من الصحافة العالمية

حرّر ومرّر، ثم تخلى عن الأهداف الكُبرى

حســــين جلبــــي
يشبه إعلان الوحدات المسلحة، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الإنسحاب من منبج في نتائجه إعلان المنظمة الأم، حزب العمال الكُردستاني تخليها عن شعار تحرير وتوحيد كُردستان، الذي رفعته لعدة عقود واستمدت شرعيتها منه، وذلك قبل النزول إلى مستوى هدف متواضع هو العمل على تحقيق الديمقراطية لتركيا، لا زالت تخوض الحروب نفسها من أجل تحقيقه، رغم أن مثل هذا الهدف يجري تحقيقه عادةً بوسائل أُخرى.
رغم إعلان الاتحاد الديمقراطي بإستمرار، جهاراً نهاراً بأن لا مشروع قومي كُردي له، وبأنه كرس نفسه لمحاربة تنظيم داعش في كل مكان للوصول إلى تحقيق الديمقراطية لسوريا، عملاً بمشروعه في تحقيق “الأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب” الذي طرحه منذ بدايات عودته إلى سوريا، قبل أكثر من خمس سنوات بعد طول ملاحقة وغياب، إلا أن غموض الطرح أو قصوره، قد أطلق العنان، عمداً أو بحسن نية لخيال الكثيرين لرسم صورة أُخرى مغايرة للحزب ومسؤوليه، مفادها امتلاكه أجندة خفية كُبرى يتواضع عن الجهر بها، تقوم على الربط بين منطقتين كُرديتين رئيستين في شمالي سوريا، هما كوباني وعفرين، اللتين يفصل بينهما مدن وبلدات وتجمعات سكانية عربية، وذلك لإستكمال تحقيق فيدرالية روجآفا ـ شمال سوريا المعلنة من مركز التجمع الكُردي الكبير الثالث في القامشلي، تلك الفيدرالية التي تتعايش مع “مشروع الكانتونات الثلاث” المعلن من قبله أيضاً، وقد وصلت حسب خرائط مفترضة، علقها الحزب على جدار ممثلية إفتراضية له في موسكو، من نهر دجلة في الشرق إلى البحر الأبيض المتوسط في الغرب، بموازاة الشريط الحدودي السوري التركي، حتى أن هذا الشعار القومي الإفتراضي الذي لم يعلنه الحزب، لعدم وجوده أصلاً جذب أحياناً أشخاصاً من خارج البيدا، عبروا عن موافقتهم الضمنية على مقتل مئات الشبان الكُرد بعيداً عن ديارهم، خلال زحفه على مدن غربي نهر الفرات العربية، وسكوتهم من جهة أُخرى على القمع الذي يمارسه بحق الكُرد، والذي تجلى مؤخراً بإحتجاز عشرات النشطاء والحزبيين.
وإذا كانت تركيا قد وضعت حداً لزمن الشعارات الكُبرى التي رفعها حزب العمال الكُردستاني، بعد القبض على زعيمه عبدالله اوجلان وسجنه في جزيرة “ايمرالي” قبل خمسة عشر عاماً، فإنها نفسها هي من أيقظ البعض من “الأحلام الكُبرى” المبنية على تلك الشعارات التي أسقطها الحزب نفسه من أجندته، وذلك عندما أقدمت، أو دعمت الدخول إلى مدينة جرابلس بشكل مفاجئ، بعد ترتيب بيتها الداخلي وعلاقاتها الدولية، تلك العملية التي عادلت عملية القبض على اوجلان المذكورة، نظراً لما تبعها من نتائج، شكلت تخلياً عملياً من البيدا عن الشعارات التي خبأها البعض في أفواه مسؤوليه، أو إزاحةً للستارة عن الحقيقة التي رفض البعض تصديقها، فقد أعلن الحزب عن الإنسحاب من منطقة غربي الفرات، بما فيها مدينة منبج التي خاض مسلحيه معارك طاحنة ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فيها، والتي شكلت، إعلامياً على الأقل درة إنتصاراته الواضحة قبل أن تتحول إلى لعنة أصابته وسقفاً ما بعده إرتفاع، حيث بدا الأمر وكأن التحالف الدولي، بمجموع دوله، وبمفردها لا يستطيع الاستغناء عنه، ولا يستطيع سد أي طريق يرغب بسلوكه أمامه، لذلك تحديداً كان سؤال الثمن المرتفع الذي دفعه الحزب “لتحرير منبج” في الأوساط الكُردية نوعاً من الخيانة، نظراً إلى الوعود الكبرى الغير معلنة، التي جسدتها الخريطة العاطفية التي رفعها على جدارٍ داخلي في موسكو، إذ ورغم تنكر الأخيرة لحقيقة المكان فقد بدت الخسائر البشرية الكُردية الباهظة أمامها، وعمليات القمع التي يمارسها بحق المواطنين الكُرد، والتي أدت إلى هجرة واسعة أشياء لا تستحق الذكر.
لقد استيقظ الكثيرون على حقائق أُرغموا، أو أرغموا أنفسهم على وضعها جانباً وإهمالها، كان منها ما يتضمنه سؤال جوهري مفاده: كيف يمكن أن يكون لحزب البيدا مشروع قومي كُردي، أو حتى مروري خدمي لربط كوباني مع عفرين، في الوقت الذي لم ينجح فيه، أو لم يعمل على ربط حيين شعبيين كُرديين، هما الهلالية والعنترية يقعان في شرقي وغربي القامشلي مع بعضهما البعض من الناحية المرورية على الأقل، بحيث لا يعترض حركة السير بينهما شرطي من دائرة المرور العامة، يحمل صفارة ومسدس من نظام الأسد، هذا عدا عما يفصل بينهما، ويقطع أوصال المدينة عموماً من عشرات من حواجز نظام الأسد والميليشيا التابعة له، وأفرع مخابراته ومؤسساته ودوائره، مع عدم نسيان تمثال حافظ الأسد، الذي يقبع في وسط المدينة، والحال لا يختلف في مدن وبلدات أُخرى، وآخرها الحسكة، التي لم يؤدي النصر المعلن فيها إلى إلغاء مظهر واحد من المظاهر السيادية لنظام الأسد، من محافظة، قيادة شرطة المحافظة، فرع حزب البعث وأفرع المخابرات وغير ذلك من دوائر ومؤسسات، بحيث يمكن القول بأن الأمر أدى بالنتيجة إلى خلق نموذج القامشلي المريح للنظام هناك، بعد تسليم الحراسات في المدينة إلى الآسايش، وهي الذراع الأمنية للبيدا.
لقد انعكست “عمليات التحرير” وبالاً على الكُرد، فبالإضافة إلى عودة النظام مقنعاً لإستلام المناطق المحررة بدماء مئات الشبان الكُرد، كان يجري ملاحقة المزيد منهم لحشدهم للمعارك الجديدة التي لا تنتهي، وزيادة منسوب القمع لذويهم، ويمكن القول بأن حزب الاتحاد الديمقراطي حرر مدن وبلدات سورية بدماء الكُرد، ثم سلمها إلى أهلها أو من فرضهم عليهم وانسحب منها، إلا المناطق الكُردية السورية، إذ لا هو حررها ولا سلمها إلى أهلها.
أورينت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى