آراء

تغيير الخرائط ليست من صلاحيات الشعوب والحكام

فؤاد عليكو
بالعودة سريعاً إلى بدايات القرن المنصرم وقراءة كيفية تشكّل الخرائط السياسية الراهنة نلاحظ أنَّ معظم هذه الخرائط تشكّلت بإرادة الدول المنتصِرة في الحرب العالمية الاولى ، والتي تصدَّرت فرنسا وبريطانيا المشهد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بقيادة العالم، مما دفعهما والحالة هذه إلى تقسيم مناطق النفوذ في أفريقيا وأسيا والتأسيس لدول وفق مقاسها ووفق الخرائط المتَّفق عليها فيما بينهما دون أي اعتبارٍ لإرادة شعوبها وربطت اقتصاد هذه الدول ونظم الحكم الإدارية وثقافتها بها ووفق نموذجها في الحكم، حتى تبقي تلك الدول ونخبها الثقافية رهناً لمصالحها، ومن ثم بدأوا بتشكيل عصبة الأمم 1926م من الدول المنتصرة وابتدعوا نظرية الانتداب وهو تعبير ملطّف عن كلمة الاستعمار.
وعلى الرغم من إن الحرب العالمية الثانية قد غيّرت من اللاعبين الدوليين الأساسيين إلى أمريكا والاتحاد السوفييتي (روسيا الحالية) وغيّروا جزءاً من خارطة أوربا ولكنهم لم يمسسوا بالكثير من الخرائط في المناطق الأخرى وخاصةً خارطة الشرق الأوسط المرسومة من قبل فرنسا وبريطانيا وإنما ألغوا مفهوم الانتداب عن معظم تلك الدول ومنحتهم الاستقلال وأصبحوا أعضاء في منظمة الأمم المتحدة بصفتهم دول مستقلة، وهكذا تشكّلت دول غير منسجمة لا قومياً ولا دينياً ولا مذهبياً مما أبقى هذه الدول في حالة عدم استقرارٍ دائمٍ وعرضة للاهتزازات الداخلية باستمرار، مما أشغلها هذا الوضع المضطرب داخلياً عن التنمية الاقتصادية لدولهم وصرف كل مدّخراتهم الوطنية للتسلّح في قمع الاضطربات الداخلية سواءً لأسبابٍ قوميةٍ أو دينيةٍ، كما ترافق كلّ ذلك مع زيادة القمع المجتمعي وتحوّلت هذه الأنظمة تدريجياً إلى نظم دكتاتورية قمعية لشعوبهم، واختفت مقولة الديمقراطية وحقوق الإنسان من قواميسها، كلُّ ذلك تحت شعار مزيّف وهو الحفاظ على (وحدة البلاد وسيادتها واستقلالها) وعلى مسمع ومرأى من الدول التي تدَّعي بأنها حامية للحريات وحقوق الشعوب والانسان، وشاءت سخرية القدر وإرادة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى أن تمّ تقسيم كردستان بين أربع دول في المنطقة تتقاطع مصالحهم ومصالح الدول التي تتحكّم بالقرار الدولي سواءً أكانتا فرنسا وبريطانيا سابقاً أم روسيا وأمريكا حالياً ولم يسعف الشعب الكردي كلّ تضحياتهم وثوراتهم طيلة قرن كامل في سبيل نيل حريتهم من تحقيق مايصبون إليه، والسبب بسيط وواضح وهو أن إرادة الدول المتحكمة بمفاصل القرار الدولي منذ قرن وحتى اليوم لا تسمح بتغيير الخرائط السياسية حفاظاً على مصالحهم مع هذه الدول.
وعلى الرغم من أن العلاقة بين أمريكا والاتحاد السوفينيتي (روسيا) لم تكن منسجمة يوماً نتيجة التباين الكبير بين الايديولوجتين الاشتراكية والرأسمالية إلا أنهما لم يصطدما بشكل مباشر، رغم أن التصادم لم يتوقّف بينهما من خلال الوكلاء وهو ما أطلقوا عليه مصطلح الحرب الباردة والحرب السرية عبر الجواسيس، وهكذا شهدت تلك الحقبة العديد من تلك الحروب بالوكالة في كوريا وفيتنام وافغانستان والهند وباكستان وإسرائيل والعرب وغيرها الكثيرمن الدول، وكانت هناك دول تريد التخلص من تحت عباءة احدى القوتين لكنها كانت تقمع بقسوة وسط وقوف القطب الثاني موقفا متفرِّجاً كما حصل في المجر 1956 وتشيكسلوفاكيا 1968حين حاولت الدولتان التحرّر من نير الاتحاد السوفييتي لكن السوفييت قمعموها بقسوة وبقيت أمريكا متفرِّجة دون حراك، وحصل العكس في غوتيمالا والسلفادور وتشيلي وغيرها من الدول وكأن الدولتين كانتا متفقتان على تقسيم مناطق النفوذ وغير مسموح لاي طرف التدخل في منطقة نفوذ الآخر وتغيير الخرائط السياسية.
حصلت عدة دول أوربية كانت منضوية تحت مظلة موسكو استقلالها بدعم أمريكي وأوربي واضح وتغيّرت الخرائط الجغرافية في دول أخرى يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وتأسّست عدة دول جديدة في القارة الأوربية رغم ما تخلل ذلك من عنف في البعض منها.
والآن تستعيد روسيا دورها كقطب ثاني بديلاً عن الاتحاد السوفييتي وتحاول أن تكون رقم 2 في الدولية المعادلة وتدخل بشراسة في اللعبة الدولية لاستعادة دورها المفقود. لكن ومن المفارقات التاريخية المؤلمة أن هناك شعبين دفعا ضريبة هذه التوافقات الدولية ولم يحظى أي منهما بدعم هذين القطبين كما وبقيتا تناضلان طيلة قرن كامل للتحرر ولا زالتا وهما الشعب الكردي والشعب الفلسطيني وهناك أوجه تشابه كبير بيهما في التأمر والمسعى والهدف. فالشعبان تعرّضا لنفس مؤامرة اتفاقية سايكس/بيكو1917م وملحقاتها وقسُّمت لكن وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي داخلياً (لسنا بصدد ذكر الأسباب) تصدّرت أمريكا قيادة العالم دون منازع وهكذا فلسطين عملياً بين ثلاث دول (اسرائيل-مصر- الأردن) 1948م ، وفي حرب 1967م توحّدت فلسطين في دولة واحدة تحت الاحتلال الاسرائيلي وحينها فقط تخلّت مصر والاردن عن غزة والضفة الغربية للفلسطين بعد أن بقيتا تحت ادارتيهما 19عاما دون أن تمنحهما لهم لتأسيس دولتهم على تلك الجغرافية لأن إرادة الأقطاب الدوليين لم تكن تسمح لهم بذلك وهكذا بدأت الثورة الفلسطينية منذ ذلك الوقت وقدّمت الاف الضحايا وأعلن الرئيس الفلسطيني قيام الدولة الفلسطينية 1988م من الجزائر، لكن وبعد مرور 29 عاما لم يتحقق شيئاً ممّا كانوا يصبون على الجغرافيا رغم اعتراف العديد من دول العالم بها لأن إرادة الأقطاب الأساسيين لايرغبون بذلك، وكذلك قُسِّمت كردستان عملياً بين أربع دول (تركيا-ايران – العراق – سوريا) 1923م واتفقت الدولتان المنتصرتان في الحرب أمريكا وروسا في مالطة 1946م على إنهاء جمهورية مهاباد الفتية في كردستان إيران، كما اتّفقوا على إنهاء ثورة البارزاني الخالد 1975م في اتفاقية الجزائر، وهكذا أُسدِل الستار عن ثورة استمرت 14 عاما ولم تُهزَم عسكريأ، وإنما إرادة ومصالح القطيبين مع إلنظامين الإيراني والعراقي قضت ذلك، واليوم عادت التجربة نفسها في كركوك وكيف غضّ الأمريكيون النظر عن جحافل الحشد الشيعي العراقي والإيراني باحتلالهم كركوك ومناطق عديدة من إقليم كردستان رغم كلّ ما قدمه البيشمركة من تضحيات في حربهم على الإرهاب الداعشي .
وهكذا نلاحظ أن من يتحكّم بتغيير الخرائط السياسية هي القوى المنتصرة في الانهيارات الدولية الكبرى (الحربين العالميتين – انهيار منظومة الاتحاد السوفييتي).
وبالعودة إلى الواقع الجيو/سياسي للشرق الأوسط اليوم نلاحظ أن بوادر الإنهيار للمنظومة الدولية المرسومة قبل قرن قد تصدّعت وتنذر بتحولات كبيرة لدرجة أصبحت كلّ دولة تعاني مشاكل واضطرابات داخلية كبيرة لدرجة وقفت آلة القمع في تلك الدول عاجزة عن لجمها واندفاع شعوبها للتحرّر، مما دفعت والحالة هذه بالقوى الدولية التي تتحكّم بمفاصل القرار الدولي( روسيا –أمريكا) للتدخّل مباشرة لوقف التدهور الحاصل ومنع الانهيار ومن هنا نفهم لماذا عارض الجميع الاستفتاء الذي حصل في كردستان العراق كي لا يتحوّل هذا الاسلوب الحضاري السلمي الممارَس من قبل الشعب الكردي إلى سابقة يقتضي بها العديد من الشعوب التي تسعى إلى التحرر وتغيير الخرائط ضاربين عرض الحائط كلّ قيمهم عن الديمقراطية وحقّ الشعوب في تقرير المصير, لكن ومع ذلك فإن كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ كلّ جهودهم في وقف عجلة التدهور للمنظومة السابقة لم يكن بالأمر السهل وأن الرياح تنذر بعواصف كبيرة في الشرق الأوسط وخلق حالة مستدامة من عدم الاستقرار ومن الدول الفاشلة وعندها يصبح تغيير الخرائط السياسة أمراً لابدّ منه، والمهمّ من كلّ ذلك أن نكون لاعبين نشيطين في الحلبة لا متفرّجين.
هذا هو السؤال الكبير؟؟..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى