أحرار .. لا هراطقة التفكير الديني خارج الصندوق
د. محمد حبش
الرأي والرأي الآخر، والتعددية وحق الاختلاف، وحرية الرأي وحرية الكلمة، وحق التعبير، وإعذار المخالف، مصطلحات تُطرح اليوم على أساس أنها منجز غربي، وثقافة وافدة، بل يراها بعضهم لوناً من تمييع الحقيقة ومهادنة الكفار، وتشظي المجتمع.
تتجه هذه المقالة للتأكيد أنّ الاختلاف في الرأي مهما كان عميقاً هو سلوك إسلامي أصيل، وأنّ حق الناس في الرأي والاختلاف أمر جوهري أكد عليه النص الديني ودلّ عليه العقل السليم.
إنّ مبدأ إعذار المخالف منطق قرآني ونبوي في آن، وربما كانت أبلغ كلمة في التعبير عنه هي تلك القاعدة النبوية الذهبية التي قرّرها الرسول الكريم بقوله : للمجتهد إن أصاب أجرٌ وإن أخطأ أجرٌ واحد.
ويؤكّد عددٌ من أئمة الإسلام الكبار أنّ المجتهد مأجور مهما أدّى إليه اجتهاده، ولو وصل به اجتهاده إلى دينٍ غير الإسلام!! ولا شكّ أنّ هذا الموقف الشجاع هو مقتضى ظاهر الحديث الذي رويناه، وإن كان معظم أئمة الإسلام لا يقبلونه باستثناء الجاحظ والعنبري وعدد قليل من الأئمة.
وهنا أودّ القول إنّ هذه القاعدة الحضارية الذهبية تعرّضت للاغتيال تاريخياً، وضاقت بها صدور كثير من أصحاب القرار الديني الرسمي، ومضى هؤلاء في عكس حركة التاريخ حتى انتهوا إلى قواعد تتناقض تماماً مع هذا التوجه النبوي الحكيم، وتكرّس للرؤية الفكرية الأحادية المستبدّة في غالب الأحيان، حتى قرّرت قواعد مختلفة مثل:
من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار، قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علمٍ وقفوا، عليكم بالأمر العتيق فقد كفيتم، وكلّ خير في اتباع من سلف وكلّ شر في ابتداع من خلف، العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين!!.
ولا شكّ أنّ هذه الصيغ ونظائرها حالت دون تقدم الفكر ، وأحبطت المحاولات الرامية إلى تقديم إجابات جديدة للمسائل التي لم يعد يقنع فيها الخطاب القديم.
وقد مضى الاستبداد إلى ما هو أسوأ من ذلك حين قرّر أنّ أجر المخطئ المنصوص عليه إنما هو لمن أقرّ بخطأه أما من اختار رأياً ثم لم يرجع فيه إلى خيار الأمة (الذي هو خيار كل طرف من وجهة نظره) فإنه يصبح حينئذ جاهلاً مغروراً أو عميلاً مأجوراً، وتتوالى عليه من بعد الاتهامات المختلفة، وبذلك فإنّ سائر المخالفين هنا يُزجّون على دائرة التأثيم والتجريم والتخوين حتى يعودوا عن آرائهم، فإذا هم عادوا عن آرائهم ولزموا خيار المتغلّب فقد صاروا أهلاً لينالوا ثواب المخطئ وأجره!! وهو عنت لا يتصوّر أشد منه ولا أقسى، وهو يطفئ بضراوةٍ ضياء الإشارة النبوية الحكيمة إلى فضيلة الاجتهاد ولو كان خطأ.أحرار ..
