من الصحافة العالمية

تركيا ما بعد العاصفة

محمد رمضان

لم يكن في المشهد الانقلابي التركي شيئاً يدعو للدهشة والغرابة سوى المدة الزمنية القصيرة التي أعلنت فيها الحكومة الشرعية بكل ثقة فشل الانقلابين، الأمر الذي أدى إلى فتح باب الاحتمالات والشكوك عن ماهية الانقلاب ، حتى وصل الحد إلى تشكيك بالرئيس نفسه ، واتهامه صناعة مسرحية هزلية سمجة كي يتسنى له احتكام القبضة على المفاصل الدولة التركية ،
بما فيه المؤسسة العسكرية التي تعيش حالة من الانفصام وعدم الانسجام مع توجهات حكومة العدالة والتنمية منذ توليه السلطة، وبالفعل ما أن تم إعلان فشل الانقلاب بدأت حملة اعتقالات واسعة ، كما لو أن الأسماء كانت معدة سلفا،ً وجاءت في المقدمة مؤسسة القضائية والعسكرية وتلاها المؤسسة الإعلامية تباعا ، فالانقلاب الافتراضي بكل حيثياته و افتراضاته يجسد حالة الفشل السياسات التركية حيال الأزمات التي عصفت بمحيطه الإقليمي في سوريا والعراق ، وامتدت انعكاساتها على العلاقة الروسية التركية التي عادت إلى نوع من التطبيع بعد إراقة ماء الوجه ،وكذلك باتت تصريحات الأوربية تحمل طابع التشفي والاستخفاف نحو تركيا، . أذن .:الدولة التركية كانت تعيش حالة الغليان والاحتقان قبيل ما سميت بالانقلاب العسكري الفاشل، ولو افترضنا جدلا أن الانقلاب كان جادا وعلى غفلة من النظام ،فأن المستوى المتدني لقادة انقلاب في السلك العسكري تدعونا إلى الاعتقاد بأن حكومة العدالة والتنمية في نظر الأتراك على قدر الكبير من الهشاشة والضعف لدرجة تفتفت شهية مثل هؤلاء القيادات حيال اختلاق فوضى، وكما لو أن رئيس الدولة بمثابة أي دكتاتور مر ذكره في التاريخ ، وبالتالي فان أي اختلال والنيل من هيبة السلطة القمعية سوف تدفع الشعب إلى الشارع والمطالبة برحيل النظام، كما حصل في دول ما سميت الربيع العربي ،ولكن حصل العكس أي أن الشعب التركي احتل الشوارع في وجه المدرعات التي استغلها الانقلابيين بعد بضعة عبارات مقتضبة من الرئيس المزمع الانقلاب عليه ومحاكمته بتهمة الخيانة على حد تعبير البيان الانقلاب ، فمن الناحية الظاهرية يعتبر هذا الأمر انتصارا منقطع النظير للرئيس التركي الذي يحاول بشتى الوسائل إلى صناعة الكاريزما ،وتقديم نفسه للعالم بهيئة الزعيم المحبوب ،والحريص ليس على شعبه فقط أنما على الأمة التركية والإسلامية، ولكن عمليا هذا الأمر يزيد من حدة التناقضات الجادة أصلا ،فالزعيم المحبوب يناصب العداء للمؤسسة العسكرية التركية التي تعتبر نفسها الحارس الأمين لأرث الدولة الكمالية والديمقراطية من ناحية ورمزا للدولة التركية ،وكذلك يناصب التحامل على المؤسسة القضائية التي ينظره « أي الزعيم » تحتاج إلى حملة تصفية لتشت الوالاءت والاختراقات ، وبوجهة نظره أيضا تساهلت مع محاولة انقلابية سابقة، وفي خضم هذه المعمعة لا يخفي على أحد بأن جل المدنيين الذين افترشوا الشوارع التركية كانوا من القومية الكردية، والذين بدورهم تنظر مقابل جليل من الزعيم، في حين الزعيم لا يزال يجد الحرج في ذكر القومية الكردية صراحة إلا تحت الضغط التناقضات التي يصنعها بنفسه ، ولعل المتأمل في الاجتماع الطارئ للمجلس الأمة التركية صبيحة الليل الانقلابية يستغرب في الكثير من الأمور، أولا
اتسم الاجتماع بالعاطفية والمجاملات، والمحاولة على أظهار التعايش و التأخي والتلاحم بصورة غير معهودة في الجسد السياسي التركي ،ولعل ابرز هذه الأمور الأقرب إلى الكرنفالية الغريبة، وهو قول بن علي يلدرم( ليس بغريب عن أحفاد محمد الفاتح وأحفاد صلاح الدين الأيوبي أبدا هذه البطولات) اي يقصد بالبطولة هي النزول إلى الشوارع والوقوف في وجه المدرعات الانقلابية التي عاد إلى الأذهان المشاهد الثورية التي حصلت في بعض البلدان العالم سابقا ، ووجه الغرابة في الموضوع هي بداية ظهور مفردات جديدة في الخطاب السياسي للأتراك والقفز إلى ما وراء مؤسس تركيا الحديثة «كمال مصطفى اتاتورك» والأكثر غرابة أن يتم مخاطبة الكرد بهذه الصيغة التي تحمل نوع من التمجيد و الافتخار غير المعهودة ،. أذن :فشل انقلاب ليس أقل وطئه وثقل من نجاحه مقارنة بالأعباء المهولة التي أثقلت كاهل الرئيس وحكومة العدالة والتنمية داخليا وخارجيا ،وفي مقدمتها استحقاقات القضية الكردية في تركيا، والحال عليه مصير عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، . وتورطه في المطالبة بترحيل المعارض التركي «فتح الله غولن» من ولايات المتحدة الأمريكية وتبعات هذا الأمر ومغبة الصدام مع المزاجية الأمريكية التي تستثمر أبسط الهفوات مع غرمائه وحلفائه، ويبقى كيفية التعامل مع ملف حقوق الإنسان في ظل التصفيات والاعتقالات أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد ، كونها طالت رموز كافة المؤسسات ذات صفة السلطوية كالقضاء والإعلام ،. وخارجيا لعل في المقدمة المشروع الذي يمضي فيه وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الجناح السوري من حزب العمال «تركي» على حدودها الجنوبية مع سوريا ، وسوف يكون من الصعوبة بالمكان والزمان استغلال الهفوات والتجاوزات التي ترتكبها هذه الميليشيا بحق المدنيين كون التشدق بالعبارات الدالة على حقوق الإنسان بات أمرا مثيرا للشفقة والاستهزاء حين ينطق بها حكومة مدنية تحاول العودة إلى الوراء وإعادة المصادقة على عقوبة الإعدام بحق خصومهم على مختلف مسمياتهم، سواء كيان سياسي موازي كما أختلق أو كيان عسكري ضارب الجذور في عمق الدولة التركية الحديثة
القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى