أما آن الأوان لاستقلال كوردستان؟
كفاح محمود
منذ أن أدغمت كوردستان بأجزائها الأربعة في دول لا ناقة لشعوبها فيها ولا جمل، وكل أنظمة حكمها ترعب الكورد وترهبهم من تبعات استقلال الجزء الذي تسيطر عليه تلك الدولة، وأنّ كوارث عظيمة ستنال شعب كوردستان، بل وقد ذهب البعض الى تأييدنا من منطلق حق تقرير المصير.
لكنه وفي أول محاولة جديّة للاستفتاء على الاستقلال، انبرى المؤيدون لحق تقرير المصير، وجلّهم من اليساريين والتقدميين والديمقراطيين، إلى إعلان خشيتهم علينا من الغول التركي والإيراني، وأنّنا سنكون دويلة محاصرة ستنهار حالها حال شقيقتها في كوردستان الشرقية، التي اغتالها التوافق السوفييتي الإيراني بصفقة غير طاهرة، بالضبط كما كان يرهبنا صدام حسين وحزبه والقذافي ولجانه الشعبية وبعث سوريا وأسده، من أنّ أي محاولة لإزالتهم من الحكم ستقوم القيامة، بل هدّد صدام حسين بأنّه سيحيل العراق إلى حفنة تراب إذا أخذوا الحكم منه.
بهذه الثقافة والعقلية تعاملت معظم الأنظمة العنصرية والمحتلة لكوردستان في أجزائها الأربعة، مع طموحات شعب يتجاوز تعداده الأربعين مليون نسمة، يرفض الاستكانة ومحاولة إلغائه، ويصرّ على أن يمارس إنسانيته وحريته وخياراته الاجتماعية والثقافية والسياسية، وبشكل حضاري، دونما الذهاب إلى خيارات أخرى لولا أنّه اضطر إزاء عمليات الإبادة، الدفاع عن نفسه، كما حصل في معظم الثورات والانتفاضات عبر تاريخه.
لقد اختار الكورد في ولاية الموصل، التي كانت تضم معظم كوردستان العراق، الانضمام إلى المملكة العراقية، ورفضوا اعتبارهم ولاية تركية، مقابل الاعتراف بحق تقرير المصير وتحقيق طموحاتهم السياسية والثقافية، واحتراماً للعائلة الهاشمية التي كانت تتمتع بمقبولية كبيرة لدى الأهالي، الذين يدينون في غالبيتهم بالإسلام، ورغم ذلك وبعد سنوات ليست طويلة ظهرت بوادر الغدر والتحايل والتخلّي عن تلك الوعود، بل وذهبت حكومات بغداد المتعاقبة، ومن مختلف التوجهات والعقائد، إلى كبح جماح طلائع الكورد واعتقالهم وإعدامهم وشنّ حرب شعواء على كوردستان، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى غزوة ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية داعش، التي اعتبرت الكورد مرتدين وجب إبادتهم، كما فعل صدام حسين وعلي كيمياوي وأقرانهم في سوريا.
لقد تعرّض شعب كوردستان العراق إلى أقسى أنواع الاضطهاد والإقصاء، بل والإبادة الجماعية، كما حصل في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وفي الأنفال في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، حيث تم قتل ما يزيد على ربع مليون مواطن كوردستاني، وتدمير خمسة آلاف قرية من أجمل قرى الشرق، بما فيها من نبات وحيوان وبشر، ولا تكاد توجد قرية أو بلدة أو مدينة في كوردستان، إلا وتختزن في ذاكرتها تلك المآسي التي اقترفتها كل الأنظمة المتعاقبة دونما استثناء، حتى وصل الأمر بأنّهم لم يكتفوا بإبادة السكان بل عملوا على إبادتهم في هويتهم وانتمائهم، فأصدروا جملة من القوانين العنصرية التي تمنع تملك الكوردي أي عقار أو سيارة، في نينوى وكركوك وديالى وصلاح الدين، إلى أن يغير قوميته ويجد له أصلاً غير أصله، كما في قانون تصحيح القومية سيّئ الصيت، ناهيك عن عمليات التعريب البشعة والتهجير والترحيل القسري للسكان واستقدام مجموعات قومية عربية من خارج المنطقة وإسكانها بدلاً منهم، كما حصل في كركوك وديالى والموصل.
لقد تجاوزت تلك الحكومات في تعاملها مع الكوردستانيين حتى إسرائيل وجنوب أفريقيا في تعاملهما مع السكان الأصليين، سواء الفلسطينيين أو الأفارقة، حيث استنسخت وببشاعة ثقافة الاستيطان وعملت على تطويق كوردستان بحزام ناري من العنصريين والفاشيين، الذين تم إسكانهم على أطلال قرى وبلدات الكوردستانيين، كما حصل في كركوك وأطرافها وسنجار وأطرافها وخانقين وأطرافها، وبعد سنوات الضيم والطغيان، باشر شعب كوردستان بإسقاط تلك النماذج المقيتة، التي مثلها البعث والعنصريين الآخرين في نيسان 2003.
لكن الأحداث التي مرّت خلال السنوات السبعة عشرة، بعد إسقاط نظام صدام حسين، أثبتت أنّ التعايش أو الشراكة الحقيقة لا يمكن تحقيقها، خاصة وأنّ ما حدث خلال تلك الفترة كرّس ذات الثقافة التي تعاطت مع شعب كوردستان، حيث تم إقصاؤه وتهميشه بأساليب خبيثة، ربما أكثر إيلاماً مما حدث سابقاً، فقد تم محاصرة الإقليم وإشاعة الكراهية والحقد ضده وضد قياداته ورموزه، والعمل على شقّ صفوفه والعودة إلى سياسة تصنيع ما كان يسمى بـ(الجتة) أو (الجحوش)، كما يسمونهم في كوردستان من عملاء أنظمة بغداد، ومحاولة تدميره من خلال قطع حصته من الموازنة السنوية، بما في ذلك مرتبات الموظفين والبيشمركة التي عملوا على إضعافها بل وتدميرها.
لقد كان الإقليم قاب قوسين أو أدنى من أن يكون واحداً من أكثر الأقاليم بل الدول ازدهاراً وتقدماً في الشرق الأوسط، مما أرعب الحكام في بغداد، الذين عملوا على إيقاف تلك التجربة التي خفضت نسبة الفقر من 50 % عشية إسقاط نظام صدام حسين، إلى أقل من 7 % في 2013، حسب إحصائيات وزارة التخطيط العراقية، وكذلك الحال في الصحة والتعليم والتعليم العالي وخدمات المواطنين وفي مقدمتها الكهرباء، التي غطّت كل ساعات اليوم قبل 2014، ولا نريد الخوض في تفاصيل المآسي التي سببتها حكومات العهد الديمقراطي.
منذ أول حكومة بعد نيسان 2003، وحتى الأخيرة، فلم تتغير خارطة الطريق التي استخدمتها كل حكومات بغداد منذ قيام المملكة العراقية وحتى يومنا هذا، وما تحقق في كوردستان إنما أنجزه شعب كوردستان وفعالياته السياسية والاجتماعية، وما صموده أمام الحصار والتآمر والحرب القذرة التي شنّها العنصريون والفاشيون القوميون والدينيون على كوردستان، باسم ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية، منذ أكثر من ست سنوات، إلا استكمالاً للأنفال والحرب الكيماوية والحصار الذي استخدمه المالكي وتبعه العبادي في ذات النهج.
هذا الصمود والصبر الذي أكد إيمانه بالاستقلال والخلاص من هذا الإلحاق القسري بنظام ودولة لا تمت بأيّ صلة إلى كوردستان، تاريخياً وجغرافياً وقومياً وثقافياً وحضارياً، ولأجل ذلك وبعد فشل كل محاولات الإقليم وقيادته من ترتيب الأوضاع مع بغداد، وحرصه على إقامة دولة مواطنة مدنية ومشاركة حقيقية، وبعد فشل كل محاولات الإقليم لحل الإشكاليات مع بغداد، وتحذير قيادة الإقليم بأنّها ستلجأ إلى الشارع الوطني في كوردستان، ذهبت القيادة إلى تنفيذ إرادة شعبها في الاستفتاء بأسلوب مدني حضاري يوم 25 أيلول 2017، معتمدة على الأعراف والعهود والقوانين الدولية، وأجرت حوارات مع بغداد لإنجاز تحقيق مطالب شعب كوردستان.
هذا وأعلنت بأنّها لن تعلن قيام الدولة إلا بعد التفاوض والاتفاق مع بغداد، التي اعتبرتها عمقاً إستراتيجياً لكوردستان، إلا أنّ ما حدث من ردود أفعال بعد إجراء الاستفتاء، وبأقلّ من شهر وبتخطيط وتوافق مع إيران وتركيا، ومع زمرة تاجرت بمصالح كوردستان العليا وسلمت مقدراتها بأيدي هؤلاء، أكدت أنّ التوجه العدواني والعقلية الإقصائيّة للحاكمين في بغداد لم تتغير، فقد شنّوا هجوماً عسكرياً واسعاً على كوردستان وخطوطها الدفاعية الأولى في كركوك وسنجار وخانقين، وبغض نظر فاضح من القوى العظمى، وباستخدام أحدث الأسلحة الامريكية، من دروع ودبابات، اجتاح الجيش وميليشيات الحشد الشعبي معظم المناطق الكوردستانية خارج إدارة الإقليم، والمسماة (المتنازع عليها)، في أخطر خرق للدستور الذي يحرّم استخدام المؤسسة العسكرية في النزاعات السياسية بين الإقليم والحكومة الاتحادية، وهددوا كيان الإقليم السياسي والدستوري بمحاولتهم التقدّم إلى أربيل ودهوك، وفرضوا حصاراً عدوانياً قاسياً على الإقليم وشعبه بغلقهم الحدود والمطارات وقطع معاشات الموظفين وحصة الإقليم من الأدوية والوقود، بل والامتناع عن دفع مستحقات فلاحي كوردستان الذين سلموا كل منتوجهم من الحبوب منذ 2014.
ناهيك عن قطعهم لحصة الإقليم من الموازمة السنوية لخمس سنوات متتالية والبالغة أكثر من أربعين مليار دولار، وما ترتب عن عمليات الاجتياح لتلك المناطق من تهجير أكثر من مائة ألف مواطن في كركوك وقتل مئات المواطنين الكورد وحرق ممتلكاتهم ومحلاتهم والسيطرة على بيوتهم، حيث أعادوا سياسة التغيير الديموغرافي في كركوك وسهل نينوى وسنجار وخانقين، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم تشنّ ميليشياتهم الولائية هجمة دعائيّة على كوردستان من خلال مجموعة قنواتها المعروفة باتحاد القنوات الإسلامية، والتي تمخضت، مؤخراً، عن قصف محيط عاصمة الإقليم، أربيل، بالصواريخ من سهل نينوى الذي تهيمن عليه إحدى تلك الميليشيات، ومن ثم الهجوم على مقرّ الحزب الديمقراطي الكوردستاني في بغداد وحرقه.
ووسط هذا الفشل الذريع في التعامل مع الشريك واضطهاده وبوجود دستور دائم ينظم العلاقة بينهما، يتم خرقه في أكثر من 55 موضع، يبقى السؤال المرير، هل أخطا الكورد بالذهاب إلى بغداد وتخلّيهم عن استقلالهم في 2003 من أجل قيام دولة ديمقراطية مدنية فيدرالية تعترف بحقوقهم وخياراتهم بعد ما يقرب من مليون شهيد وتدمير ثلثي كوردستان، وعودة دولاب الاضطهاد والإقصاء ومحاولة الإذلال بالحصار الاقتصادي وإشاعة الكراهية والأحقاد ضد كل ما يمت للكورد وكوردستان بصلة، ترى هل سنسأل ثانية حينما نطلب تطبيق مخرجات الاستفتاء واستحقاقاته كوثيقة قانونية ديمقراطية حان تنفيذها على الأرض كما فعلت تشيكوسلوفاكيا وتيمور الشرقية وجنوب السودان؟
ليفانت