وقد مضى الموقف السياسي من الاجتهاد إلى مزيدٍ من القمع والقهر، وسلّطت الأحكام القاسية الرهيبة تحت اسم مكافحة الزندقة، وتضمّنت هذه الأحكام السجن والصلب والسحل والقتل، وقد شهد تاريخ الإسلام عناء كبيراً لأهم رجال التاريخ الإسلامي كأحمد بن حبنل وابن تيمية وابن عربي وابن رشد والإمام البخاري وآخرون كانوا يُضطهدون لأسباب مختلفة وربما متناقضة في كثيرٍ من الأحيان تحت اسم الحفاظ على الدين وحماية الثوابت، ولا أشكّ أبداً أنّ الأيام التي حوكم فيها هؤلاء في ظلّ كهنوتٍ صارم تقوده سياسة مستبدة كانت أياماً سوداء في تاريخ الإسلام، وأرجو أن ندرك اليوم أنها كانت جرائم ينبغي التبرؤ منها أكثر مما هي ضرورات شرعية قضائية لم يكن ثمة بدٍّ منها.
ومن خلال متابعة سنة النبي الكريم فإنه يمكنك أن تقف مباشرةً أمام موقفه في إعذار الآخر المخالف، وهنا فإنني أكتفي بالإشارة إلى حديث الأحرف السبعة الذي أقرّ فيه النبي الكريم اختلافهم في قراءة القرآن الكريم، على الرغم من دقة المسألة وحساسيتها، وهنا فإنني أميل إلى رأي الزمخشري الذي قال فيه :إنّ القراءات تدور مع اختيار الفصحاء ورأي البلغاء، وهو ما ينسجم مع عبارتهم الواردة ألوف المرات بلا تحفظ في كلّ كتاب قراءات تحت عنوان: اختلف القرّاء في كذا…واختلفوا…واختلفوا، وهو في الواقع الأقرب إلى المنطق والعقل، مع أنّ التأويل المشهور هنا هو ردّ رأي الزمخشري ووجوب الجزم بأنّ سائر هذه الاختلافات والقراءات المتواترة ورواياتها وطرقها التي تزيد على ألف طريق إنما نشأت من وجوه أقرأ بها الرسول الكريم أو أذن بها، وهو ما لا يمكن قبوله إلا بقدر غير قليل من التعسف والتكلف.
قال عمر بن الخطاب سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبّرت حتى سلم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت. ثم قال: اقرأ يا عمر. فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت.
وهكذا فإنه بعد أن استمع إلى المتنازعين في القراءة أقرّ كلاً منهما في خياره ثم قال قولاً حكيماً ذا مغزى وحدوي فريد: اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا.
إن منطق الإعذار هنا يتناول مسألةً في غاية الدقة والأهمية إنها مسألة النص القرآني الذي هو جوهر وحدة الأمة ومستقبلها.
لقد ظلّ الفقهاء عبر التاريخ يختلفون ولكن يحترم بعضهم رأي بعض ويقول الشافعية الرأي عندنا كذا وعند السادة الحنفية بخلافه، وتقول الحنفية الرأي عندنا كذا وعند السادة المالكية بخلافه، وهكذا عند السادة الحنبلية والمالكية في إعذار محترم، يرسم ثقافة التواصل والتكامل، ويؤصل لثقافة السعة والرحمة وهو ما عبّر عنه الإمام العادل عمر بن عبد العزيز بقوله: ما أحبّ أنّ أصحاب رسول الله لم يختلفوا لو لم يختلفوا لم تكن توسعة.
وبالتأكيد فإنّ ثقافة الإعذار هذه هي التي أطلقت زند العقل ووفرت ظروف الاجتهاد حتى ملأت هذا المنجم الفقهي الغزير الذي ننعم به اليوم، ونكتشف فيه كثيراً مما نحتاجه ونأمله في إطار الفقه الإسلامي وحلوله ومعالجاته.
إن جولة في منجم الفقه الإسلامي الزاخر،تدعوك مباشرةً إلى إحياء ثقافة الإعذار واحترام الرأي والرأي الآخر، وهو ما يمهّد لقيام ثقافة إسلامية حقيقية لإطلاق مجتمعٍ يفقه مراد قوله تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً.
إنّ حشد الأقوال في المسألة الواحدة، وهو ما تراه في سائر الكتب الأمهات في عصر المجد الإسلامي، لا يراد منه بالضرورة السيرورة إلى رأيٍ واحد منها بوصفه أنه الحق المبطل لما سواه بل إنّ الهدف في المقام الأول الاطلاع على أداء الفقهاء الكرام والتخير من آرائهم بما يناسب الزمان والمكان ، والعمل في النهاية تأكيد على مرونة الشريعة ومسايرتها للأحداث ووعيها بالظروف والزمان والمكان، وتكوين مجتمع التسامح والاحترام، وهو المجتمع التي أتاح عبر التاريخ الإسلامي لكلّ هذه الآراء أن تتبيأ مكانها في جنة الفقه الإسلامي وتنال شرف الرواية والإسهام الفقهي في حلول المسائل على الرغم مما تحمله من اختلاف ظاهر، وهو طبيعة الحياة العلمية التي لا يتمّ الإبداع فيها إلا بعد أن يُتاح للعقل أن يقول ما يعتقده هدى وصواباً ونوراً مهما كان هذا الخيار مفارقاً لما تعتقده العامة:
ربّ قوم في اختلاف حول ذي حسنٍ يدقّ
يتجلى في اختلاف وهو في الواقع حـق
وفي الشأن السياسي فإنّ الأمة اليوم على سبيل المثال لا تزال تتنازع في شأن أحقية خلافة الرسول، وتنقسم الأمة إزاء هذه المسألة إلى شيعة وسنة، وربما أصبح موقفك السياسي من اختيار الرجل هنا هو الذي يقرّر موقعك من الإيمان من وجهة نظر كلّ طائفةٍ، مع أنّ قراءةً سريعة للمشهد التاريخي تؤكّد لك أنّ عدداً غير قليل من الصحابة كانوا غير موافقين على رأي الجمهور ببيعة أبي بكر، ومع ذلك فإنّ الأمة ظلّت تنظر إليهم باحترام شديد، ومن أبرز هؤلاء العباس بن عبد المطلب الذي كان يرى الخلافة في بني هاشم، وسعد بن عبادة وعمار بن ياسر والمقداد بن عمرو وخلف كلّ واحدٌ من هؤلاء عدد من الصحابة، ومع أنّ معظم هؤلاء دخلوا في البيعة فيما بعد؛ ولكنّ بعضهم ظلّ مصرّاً على رأيه الرافض ومات على ذلك كما هو الشأن في السيدة فاطمة التي ظلّت تصرّح برأيها في رفض البيعة لأبي بكر، وتتحدّث بجرأة عن موقفها السياسي المخالف، وماتت بعد ستة أشهر من دون أن تغيّر موقفها، وكان اجتهادها في مسألة الخلافة وكذلك فيeوأسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب وفاطمة بنت محمد مسألة مواريث الأنبياء عكس اختيار الموقف الرسمي للخلافة ولكنها ظلّت تحظى بأكبر قدرٍ من الاحترام في الأمة، وظلّت السنة والشيعة في أرجاء الأرض تغنّي للزهراء وتستشفع بها، ليت الملوك لها من جدكم نسب، من أجل فاطمة أكرم بفاطمة، من أجل فاطمة قد كرم النسب، وضريحها اليوم في البقيع قطعة طاهرة من الأرض هي مهوى أفئدة المؤمنين في الأرض.
والصحابي الكريم سعد بن عبادة، اختار موقفاً بالغ الصرامة حيال خلافة أبي بكر وعمر، ولم يكن يكتم رأيه في كلّ ميدان، وكان أشراف الناس في المدينة يستمعون إليه، ورسالته وكلماته دوّنت في ذاكرة الرواية وتناقلها الناس، ومع ذلك كلّه فقد ظلّ ضريح سعد بن عبادة في دمشق مزاراً كريماً في قرية المليحة بغوطة دمشق، يذكره الناس ببالغ الاحترام، على الرغم من موقفه الشديد في رفض بيعة الشيخين وقراره ترك المدينة إلى الشام غضباً وسخطاً من خلافة قريش.
من العجيب أن تمتلك الأمة القدرة على احترام المخالف قبل أربعة عشر قرناً وإعذاره مع موقفه في الرفض المباشر، ثم تجبن عن احترام من تبعه فيما ما ذهب إليه!!
المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 299