحماسة أكبر حين تساعدهم الطائرة الأميركية، وفي الوقت ذاته يعتقدون أن واشنطن ليست في صفهم. أما الجنود الأميركيون فهم أيضاً يظهرون أقل الثقة بحلفائهم على الأرض، وهم غير معجبين بارتخائهم على الجبهة.
المواجهة المقبلة تلوح أمامك أثناء رصدك هذا التوتر، لكنك لن تجد لـ «النصر على داعش» تصريفاً في تلك المواجهة. سيكون نصراً لعدوين، وهو نصر لطهران قبل واشنطن، لكن الأخيرة منغمسة فيه حتى أذنيها. المؤامرة تعود لتلح عليك، لكنك ما إن تقع في شباكها حتى تغدو عنصراً في «داعش». إذاً، عليك أن تستعيد حقيقة أن الخطأ جوهر السياسة الأميركية في العراق، منذ قرار حل الجيش العراقي في 2003 وصولاً إلى قرار الانسحاب بصفته فراغاً وفرصة كبرى لطهران. فما الذي يحصن واشنطن اليوم من خطأ جديد، لا سيما أن في البيت الأبيض اليوم خطأ بحجم ترامب؟
الخطأ مركّب إلى حد يصعب معه تخليص خيوطه. الاستنكاف عن قتال «داعش» خطأ، وقتاله إلى جانب الحشد الشعبي خطأ، وترك طهران وحيدة في الساحة خطأ، واختيار العراق أو سورية مسرحاً لمواجهته أيضاً خطأ، وهذه أخطاء في التكتيك اليومي وفي النتائج اللاحقة، لكنها أخطاء مؤسسة على وجهة شرعت بالارتسام منذ سنوات طويلة، وعبر ممارسات وقرارات ووقائع تكثفت لتؤمن هذا المشهد. فإلى جانب من سيقاتل الجنود الأميركيون «داعش» في العراق؟
العودة بالسؤال عن سهولة تدفق «داعش» في العراق وفي سورية قد تُفسر بعض هذا الغموض. وأخطاء خصوم طهران العراقيين أيضاً تُفسر بعضاً آخر من هذا الغموض، وأن يقع العراقي السنّي اليوم بين اختيارين لا ثالث لهما، أي المفاضلة بين «داعش» وطهران، فإن في ذلك مأساة لا شيء يفوقها قسوة. «داعش» احتل مدنه، لا مدن الشيعة، وهو انقض على أنماط عيشه وسلوكاته وممارساته ومدارسه ومتاجره، أما طهران فلا أفق للعلاقة معها سوى الحرب المتواصلة عليه. والمفاضلة هنا تبدو مستحيلة، لكن الواقع يؤشر إلى أن ميزان القوى يميل نحو العدو الثاني، بالتالي لا بد من التعامل معه على رغم الكارثة. وذلك علماً أن السنّي العراقي هذا كان سبق له أن وُضع أمام المفاضلة ذاتها، لكن مع ميزان قوى يميل إلى «داعش»، فكانت الكارثة أيضاً.
الحرب اليوم في الموصل تؤسس لانبعاث كارثة ثالثة. «داعش» يجب أن يُهزم، لكن منتصرين سيتقاتلان في أعقاب هزم التنظيم، أما الضحية الفعلية لهذا القتال، كما لانتصار «داعش» ولهزمه، فهو ابن قافلة المدن المدمرة. فالرمادي صارت ركاماً، وتكريت منكوبة والموصل اليمنى انضمت إلى المشهد، ويحلو لكثيرين هنا في شمال العراق ضم حلب إلى الكارثة العراقية.
ليست المؤامرة وراء ذلك، فالحرب كان من المستحيل ألّا تقع، إذ إن وراءها أخطاء أسست لهذا المقدار من الهزائم. ومشهد جنود يقاتلون التنظيم المسخ ويتبادلون نظرات الريبة والإعجاب، يحمل الكثير من الدلالات على هذا الصعيد، وانتقال واشنطن من موقعها إلى جانبهم في العراق، إلى موقعها اللاحق في مواجهة طهران مستقبلاً لن يكون سهلاً عليها، ذاك أن لا حليف لها في العراق سوى هؤلاء الجنود. أما الوهم الذي يساور البعض لجهة إمكان تأليب شيعة العراق على طهران، فسيؤدي إلى هزيمة جديدة لأصحابه كما لواشنطن، فطهران بنت لها في العراق منازل كثيرة، والأميركيون غرباء فيه… وسيبقون غرباء.
الحياة
 

جميع المقالات المنشورة تعبر عــن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عـــن رأي يكيتي ميديا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى