آراء

من “استقلال كوردستان” إلى “تحرير أوجلان”؟ (1)

جان كورد
2015-03-21
مجموعة صغيرة من طلاب الجامعة في أنقره, من الكورد والترك, ومن أبناء العمال والفلاحين وصغار الكسبة الطامحين في حياةٍ أفضل تتبلور في شكل تنظيم سياسي معارض, من خارج المجموعة المرخصّة قانونياً, إلاّ أنها مخترقة منذ البداية من قبل الأجهزة الاستخباراتية، على حد قول الزعيم عبد الله أوجلان نفسه، عن طريق (ضابط طيار!) وعن طريق الفتاة (كسيرة) التي يعمل والدها لصالح تلك الأجهزة , والتي تصبح فيما بعد زوجة رئيس الحزب, حزب العمال الكوردستاني, الذي يتحوّل خلال أقل من عقدٍ من الزمن في أواخر سبعينيات القرن الماضي إلى أقوى وأكبر حزب سياسي كوردي, حزب العمال الكوردستاني, الذي تمكّن من القضاء على جميع منافسيه من الأحزاب والقوى الوطنية والديموقراطية الكوردية, في شمال كوردستان (ما يعرف بكوردستان تركيا). فهذا يتطلب فعلاً نقاشات واسعة ويحتاج لدراسات أكاديمية, وتحليلاً عميقاً, ولا يمكن لمقالاتٍ متواضعة مثل مقالنا هذا أن تلمّ بالظروف التي تولّد ونشأ وترعرع فيه هذا الحزب, في مرحلة التكوين والتشرّب الفكري للأفكار الماركسية – اللينينية بدايةً, في تركيا التي تعتبر نفسها جزءاً من نظام العالم الحر الديموقراطي ولكنها في الحقيقة ذات نظام عسكري قمعي وصارم, تشهد له الانقلابات التي قام بها الجنرالات مراتٍ عديدة على النظام البرلماني, ومن بعد نشوء الحزب لدى انتقاله إلى مرحلة المقاومة الباسلة لكوادره في المعتقلات العسكرية الرهيبة ما بعد انقلاب الجنرال كنعان إيفرين في عام 1980 وبالتالي في مرحلة الانتشار في العمق الكوردستاني, بين مختلف فئات الشعب الكوردي وطبقاته وطوائفه, كما تنتشر النار في الهشيم, ومن ثم ظهوره كمنقذٍ للأمة الكوردية المجزّأة الضعيفة الطامحة للحرية والاستقلال, في مرحلة اللجوء إلى الكفاح المسلّح التي بدأت في عام 1984, أي بعد عدة سنوات فقط من نشوء الحزب, ضد الدولة التركية ذات الجيشٍ الكبير والعضو في أكبر حلف عالمي (الناتو)…
إن هذا الصعود السريع لحزب العمال الكوردستاني وتألق نجمه على كافة الصعد السياسية والتنظيمية والمالية والإعلامية والقتالية يحيّر عقول النوابغ السياسية في الشرق الأوسط ويثير قلق الحكومات التي تقتسم كوردستان: تركيا, إيران, العراق وسوريا… ويبدو الأمر برمته كمعجزةٌ كبيرة في ظروف الوطن الكوردي “كوردستان” التي تتسم بالتخلّف والجهل والنزاعات الداخلية الحادة وسيطرة العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية المتخلفة عن العصر, وتتكالب على ثرواتها الدول المقتسمة لها وتبث في المدارس والمعابد والقوات المسلحة والأحزاب بين صفوف شعبها على الدوام أفكار اليأس والدونية والإحباط و”ترك الدنيا” و”عدم الخوض في السياسة” و”الثقة المطلقة في تفوق العنصر التركي أو العربي أو الفارسي السائد, في كل مجالات الحياة السياسية والثقافية, وقبل كل شيء “احترام حقها في السيادة الأبدية وخضوع العنصر الكوردي لقدره!”, بل إن الأمور كانت قد وصلت قبل ظهور هذا الحزب إلى درجة انتشار فكرة خطيرة للغاية وبعمق بين الشعب الكوردي من جراء طوال عمر “التصوّف” في العهد العثماني, مفادها أنه ب”قيام الدولة الكوردية سيأتي يوم القيامة ونهاية العالم…!”
ولكن , ليس في السياسة معجزات, وإنما طفرات نوعية في تسلسل الأحداث الرتيبة, يصعب فهمها بمعزل عن أبعادها الدولية والإقليمية والوطنية.
إلا أن التحولّ السريع للحزب, بعد كل تلك الجهود والتضحيات الجسيمة والمآسي الكبيرة التي تعرّض لها شعبنا نتيجة الحرب الرهيبة, إلى حامل راية السلام والديموقراطية, بعد أن فجّر ثورةً عارمة اعترف بوجودها البعيد والقريب من أعداء الكورد وأصدقائهم بعد اختطاف رئيسه في أواخر التسعينات, وهو في ذروة عنفوانه وبين أياديه السلاح الذي يدافع به عن وجوده على أرض وطنه, يتطلّب التمعّن بإنصافٍ وموضوعية فيما جرى ويجري على الساحات الكوردستانية والإقليمية والدولية لنتمكّن من فهم الأسباب الأهم في تحوّل حزبٍ كبيرٍ وقوي كحزب العمال الكوردستاني من “استقلال كوردستان إلى تحرير أوجلان!”…
لقد كانت تركيا في سبعينيات القرن الماضي حبلى بالثورة, حيث أن الشباب كان قد فقد الأمل تماماً في قيام حركة إصلاح للنظام الآتاتوركي الذي ساده الفساد على أيادي زعماء الأحزاب البورجوازية الحاكمة والمعارضة, والجيش الذي كان من واجباته حماية الشعب والدولة كان قد تحوّل إلى أداة للقمع السياسي وعصا بأيادي اليمين المتطرّف لضرب وتصفية التيارين اليساري والإسلامي في البلاد, إضافة إلى تصرّفه كجيش احتلال في المنطقة الكوردية, في جنوب شرقي البلاد, حيث قضى في أقل من نصف قرن على ثوراتٍ كوردية متتالية بوحشية لامثيل لها, وسعى على الدوام أن لا تحدث أي ثورةٍ كوردية أخرى بعدها. وتضافرت جهود الأحزاب الكلاسيكية والمنظمات اليمينية الطورانية والجيش ومختلف الأجهزة الأمنية لإجهاض ما تحمله تركيا من حراك شعبي كبير يهدف إلى التغيير وبناء تركيا حديثة , وكانت الضربات القوية لهذا الحلف على الشعب الكوردي أكبر وأكثر مما كان عليه الوضع في أي منطقةٍ أخرى من البلاد.
وعلى أثر انهيار ثورة أيلول المجيدة (1961-1975) في إقليم جنوب كوردستان (كوردستان العراق!), زادت نقمة الشعب الكوردي على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين خانوا قائد ثورتهم, البارزاني مصطفى, وساهموا بشكلٍ أو بآخر في عقد اتفاقية الجزائر المشؤومة في آذار 1975, وهذه النقمة الكبرى على “الامبريالية والرجعية والصهيونية ونظام آتاتورك” قد ساعدت في تبلور الأفكار العامة التي تولّد حزب العمال الكوردستاني في إطارها, سياسياً وآيديولوجياً, ومهّد عنف الدولة الطريق لنشوء حركات سرية أخرى, تركية وكوردية, اتسمت بحملها على الأغلب مبادئ الشيوعية ودعوة صريحة إلى مقاومة العنف بالعنف.
تمكّن حزب العمال من التقدّم في ساحة شمال كوردستان , لأسبابٍ عديدة, ومنها المقاومة البطولية الخالدة لمجموعة الكوادر التي في مقدمتها مظلوم دوغان, الشاب الذي لن تزول ذكراه من ذهن الشعب الكوردي, وترك وراءه عبارةً خالدة تعكس التضحية والرسوخ في الموقف رغم التعذيب حتى الرمق الأخير والحرق بالنار, حيث هتف في وجه النظام الآتاتوركي بجرأة (في المقاومة حياة).
إن الجريدة المركزية لحزب العمال الكوردستاني (سرخوبون – الإستقلال) ومجلة (به رخودان – المقاومة) اللتين بدأتا تصدران في مدينة كولن الألمانية على أثر الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان إيفرين في عام 1980 لتطهير تركيا من “الوباء الأحمر” ومن “النزعة الانفصالية في شرق البلاد” قد ساهمتا في اجتذاب عددٍ كبير من الشباب الكوردي إلى صفوف الحزب في الدول الأوروبية , مثلما كان تأثير أغاني وأناشيد الفنان الشهير شفان برور في الشعب الكوردي بأسره, وبخاصة في غرب كوردستان (كوردستان سوريا!) والتي كانت في معظمها أشعار ثورية للشاعر الكبير جيكرخوين عن الحرية والاستقلال وتعكس مآسي الكورد وطموحهم القومي, حيث كان شفان قد ظهر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي كمغني لامع بين الكورمانج “الكورد الذين يتكلمون اللهجة الكورمانجية” وكملتزم بخط الثورة التي يدعو إليها حزب العمال الكوردستاني.
استطاع رئيس الحزب السيد عبد الله أوجلان المتأثر جداً بشخصية جوزيف ستالين الشيوعي والذي ينحدر من عائلة فقيرة في منطقة تابعة لمدينة أورفا بالقرب من الحدود السورية, وكان طالباً للعلوم السياسية في أنقره, أن يؤثّر في نفوس رفاقه بسبب قدرته على التحدث مطولاً في مختلف المواضيع السياسية, ولإيمانه العميق بأن أي حركة ثورية – سياسية كانت تحتاج إلى “زعيم” لا تقل أهميته عن “المرجعية الفكرية” لها, فقد عمل على تصفية الكوادر التي تنافسه ضمن الحزب على المركز الأوّل, سواءً أكانوا في داخل البلاد أو خارجها, في قيادات الحزب أو في الجمعيات التابعة له في الدول الأوروبية, وهناك معلومات مستفيضة بالتركية والعربية والكوردية عن حركة التطهير الحزبي هذه, التي كانت تجري في صفوف حزب العمال الكوردستاني باستمرار, بذريعة التخلّص من عملاء الحكومة التركية وتصفية العناصر غير المؤمنة بالثورة والمعادية للصفاء الآيديولوجي للحزب, وقد راح ضحية هذه التصفيات الجسدية أو السياسية عدد كبير من خيرة شباب الحزب وقادته وثواره.
وهكذا تحول شخص السيد عبد الله أوجلان إلى شخصية مركزية أساسية في البناء الحزبي, وخاصة بعد اندلاع الثورة التي بدأ بها الحزب في عام 1984 ودعمها الرئيس السوري حافظ الأسد لأسباب تتعلّق بالنزاع العراقي – السوري – التركي حول مياه نهر الفرات, حيث كان رئيس الحزب قد التجأ إلى سوريا في 4 تموز 1979 قبيل الانقلاب العسكري في تركيا, واستقر في لبنان الذي كان في حالة حربٍ أهلية بدأت في عام 1975.
وعليه يمكن القول بأن 3 شخصيات كوردية ألقت بظلالها على حزب العمال الكوردستاني منذ تأسيسه إلى حين اندلاع ثورته في عام 1984, ألا وهي:
– السيد عبد الله أوجلان بشخصيته الكاريزمية الستالينية
– كادر المقاومة الشاب مظلوم دوغان بتضحيته ومقاومته الخالدة
– المغني شفان برور الشهير بأغانيه وأناشيده التي هزّت أعماق الكورد واجتذبت الملايين
وإن أي محاولة لإنكار أو إهمال أدوار هذه الشخصيات في مسيرة حزب العمال الكوردستاني الذي تحوّل من مجموعة طلابية متمرّدة إلى أكبر فاعل سياسي على الساحة الكوردية محاولةٌ فاشلة وغير موضوعية.
لقد قضى الشاب مظلوم دوغان حامل شعار (المقاومة حياة) نحبه تحت التعذيب ومن ثم الحرق في معتقل (آمد) الرهيب, ليصبح رمزاً من رموز المقاومة الكوردية عبر العصور, وخرج المغني الثوري شفان برور من الحزب ليصبح أهم وأكبر فنانٍ كوردستاني ومثابر على نشاطه وكفاحه من أجل حرية شعبه, وبقي السيد عبد الله أوجلان, الذي تمكن من أن يجعل شخصه وكتبه وأقواله التي لا يمكن حصر التناقضات فيها مع الأسف أهم ما في الحزب من شخصيات وثوارٍ ومبادئ وأهداف سياسية, حتى صار المطلب الأساسي لحفلة نوروز الكبرى اليوم في 21/3/2015 التي حضرها أكثر من نصف مليون إنسان (كفى … لقائدنا الحرية), وإن أهم شعارات الحزب في السنوات الأخيرة هو (لا حياة من دون الرئيس), وعوضاً عن (عاشت كوردستان) يتم ترديد (عاش الرئيس آبو) في سائر المناسبات الحزبية, بل حتى أثناء دفن (شهداء الحزب) أينما كان, وتم إزالة كل ما يتعلّق بحرية الكورد واستقلال كوردستان من أدبيات الحزب, منذ اختطاف واعتقال رئيسه في 15 شباط عام 1999 في كينيا, وهو في بحثه المضنى عن ملجأٍ له عوضاً عن الالتحاق بثواره ورفاقه في جبال كوردستان, بعد أن خرج من سوريا تحت ضغط الحكومة التركية في عهد رئيس الوزراء بولند أجاويد الذي هدد الأسد بحرب وغزو إن لم يطرد السيد أوجلان من سوريا.
وصحيح أن حزب العمال الكوردستاني قد ظهر كحركة ثورية عاملة من أجل “استقلال كوردستان”, على الرغم من أن الحقيقة هنا ليست واضحة تماماً وتحتاج إلى مراجعة نقدية وتقييم تاريخي موضوعى, إلاّ أنه كان في إعلامه بين الشعب الكوردي أكبر مستهترٍ ب”الحلول البورجوازية غير الكاملة!” بل وأشرس مهاجم على فكرة الاكتفاء ب”الحكم الذاتي” الذي كانت تطالب به أحزاب جنوب كوردستان وشرقها, بل كان إعلامه ينعت تلك الأحزاب بالكابحة لجهوده الثورية على تحقيق “الاستقلال” الذي كان غامضاً وغير دقيق في مؤتمراته وبرنامجه وكتابات زعيمه التي رفعها الأتباع والأنصار إلى مرتبةٍ تذكرنا بأقوال ماو تسى تونغ في الحزب الشيوعي الصيني, وقدسوه مثلما يقدّس الطورانيون الترك زعيمهم مصطفى كمال.
وكما أن الظروف الدولية والمشاكل الإقليمية والأوضاع المأساوية في كوردستان قد ساعدت حزب العمال الكوردستاني, سياسياً وتنظيمياً وقتالياً, في تحقيق الانتعاش الضروري لنشوئه وتطوره, ومن ثم في دخوله في حربٍ ضد الدولة التركية, فإن تغيّر إطار الظروف والمشاكل والأوضاع ذاتها قد أرغم حزب العمال على تغيير استراتيجيته العامة, في محاولةٍ منه لإقناع الشعب الكوردي بأنه لا يزال طليعته الثورية المتقدمة وأن سياسته المتعارضة كلياً عن سياسته السابقة ليس إلاّ تطويراً لاستراتيجيته الأساسية, وليس انتكاساً أو تراجعاً عن أهدافه وقيمه ورؤاه.
نعم, إن حزب العمال الكوردستاني لا يزال قادراً – كما رأينا في ساحات (آمد) اليوم – على حشد مئات الألوف الكورد ليهتفوا في الشوارع والساحات بالحرية لزعيمهم عوضاً عن المطالبة بحرية شعبهم وباستقلال وطنهم، وليصفقوا لمطلب “رفض الدولة الكوردية القومية”، وكأن هذه الدماء التي سفكت منذ عام 1984 والدمار الذي لحق بالشعب الكوردي وبتركيا كان فقط من أجل “دمقرطة تركيا”، وليس من أجل تحقيق مطالب الشعب الكوردي القومية العادلة، ولكن إلى متى سيكون الحزب الذي يلحق برئيسه كيفما أراد قادراً على المضي في هذا السبيل، وإلى أي درجةٍ سيتمكن إعلامه من تغطية هذا التعرّي السياسي الكبير والتستّر على التخلّي عن الكورد وكوردستان، من دون أن يتعرّض حزب السيد أوجلان للاهتزازات التي قد تقصم ظهره، فهذا ما يجب الحديث عنه ومناقشته بموضوعية وباهتمام، لأن القضية متعلقة بالوجود القومي لشعبنا وليس بمصير حزبٍ من أحزابه فقط…
وسنتابع الخوض في هذا الموضوع الحساس في مقالٍ آخرٍ إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى