آراء

المعلن والمخفي في السياسة التركية

عبد الباقي يوسف
عملت تركيا باستمرار كي تكون لاعباً أساسياً في المنطقة، ولأن يكون لها دوراً مميزاً على الساحتين الإقليمية والدولية. قد يبرر هذا التوجه موقع تركيا الجغرافي، ناهيك عن أن الأتراك يرون أنفسهم ورثة السلطنة العثمانية والتي كانت يوماً ما قوة دولية، ودولة مترامية الأطراف. بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق شعرت النخب السياسية والثقافية التركية بتراجع أهمية بلدهم في سياسات القوى الدولية، وبدأت تساورها المخاوف الأمنية من أن ينعكس ذلك على الداخل التركي لكون تركيا دولة متعددة القوميات والأثنيات والأديان والطوائف والتي تعاني من الظلم والحرمان والتمييز، خاصةً وأن تركيا لم تكن يوماً على وئام مع دول الجوار.
كان الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال سباقاً في محاولة معالجة تلك المخاوف، وإعادة النظر في دور تركيا المرسوم من قبل الغرب كجدار عازل بين أوروبا والشرق الأوسط، وجنوب القفقاس، وذلك للحد من الهجرة غير الشرعية، وكذلك أعمال العنف، واحتواء سياسات التطرف، ليحول أوزال تركيا الى دولة ترسم دورها بنفسها في محيطها الجغرافي، وتتفاعل معه اقتصاديا وسياسياً، وليبدد مخاوف جيرانها، ولينفتح على المسألة الكُردية داخلياً وإقليمياً لطالما كانت ومازالت من أكبر التهديدات الأمنية الداخلية وعلى المستوى الإقليمي إذا ما ظلت من دون اية حلول مُرضية، ولتصبح تركيا صلة وصلِ بين الشرق والغرب لا عازلاً. إلا أن مشروع أوزال لم يكتمل، وكلفه غالياً، فقد بنتيجتها حياته جراء عملية إرهابية بقيت خيوطها مخفية لغاية اليوم.
منذ نحو عقد من الزمن بدأ الحديث عن مصطلح “النموذج التركي” للحكم، كدلالة على موائمة حكم الاسلام السياسي مع الثقافة الديمقراطية، وقبول حزب إسلامي بالتعايش في إطار نظام علماني، وبالحفاظ على الحريات الفردية والجماعية، والقوانين المدنية التي تسير حياة المواطنيين، كما وكدلالة أيضاً على النجاحات الاقتصادية التي بدأت تحققها تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، وتراجع البطالة بشكل كبير، وتحول تركيا من دولة مديونة إلى دولة دائنة، فنمت الطبقة المتوسطة، وتوجهت سياسات تركيا نحو الانفتاح على العالم العربي والاسلامي، مع استمرارها في المطالبة بالإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي.
لم يكن الفضل في الحديث عن “النموذج التركي” في الحكم، فقط، للنجاحات الاقتصادية التي حققها حزب العدالة والتنمية، ولا لكون الحزب كسب أطيافاً واسعة من الإسلاميين والعلمانيين، وطبقات وفئات واسعة من المجتمع، بل إن ما ساعد في إبرازه هو تزامن هذه التجربة مع ما كان يشهده العالم من تشدد ديني وإنتشار للمنظمات الإرهابية في العالم الاسلامي، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001 في امريكا.
حاول رجب طيب أردوغان بعد توليه الحكومة عام 2002 نتيجة انتخابات ديمقراطية أن يقدم حكم حزب العدالة والتنمية كنموذج للدول الاسلامية بعد المزاوجة بين العاملين الديني والسياسي، بحيث يمكن أن تتعايش فيه الثقافة الاسلامية بسلام مع الثقافة الديمقراطية!.
تجنب الحكم الجديد في تركيا الحديث المباشر عن الاسلام، إلا أنه تحدث عما يحيل إليه من خلال سياسات وبرامج طموحة إن كانت على الصعيد الداخلي أو الخارجي، من خلال إقتراح العديد من المبادرات كموازن إقليمي أو كوسيط لحل بعض الازمات الإقليمية، وفي هذا الصدد يمكن القول إنَّ الاسلام السياسي لم يدخل جدول أعمال السياسة الخارجية التركية كمفردة سياسية، بل شغل جزءاً من خلفية الصورة، إلى أن برز بشكل جلي في خطابات الرئيس رجب طيب أردوغان بُعيد مظاهرات ما سمي بـ”الربيع العربي”، مظهراً نفسه كسلطان عثماني يدافع عن المسلمين، مما أكسبه شعبية واسعة في العديد من الدول العربية والاسلامية، واليوم لم يعد الإسلام السياسي مصدراً لتهديد السياسة العامة التركية، بل أصبح صانعاً لها بعد أن تفوق حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة بشكل واضح.
التجربة التركية الحالية في الحكم لم تستطع بلوغ مستوى “النموذج” الذي روج الإعلام العالمي له، بحيث يحدث نقلة سياسية في العالم الاسلامي ليتواءم الإسلام السياسي مع الثقافة الديمقراطية على غرار الأحزاب المسيحية في الدول الغربية، وقد يعود ذلك الى جملة من الأسباب، أهمها أن الإسلام السياسي مازال بعيداً في فكره عن قبول الثقافة الديمقراطية والعيش تحت مظلة نظام علماني، لهذا تجد الأحزاب الاسلامية عندما تكون في المعارضة تتقبل اللعبة الديمقراطية في ممارسة الحكم، لكن وبعد الحصول على السلطة تراها تنقلب عليها.
بروز العامل الديني في الحياة السياسية التركية لا يعود إلى حزب العدالة والتنمية، بل يسبق ذلك بكثير، حيث استخدم الجنرال كنعان إفرن المعطى الديني ضد الخطر “اليساري”، و الشيوعي الذي كان يهدد تركيا داخلياً بعد أن سيطر إفرن على السلطة عن طريق إنقلاب عسكري عام 1980.
وفي الانتخابات البرلمانية التركية في حزيران عام 2015، وعندما لم يتمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق الأغلبية البرلمانية التي تؤهله لتشكيل حكومة بمفرده تخلى عن اللعبة الديمقراطية في تشكيل حكومة إئتلافية مع أحزاب أخرى، وذلك عندما إشترط عليهم شروط تعجيزية مثل القبول بأن يصبح نظام الحكم رئاسياً في تركيا، إلى جانب ذلك، لم يرق للحزب دخول حزب إلى البرلمان يساند حقوق الكُرد في تركيا، لذا وأثناء حملات الدعاية الانتخابية وبعدها جرت العديد من التفجيرات في مكاتب حزب الشعوب الديمقراطية، وأثناء الاجتماعات الجماهيرية، أدت إلى إزهاق أرواح الكثير من الأبرياء، مما أدى بحزب العمال الكردستاني للقيام بعمليات رد فعل انتقامية، خاصة بعد أن أوقف الرئيس التركي عملية السلام مع الكُرد، استغلتها الحكومة التركية لشن حرب قاسية ضد المدن والقرى الكُردية، وشجعت النزعة الطورانية في الوسط التركي، وحرك الطرق الصوفية في البلاد لحث مريديها للمشاركة بشكل واسع في إعادة الانتخابات ولمنح اصواتهم لحزب العدالة والتنمية، بعد أن خصص لهم الكثير من الإمتيازات، حتى يكسب الحزب الانتخابات، وهذا ما تحقق.
طرح تركيا نفسها وسيطة لحل المنازعات الاقليمية والداخلية للغير يثير مفارقات عديدة، لأن للأتراك سجل حافل بالتسلطية والقمع، وإنكار لحقوق المكونات القومية والدينية والطائفية، وانتهاكات فظة لحقوق الإنسان والحريات العامة. وتشهد تركيا اليوم تراجعاً كبيراً عما خطاه حزب العدالة التنمية من إنفتاح نسبي على المسألة الكردية، وعلى العلويين والمكونات الأخرى؛ فقد ازداد التطرف القومي لدى الأترك، وهذا ما رصده العديد من مراسلي الوكالات والمؤسسات الاعلامية المحلية والدولية اثناء الانقلاب العسكري الأخير، حيث رفع العديد من المتظاهرين الشعارات ويتفهوهون بكلام بزئ ضد الكرد، رغم أن الذين قاموا بالانقلاب كانوا ضباط أتراك.
سياسات حزب العدالة والتنمية تثير الكثير من التردد والمخاوف لدى الدول والشعوب المجاورة بسبب التناقض الحاد بين ما هو معلن وما هو في الجوهر، ومطامع التوسع الجغرافي، والعودة الى عهد السلطنة، والتبدل الحاد في المواقف. ففي خطابه أثناء لقاءه مع الرئيس الروسي في استانبول في العاشر من تشرين الأول، قال أردوغان: “دعونا نتيح لأطفال حلب إمكان رؤية أحلامهم عندما ينظرون إلى السماء، بدل مشاهدة مقاتلات تقصفهم. دعونا نمنح أطفال الموصل فرصة التمتع بأحلامهم، بدل رؤيتهم مظالم تنظيم داعش الإرهابي، وأخطار الحروب المذهبية التي يتخوّف منها أهالي المدينة بعد تحريرها”، في وقت كانت تقوم فيه الطائرات التركية بقصف المدن والقرى الكردية وتقتل الأطفال فيها.
تأتي عمليات تركيا الأخيرة تحت يافطة محاربة داعش أو حزب العمال الكُردستاني كمحاولة للتغطية على أزماتها الداخلية ومطامعها التوسعية في المنطقة. تواجد القوات التركية في الأراضي السورية، ومحاولتها اقحام جيشها في عمليات تحرير الموصل بالعراق، وتصريحات الرئيس التركي، وما أعلنه رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم، بأن لتركيا حقوق تاريخية في الموصل، والنبرة الطائفية الصارخة في هذه الخطابات التي أدت الى خلق أزمة كبيرة بين البلدين (تركيا والعراق)، كل هذا لا لايستقيم مع ما تطرحه تركيا من “نموذج” ليتبعها الآخرون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى