آراء

تركيا والعراق وبينهما «داعش» و«الكردستاني»:حكاية الحبل الذي لا يُراد له أن ينقطع

هوشنك اوسي
طيلة فترة سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي على مساحات شاسعة من الحدود التركية – السورية، ومطالبة التحالف الدولي أنقرة بالانخراط الفعلي والجدّي في الحرب على «التنظيم»، إلا أن تركيا لم تحرك ساكناً. جاء ذلك وسط اتهامات عدة، من المعارضة التركية، ومن جهات ومؤسسات إعلامية وسياسية أوروبية وأميركية لحكومة حزب «العدالة والتنمية» بدعم التنظيمات التكفيريّة المتقاتلة في سورية والعراق، كـ «جبهة النصرة، وداعش، وأحرار الشام، وفيلق السلطان مراد، وحركة نور الدين الزنكي…». رفضت تركيا الاتهامات، وطالبت بأن تكون الحرب الأممية على «داعش» موجهة ضد الأكراد وطموحاتهم في سورية، وضد «العمال الكردستاني»، وفرعه السوري (حزب الاتحاد الديموقراطي)!
لم يكترث الغرب للمطالب والضغوطات التركية، لأن الأكراد عموماً و «الكردستاني» خصوصاً، أبلوا بلاء حسناً في مقارعة «داعش» في «كوباني» و «تل أبيض» و «منبج» وباتوا يقتربون من السيطرة على منقطة «الباب» و «جرابلس». وقتذاك، تحججت أنقرة بسقوط بعض قذائف «داعش» على الأراضي التركية، وببعض العمليات الإرهابية داخل الأراضي التركية، والتي قيل أن «التنظيم» وراءها، كي تبرر تدخلها العسكري المباشر في سورية، تحت عنوان، الحرب على «داعش» وما عُرف بعملية «درع الفرات»! في حين أكد الكثير من المصادر أن كل هم أنقرة هو قصف المقاتلين الأكراد والمتحالفين معهم من الفصائل العربية، وليس القضاء على «داعش». وهذا ما تشير إليه الأخبار التي نشرتها وكالة «الأناضول» الرسمية التركية أيضاً، كنموذج على الاستهداف التركي المقاتلين الكرد والمتحالفين معهم: («درع الفرات» تستهدف 127 موقعا لـ «داعش» و8 لـ «ب ي د» في حلب) (28/10/2016). بل ذهبت الوكالة التركية إلى أبعد من ذلك، عبر نشر أخبار عن «التنسيق العسكري» بين «داعش» والمقاتلين الأكراد. فقط لأنهم حرروا بعض القرى المحيطة بمدينة الباب من «داعش»! وذلك ضمن ما نشرته في اليوم ذاته (28/10/2016) تحت عنوان: («داعش» و «ب ي د» تنسيق لمواجهة «درع الفرات»).
ومع اقترب معركة تحرير الموصل التي تبعد عن الحدود التركية مسافة تزيد عن 38 ميلاً، حاولت تركيا الانخراط في المعركة، تحت الحجج ذاتها: «رفض الوجود الكردستاني هنالك». لكن بغداد والتحالف الدولي رفضا ذلك. وأتى هجوم «داعش» على قاعدة عســكرية موجودة في بلدة «بعشيقة» التابعة للموصل، (غالبية سكّانها من الإيزيديين (70 في المئة)، ونسبة التركمان فيها أقل من 5 في المئة)، ليتخذ الأتراك ذلك مبرراً وحجة على التدخل التركي، والذي قيل أنه جاء بالتنسيق مع الأميركيين وبغداد التي رفضت في البداية وطالبت بسحب القوات التركية من المنطقة.
حجم الوجود
صحيح أن التصريحات التركية والعراقية حيال حجم مشاركة الأتراك في معركة الموصل أشارت إلى أن الأمر يقتصر فقط على الضربات الجوية فقط. إلا أن هناك وجوداً عسكرياً برياً تركياً في العراق يعود إلى منتصف التسعينات. ناهيكم عن الوجود الاستخباراتي الذي يعود إلى الثمانينات ومطلع التسعينات، عبر بعض التنظيمات التركمانية (الجبهة التركمانية) التي تتبع الاستخبارات التركية في شكل مباشر.
لا توجد إحصاءات دقيقة وموثقة لحجم الوجود العسكري التركي في كردستان العراق ومناطق أخرى داخل هذا البلد، إلا أن الكثيرون من المراقبين والتقرير الصادر عن البرلمان العراقي عام 2007، أشاروا إلى وجود حوالى 3000 جندي تركي في ثلاث قواعد عسكرية تركية موجودة في كردستان العراق. هذه القوة، أتت لفك النزاع والاحتراب الداخلي الكردي – الكردي الذي حصل بين «الحزب الديموقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني و «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة جلال طالباني، واستمرّ من 1994 ولغاية 1998. وبعد انتهاء تلك الحرب الأهلية، رفضت القوات التركية الانسحاب، وبقيت متمركزة في كردستان العراق.
أما قاعدة بعشيقة التي تقع شمال شرقي الموصل، فهي جديدة، تم تشكيلها في آذار (مارس) 2015، بهدف تدريب مقاتلين عرب وتركمان سنّة، موالين لتركيا تحت مسمّى «الحشد الوطني» بزعامة أثيل النجيفي (المحافظ السابق لمحافظة نينوى)، بحجة التحضير لمحاربة «داعش». هذه القاعدة وبمن فيها من قوات، اعترض عليها البرلمان العراقي، وعلى مجمل الوجود العسكري التركي معتبراً إياه «قوة احتلال»، في حين أن البرلمان ذاته، لا يطلق هذا الوصف على القوة الإيرانية الموجودة في العراق!
تختلف التقديرات حول حجم القوة العسكرية التركية الموجودة في قاعدة بعشيقة أو في محافظة نينوى عموماً. حيث قلل البعض منها ذاكراً أنها لا تتجاوز 200 جندي تركي. في حين ذكر رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي حاكم الزاملي أنها تبلغ 1200 جندي مجهزين بـ25 مدرعة وثلاث كاسحات ألغام. مطالباً الطيران الحربي العراقي بضرب القوة التركية، في حال رفضها الانسحاب والعودة إلى بلادها.
وبالتوازي مع الإعلان عن الانخراط العسكري التركي في عملية تحرير الموصل، وتعزيز أنقرة وجودها العسكري في العراق، يجرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية الموالية لحكومة «العدالة والتنمية» عن تابعية محافظتي الموصل وكركوك، ومجمل محافظات كردستان العراق، للدولة التركية، إبان الحكم العثماني، قبل سلخ الإنكليز هذه المناطق عن السلطنة! إضافة إلى حديث أنقرة عن «تركمان العراق ومشاكلهم ودور تركيا في حمايتهم» (وكالة الأناضول – 28/10/2016). وعليه، ثمة تسويق وترويج لاستعادة تلك الأراضي (العثمانية)، وهذا مؤشر إلى أطماع التوسع والسيطرة التركية في المنطقة. ولكن والحال هذه، كل بلاد الشام والعراق والحجاز، باستثناء اليمن، ودول شمال أفريقيا، باستثناء المغرب، كانت ترزح في يومٍ ما، تحت سلطة الاحتلال العثماني، وكانت هذه البلدان، أراضي عثمانيّة! بالتالي، ما ينسحب على الموصل، أولى به أن ينطبق على فلسطين المحتلّة! بخاصة أن العثمانيين الجدد، عرباً وأتراكاً وعجماً، يحملون الحركةَ الصهيونيةَ مسؤولية تفتيت السلطنة العثمانية – الإسلامية وتدميرها وتقسيمها.
» الكردستاني»
يعود وجود «حزب العمال الكردستاني» في العراق، وتحديداً في مناطق جبال قنديل (المثلث الحدودي العراقي – التركي – الإيراني) إلى مطلع الثمانينات، حتى قبل أن يبدأ الحزب كفاحه المسلح ضد السلطات التركيّ منتصف آب (أغسطس) 1984. وقتذاك، عقدت سلطات الانقلاب العسكري التركي بقيادة كنعان إيفرين اتفاقاً مع نظام صدام حسين يسمح بالتوغل العسكري من الجانبين لأراضي البلدين، بهدف «ملاحقة المتمردين الكرد» الأتراك والعراقيين. السلطات العراقية التي أتت بعد سقوط نظام صدام، لم تفسخ ذلك الاتفاق. لكن الأخير، لم يكن ينص على إقامة الطرفين قواعد عسكرية ثابتة على أراضي البلدين. استفادت السلطات التركية من ذلك الاتفاق، واجتاح الجيش التركي أراضي كردستان العراق لما يزيد عن 25 مرة، من دون تحقيق الهدف «القضاء على العمال الكردستاني»! الأخير أيضاً، وبعد غزوة «داعش» الموصل، ومناطق سنجار (شنكال) الإيزيدية، وما ارتكبه التنظيم من مجازر وفظائع بحق الإيزيديين، قام باستثمار محنة هذه الأقلية الدينية للحدود القصوى، عبر تحميل حكومة إقليم كردستان العراق مسؤولية هجوم «داعش» على تلك المناطق، وأن «القيادة الكردية العراقية، تركت الإيزيديين يواجهون مصيرهم أمام داعش، لتحقيق مكاسب غربية، للحصول على الدعم والسلاح»! وقدم حزب أوجلان نفسه منقذاً ومخلصاً وتدخل عسكرياً، وساهم في تحرير مناطق واسعة من شنكال، إلى جانب البيشمركة الكردية العراقية. لكنه أراد تشكيل كانتون خاص به في تلك المنطقة، منفصل عن بغداد، وعن أربيل، يدين بالولاء السياسي والأيديولوجي والعسكري للعمال الكردستاني. هذه الخطوة، لاقت رفضاً كبيراً وشديداً من جانب سلطات كردستان العراق، وصمتاً مطبقاً من قبل حكومة بغداد. فسّره مراقبون أنه ينم عن تنسيق إيراني – عراقي مع العمال الكردستاني، بهدف تقويض مساعي إعلان هولير – أربيل الانفصال عن الكيان العراقي. من جانب آخر، أعطى إعلان «الكردستاني» تشكيل كانتون أوجلاني في منطقة شنكال، المزيد من المبررات والحجج للأتراك لتشيكل قاعدة عسكرية هناك.
مع الضــغوط التركية والكردية العراقية على «العمال الكردستاني» ورفض وجوده في مناطق سنجار، تناقلت وسائل إعلامية أن «الكردستاني» ينسق مع «الحشـــد الشعبي»، وأن مقاتليه ارتدوا ثياب «الحـــشد» من باب التمويه. هذه الأخبار يمكن أن تكون صحيحة، بالنظر إلى حجم التنسيق بين «العمال الكردســـتاني» وإيران والنظام السوري. واتهم «الكردستاني» الجنود الأتراك بأنهم يتخفون بثياب البيشمركة العراقية. لكن الجيش التركي ليس في حاجة إلى ذلك، لأنه في الأصل يمتلك قواعد عســـكرية ووجوداً عـــسكرياً في كردستان العراق وفي محافظة نينوى. وهذا الوجود معلن عنه، وليس سراً.
ويستغرب كثر من المراقبين الكرد رفض «الكردستاني» ضمّ الأراضي العراقية والسوريّة التي تطمع بها أنقرة إلى خريطة تركيا! لكأن حزب أوجلان بات يلعب دور شرطي يحمي حدود سورية والعراق! ذلك أنه بهذا الضمّ، تصبح القضية الكرديّة محصورة في بلدين (إيران وتركيا) بدلاً من أربع دول. ناهيك عن أن هذا المطمح والمطمع التركي في حال تحقق، سيكون نعياً لاتفاقية «سايكس – بيكو» وتقسيمات النفوذ التي أفرزتها، وتحولت إلى دول، وحرمان الكرد من أي كيان. وعليه، «الكردســـتاني» يعتبر نفسه بالضد من الطموحات والمطامع والمخططات التركية في سورية والعراق. وتركيا تعتبر وجود «الكردستاني» في كردستان العراق، ومناطق سنجار والموصل، والمدن الكردية السورية، أبرز مبررات التدخل والاحتلال، بحجة، حماية «الأمن القومي التركي».
وسط هذا التشابك والاشتباك بين المصالح والنفوذ، يبدو أن هــنالك ما يشبه التحالف الموضوعي الخفي غير المعلن بين «الكردستاني» وأنقرة، يمنح كل طرف، بانتهاجه العنف، مبررَ وجود الآخر، في سورية والعراق. هذا المشهد الدموي المعقّد، يعيد تأكيد وجود الصراع على النـــفوذ إقليمياً بين طــهران وأنقرة، مع وجود التحالف بينهما. ووسط هذا «التحالف – الصراع» تظهر التنظيمات السياسية والعسكرية والميليشاوية باعتبارها أدوات وأوراقاً وحطباً، لا أكثر
بينما يدفع الفواتير والضرائب المخدوعون والمضللون بأكاذيب هذه الأنظمة وأذرعها الخفية والمعلنة من التنظيمات العسكرية العقائدية المتشددة الناشطة في سورية والعراق.
ما هو مفروغ منه أن الوجود العسكري التركي سيتعزز أكثر، ولن يزول بزوال الأخطار المزعومة الناجمة عن وجود «داعش» أو «الكردستاني» على المصالح التركية والأمن والاستقرار في تركيا. وربما يصبح إيجاد حلّ لمشكلة الوجود العسكري التركي في شمال العراق وسورية، أكثر صعوبةً من حل مشكلة الوجود العسكري التركي في شمال قبرص، بل ربما أكثر تعقيداً من القضاء على «داعش» أيضاً.
الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى