آراء

في ضرورة التحرر من حركات التحرر

هوشنك أوسي
وفق التعريف التقليدي لمفهوم التحرر الوطني، أنه مرتبط ارتباطاً عضويّاً وجوهريّاً مع وجود حالة احتلال خارجي، مباشر، تسعى مجموعة سياسيّة ما، إلى التخلّص منه، وإزالة آثاره المباشرة وغير المباشرة، سواء عبر النضال السلمي أو العنفي، وصولاً لتحقيق السيادة الوطنيّة الكاملة. وفي الإطار العام لمرحلة التحرر الوطني هذه، تندرج عمليّات التحرر الاجتماعي والثقافي، من آثار ومخلّفات الاحتلال، وكل ما يقيّد حركة الفكر والمجتمع والإنسان. وعليه، لا تكتمل عمليّة التحرر الوطني، بمجرد زوال الاحتلال، إنما بتحقق التحرر الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي والثقافي.
وبزوال الاحتلال، واستلام حركة التحرر السلطة، أو مع إسقاطها صفة الاحتلال عن الأجنبي المسيطر على الوطن، أو مع إسقاط مهمّة تخليص الوطن من هذا الأجنبي، تفقد أيّة حركة سياسيّة تنحو هذا المنحى، صفة حركات التحرر الوطني. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، تجربة حزب العمال الكردستاني، الذي تأسس على مبدأ أن “كردستان مستعمرة من قبل أربعة أنظمة، وأن هذه الأنظمة، هي محتلّة، وينبغي الكفاح السلمي والمسلح ضدها، وصولاً لتحقيق وحدة واستقلال وحريّة كردستان”، وبعد اعتقال زعيم الكردستاني عبدالله أوجلان سنة 1999، أسقط الحزب هذا الشعار، وبل صار يحاربه، ويشيطن الدولة القوميّة الكرديّة، ويتبنّى نظام إداري، محلّي، أدنى من الحكم الذاتي، إلى جانب أن الحزب لم يعد يعتبر النظام التركي قوة احتلال. زد على ذلك، الحزب تحوّل إلى سلطة فعليّة في مناطق كردستان تركيا وكردستان سوريا. مجمل ذلك، يقودنا إلى نتيجة مفادها أن الكردستاني، أسقط عن نفسه صفة حركة التحرر الوطني التي تأسس بموجبها.
ينسحب الأمر على منظمة التحرير الفلسطينيّة، حين وقّعت على اتفاقيّة أوسلو، وما تنصّ عليه من إلزام المنظمة بشطب بند “إزالة إسرائيل، وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر” وكل ما هو متعلّق بذلك. والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود على 78 بالمئة من الأراضي الفلسطينيّة.
من دون أن ننسى بأن هنالك فارق بين مفهوم الحركات الوطنيّة، وحركات التحرر الوطني، على ضوء ما تمّ ذكره آنفاً، لجهة أن الحركات الوطنيّة ترفض أية علاقة مع الأجنبي، تقودها للسلطة، بينما حركات التحرر الوطني، لا تجد حرجاً في ذلك، حتى ولو كان هذا الأجنبي نظاماً قمعيّاً استبداديّاً، يضطهده شعبه.
باعتبار أن لحركات المعارضة بريقها وسحرها، لجهة انتقادها فساد واستبداد السلطة، بخاصة، لو كانت سلطة احتلال، أو تابعة لها، فإن فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي السابق وأمريكا، كانت مرحلة انتعاش واستشراء لأحزاب وتيّارات، زعمت أنها حركات تحرر وطني. وحقق العديد من هذه الحركات، الكثير من أهدافها، ووصلت للسلطة، عبر إطاحتها بسلطة الاحتلال، كما في الجزائر، أو سلطة تابعة للأجنبي، كما في كوبا. لكن هذه الحركات، أسست لنظم دكتاتوريّة، مارست على مدى عقود، “فاشيّة حزبيّة وطنيّة أو محليّة” إن جاز التعبير، بحق معارضيها، واستمرّت في هذا السلوك على مدى عقود، وانزلقت نحو التوريث الملكي، كأنظمة: القذافي، وحافظ الأسد وابنه، زين العبادين بن علي، علي عبدالله صالح…، ونظام كم إيل صونغ في كوريا الشماليّة، وفيديل كاسترو في كوبا.
مؤدّى ما سلف ذكره؛ إن سحر المعارضة اليساريّة الثوريّة، أو القوميّة العلمانيّة، اتضح زيفه، عبر ما أفرزته وأنتجه هذه المعارضات من نُظم قمعيّة بوليسيّة، ليس في العالم العربي وحسب، وبل في مناطق أخرى من العالم. ولعل الضربة الأولى باتجاه فساد واستبداد ما سمّي بحركات التحرر الوطني، التي تحوّلت إلى أنظمة “الاستقلال الوطني”، كان انهيار المنظومة الاشتراكيّة ودول حلف وارسو وسقوط جدار برلين. ومع ذلك، بقيت نظم طغيانيّة استبداديّة حاكمة، تستند إلى مقولات التحرر الوطني، ومحاربة الأجنبي، وبناء الديمقراطيّة الشعبيّة…، كما في الصين، كوريا الشماليّة وكوبا…!. بمعنى، جرّبت الشعوب المضطهدة سلطة الاحتلال، وسلطات حركات التحرر الوطنيّة، التي حكمتها، بعد زوال الاحتلال. بحيث غدت السلطة محكّ كل الآيديولوجيات المعارضة وامتحان سحر وبريق شعاراتها التحرريّة الوطنيّة. وبل يمكن القول: إن السلطة، كانت بمثابة المحرقة لكل الحمولة الرومانسيّة التي كانت تنطوي عليها شعارات حركات التحرر الوطني المنادية بالديمقراطية والحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة، التي كانت تتجاوز حدود الوطن، لتصل الى تحرير العالم من الامبرياليّة والظلم القومي والطبقي، والتضامن مع الشعوب المضطهدة ضد أنظمة القمع والاحتلال.
في التجربة الفلسطينيّة، جرّب الشعب الفلسطيني، سلطة الاحتلال الإسرائيلي، وسلطة حركتي “فتح” و”حماس” في كل من قطاع عزّة والضفّة الغربيّة. بحيث أسقطت السلطة، سحر وبريق كل الشعارات الآيديولوجيّة، عن هاتين الحركتين، وكشفت حقيقتيهما حيال الاستماتة في الاستحواذ على السلطة. مضافاً لما سلف، تجارب حركات التحرر الوطني، بشكل عام، كشفت عن زيف ادعاء الوقوف في وجه الأنظمة الظالمة، مهما كانت هويّتها القوميّة أو الدينيّة. بدليل، علاقة فصائل منظمة التحرير الفلسطينيّة مع النظم الاستبداديّة في كل من سورية، العراق، ليبيا، تونس، مصر، إيران وتركيا… وأنظمة استبداديّة أخرى. وفي السياق ذاته، كشفت انتفاضات الشعوب الشرق أوسطيّة في السنوات الأخيرة، مدى انزلاق أحزاب وتيّارات زعمت أنها حركات تحرر وطنيّة، ومنها الكثير من الفصائل اليساريّة العربيّة والفلسطينيّة، نحو الوقوف إلى جانب الأنظمة القمعيّة، ضدّ ثورات شعوبها، بحجّة أن البديل سيكون التيّارات الإسلاميّة. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، ثورة الشعب السوري، الذي قدّم للقضيّة الفلسطينيّة آلاف الشهداء.
ومعلوم، أن موقف الكثير من قيادات منظمة التحرير الفلسطينيّة وحركتي “فتح” و”حماس” من القضيّة الكرديّة، سواء في سورية أو تركيا او العراق، كان وما زال خاضعاً لاعتبارات علاقة ومصالح الحركات الفلسطينيّة مع الانظمة الحاكمة التي تقمع الكرد وتهضم حقوقهم في هذه البلدان، ولم يكن هذا الموقف خاضعاً لاعتبار ما تمليه مبادئ التحرر الوطني على هذه الحركات والقيادات؛ من تضامن ودعم كامل لحقوق الشعب الكردي المشروعة، كائن من كان الظالم!. علماً ان الكرد أيضاً، قدّموا مئات الشهداء للقضيّة التحرريّة الفلسطينيّة.
أضف إلى ذلك، لا يستقيم تبنّي أيّة حركة يساريّة أو قوميّة، علمانيّة، ليبراليّة، شعار أو مفهوم التحرر الوطني، مع وجود خلافات جديّة وجوهريّة، تأخذ طابعاً ضدّيّاً عنفيّاً وعدوانيّاً، مع حركة أخرى، ترفع نفس الشعار، وتتبنّى نفس البرنامج. وبالتالي يغدو صراعها الداخلي، البيني، موازٍ أو يتجاوز صرعها الاستراتيجي الذي من المفترض أنه مع العدو – المحتلّ للوطن. الفصائل الفلسطينيّة والكرديّة نموذجاً.
اعتقد أن شعارات حركات التحرر الوطني، ما عادت تغري وتجذب الجماهير، وسط التطورّات المتلاحقة والمتسارعة. وما أصاب هذا المفهوم أو الشعار في مقتل، ليس فقط التجارب الفاشلة والدمويّة التي أنتجتها هذه الحركات، بعد استلامها للسلطة، بل وقوفها إلى جانب نظم استبداديّة فاسدة، بغية حماية مصالحها مع هذه النُظم، ورفضها مظالم وقضايا وحقوق الشعوب التي كانت ضحيّة هذه الأنظمة. واعتقد أن استشراء الفاشيّة الدينيّة التكفيريّة، والإرهاب الوحشي الذي تمارسه الحركات الإسلاميّة، لا يصلح مطلقاً لأن يكون منصّة لرومانسيّة سياسيّة حالمة تعيدنا لاجترار تلك الشعارات التي انبهر بها ملايين البشر في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، وناضلت من أجلها، وأصيبت هذه الجماهير بالصدمة، بحيث صارت بحاجة إلى من يحررها من سلطة واستبداد حركات التحرر الوطني التي حولّتها السلطة ومغانمها الى حركات الاضطهاد الوطني الاستعباد الوطني.
على ضوء ما سلف ذكره، التجربة الكرديّة والفلسطينيّة، ومثيلاتهما من التجارب الشرق أوسطيّة، من الخطورة بمكان أن تدفعها غلواء الإرهاب الإسلاموي التكفيري المتفاقم في المنطقة للحنين إلى خرافات وأوهام شعارات حركات التحرر الوطني، التي انتجت نظماً قمعيّة، كانت الحاضنة للإرهاب التكفيري الذي يشهده الشرق الأوسط والعالم العربي حاليّاً. بمعنى، الخطوة الأولى في أيّة مرجعة نقديّة لتجارب حركات التحرر الوطني، فلسطينيّةً كانت أم كرديّة أو شرق أوسطيّة، هي التحرر من كل تقاليد وإرث وخرافات وأوهام وشعارات هذه الحركات التقليديّة، وبلورة تصوّر أو فهم جديد لحركة تحرر وطني، قادرة على استيعاب هموم ومشاكل وقضايا المواطن المعاصرة، بعيداً من الهمروجات والخزعبلات التقليديّة السابقة والحالمة التي كانت تخدّر بها الحركات الآيديولوجيّة الشعوب، كي تجعل منها حطباً أو وقوداً في محرقة الوصول للسلطة. هذه السلطة التي حولّت الشعوب إلى قطعان من المساجين، وجعلت من الأوطان سجوناً متلاصقة، يتوارثها قادة هذه الحركات. إذ لا يمكن لأيّة حركّة سياسيّة تزعم التحرر الوطني، سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، مع تكريسها نفسها كسلطة آبدة، وتفرض زعيمها قائداً أو ملهماً أو معلّماً أو مرشداً أبديّاً.
ومع تغيّر مفهوم الاحتلال، من الخارجي إلى الداخلي، اعتقد أنه تغيّر مفهوم التحرر الوطني أيضاً، بحيث غدت  ضرورة الخلاص من الاحتلال الداخلي، تتقدّم على الخلاص والتحرر من الاحتلال الخارجي.
 

المركز الكردي السويدي للدراسات
 
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي يكيتي ميديا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى