أيّةُ أيديولوجيةٍ تناسب الواقع السوري؟
عبد الباسط سيدا
الأيديولوجيا هي وجهة نظرٍ حول كيفية تنظيم المجتمعات، وضبط الأمور فيها؛ وهي تشمل جملة القيم والمعايير التي تعدّ المنطلقات أو المحدّدات الأخلاقية لمنظومتها المفهومية والفكرية. والأيديولوجيا غالباً ما تنسجم مع مصالح الشريحة أو الطبقة الاجتماعية التي تعبّر عن تطلعاتها. كما تنصّ الأيديولوجيا على سلسلةٍ من الإجراءات والتدابير التي يمكن اعتمادها من أجل تطبيق الأفكار، لتصبح واقعاً على الأرض.
فالأيديولوجيا هي أصلاً نسق من الأفكار، تقوم على ركائز قيمية، تمنحها الجاذبية والقدرة على التأثير؛ ولكنها في نهاية المطاف تجسّد مصالح واقعية أو حتى متخيّلة، يعمل المنضوون تحت لواء هذه الأيديولوجيا أو تلك على تحقيقها، سواءً بوعيٍ منهم أم من دونه.
وقد أثبتت التجارب التاريخية أنّ الأيديولوجيات غالباً ما كانت تتحوّل إلى أداةٍ تعبوية لكسب الأنصار، وشيطنة الخصوم. وتغدو مع الزمن عقيدةً جامدة، استُخدمت، وتُستخدم، لتسويغ عمليات تغييب المنافسين، والإقدام على أعمالٍ هدفها الأساس بثّ الرعب في النفوس، وتطويع الناس، والدفع بهم نحو الانهيار الذاتي، ومن ثم الخنوع والاستسلام.
فالأيديولوجيا على الرغم من أهميتها في ميدان توجيه الطاقات وتركيزها، هي سريعة العطب، خطيرةٌ إذا ما استُخدمت وسيلة لغسل الأدمغة خاصةً بين الشباب والأطفال، وذلك عبر المناهج الدراسية، ووسائل الإعلام، وجهود المبشّرين الأيديولوجيين، وحتى من خلال وسائط التواصل الاجتماعي. وهي بهذه الصيغة تمثّل خطراً أكيدا يهدّد الديمقراطيات، خاصةً في مناخات تصاعد الشعبوية على المستويين العالمي والمحلي.
وللأيديولوجيا تاريخ قديم يعود بجذوره إلى بدايات تشكّل ممالك المدن والدول في العالم. وغالباً ما اتّسمت الأيديولوجيات القديمة بطابعها الديني. أما في العصور الحديثة، خاصةً في بداية القرن التاسع عشر، فقد شهد العالم طغيان ثلاثة أنواعٍ من الأيديولوجيات هي: القومية والشيوعية والرأسمالية بصيغها وتدريجاتها المختلفة. وقد تسبّبت هذه الأيديولوجيات في الكثير من الحروب والمآسي، كما تسبّبت في تصفية الملايين من قبل الأجهزة الأمنية والحزبية سواءً في الصين أم في الاتحاد السوفييتي، وفي ألمانيا وبولونيا وإسبانيا وكوريا، وكذلك في كمبوديا ودول أمريكا اللاتينية، والعديد من الدول الأفريقية والآسيوية .
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي تعالت أصوات عديدة تبشّر بنهاية الأيديولوجيات على المستوى العالمي؛ ومنذ ذلك التاريخ باتت المصالح العارية هي المتحكّمة بعلاقات الدول الكبرى فيما بينها، وفي تعاملها مع مجتمعات الأطراف التي ما زالت في مناطق كثيرة من العالم تعيش على هامش العصر، إن لم نقل أنها تُلزم عبر الوكلاء المحليين بالبقاء ضمن المسارات التي لا تمكّنها من تجاوز مشكلاتها، ووضع حدٍّ لحالة الاستنزاف المرعبة التي تتعرّض لها نتيجة الصراعات الداخلية البينية ؛ وتجذّر ظاهرة الفساد واتّساع نطاقها.
أما في الدول الاسكندنافية والعديد من دول أوروبا الغربية، فما زالت الأيديولوجيات المعتدلة سواءً الاشتراكية منها، أم المسيحية الديمقراطية وحتى الليبرالية والمحافظة، هي التي تساهم في المحافظة على الاستقرار عبر دعم الأنظمة الديمقراطية التي تعمل على توفير الشروط السياسية للعدالة الاجتماعية، رغم تصاعد تأثير القوى الشعبوية المتطرّفة، وذلك من خلال تأمين فرص التعليم والعمل والسكن والرعاية الصحية والاهتمام بالمسنّين ، ومستقبل الأطفال؛ هذا مع تباينٍ بين هذا الاتّجاه أو ذلك لصالح هذه الشريحة الاجتماعية أو تلك.
أما في منطقتنا، فما زالت الأيديولوجيات التعبوية الشعاراتية بكلّ ألوانها وراياتها هي التي تفعل فعلها منذ نحو مئة عامٍ تقريباً؛ أي منذ بدايات المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وهي المرحلة التي أعيد خلالها هيكلة المنطقة بعد تفكيك الدولة العثمانية، وتشكيل العديد من الدول الحديثة، وذلك بناءً على المصالح الاستعمارية، ومن دون أية مراعاةٍ لطبيعة مجتمعاتنا، وتطلّعات سكانها.
ومنذ ذلك التاريخ، نعيش صراعاً بين أيديولوجيات عمل، ويعمل، أصحابها على تجييش الناس عبر شعاراتٍ عامة لا تلزم القائل بها بأيّ شيءٍ، ولكنها تدغدغ العواطف والمشاعر، وتدفعهم ليكونوا وقوداً في صراعاتٍ عابرةٍ للحدود والمصالح الوطنية؛ ولا تساهم بأيّ شكلٍ من الأشكال في عملية التراكم التي تحتاجها مجتمعاتنا على المستويات كافةً. ونعني بذلك التراكم في ميدان الموارد البشرية من جهة الطاقات والخبرات؛ والتراكم في ميدان الثروات لتوظيفها لصالح مشاريع صناعية، زراعية، خدمية، تنموية، تضمن مستقبلاً أفضل لشعوبنا وأجيالنا المقبلة. والأيديولوجيات المعنية هنا هي على وجه التحديد الأيديولوجيات القومية والدينية بأسمائها وألوانها وتوجّهاتها المختلفة.
الطائفة الأولى، وهي القومية، استُخدمت، وما زالت تُستخدم، لتجييش الأتباع والمعتنقين ضمن إطار حركاتٍ أجّلت كلّ الاستحقاقات الواقعية الضرورية إلى حين تحقيق الاستحقاق المتخيّل. فالوحدة القومية العربية أو الكُردية أو التركية أو الفارسية- الإيرانية، كانت، وما زالت، هي الهدف التعبوي المعلن لمختلف الأحزاب والقوى القومية التي لم تطرح أية أفكارٍ واقعية لتحسين شروط العيش للناس في أوطانها الواقعية، وذلك بذريعة أنّ الوطن الأكبر، الحلم، هو الذي سيضمن المستقبل المنشود للجميع.
والأمر ذاته بالنسبة إلى الأيديولوجيات الدينية، الإسلاموية تحديداً بنسقيها السنّي والشيعي. الأول يبحث عن الخلافة الموعودة المفقودة. بينما الثاني يدعو إلى تدمير كلّ شيءٍ من أجل التمهيد لبناء إمبراطورية الولي الفقيه التي تُستلهم في واقع الحال من الماضي الإمبراطوري الفارسي؛ ومن أجل بلوغ هذا الهدف تمّ تحويل المذهب إلى أيديولوجية تعبوية، تُطبّق اليوم على أرض الواقع بدماء وقدرات الأتباع والمريدين؛ وقد كلّف هذا الأمر المجتمعات في كلٍّ من العراق وسوريا ولبنان واليمن الكثير والكثير من القتل والتدمير والتهجير، والمآسي، وعدم الاستقرار المجتمعي الذي سيمتدّ على مدى عقودٍ.
أما محاولات الدمج بين الأيديولوجيتين، أو بتعيرٍ أدقّ، الاستفادة من إمكانياتهما التعبوية من قبل هذه الجهة السياسية أو تلك، فهي من الظواهر المألوفة التي نجدها اليوم، على سبيل المثال، في كلٍّ من تركيا وإيران؛ بل وجدناها قبل ذلك لدى العديد من الحركات القومية العربية، خاصةً حزب البعث؛ وكانت هناك محاولات خجولة ضمن المجتمع الكُردي من قبل بعض الأحزاب الكُردية الإسلامية.
أما في سوريا، فيبدو أننا لم نتمكّن بعدُ من تجاوز آثار الأيديولوجيتين المعنيتين: القومية والدينية؛ هذا رغم كلّ ما حصل حتى الآن. فما زالت هناك قوى تعمل على تفجير
العلاقات العربية الكُردية المعروفة بمتانتها رغم كلّ سياسات الإبادة والتنكيل والقمع والاضطهاد والتهميش التي مارستها سلطات البعث في كلٍْ من العراق وسوريا. فعلى المستوى الشعبي المجتمعي، كان الجميع عرباً وكُرداً يدركون أنْ مصالحهم تستوجب العلاقات الطبيعية، والتفاعل المثمر البنّاء في مجتمعهم. ولكن بعد ذلك استعان النظام بقوات حزب العمال الكُردستاني ، تحت اسم حزب الاتحاد الديمقراطي لضبط المناطق الكُردية ، ومنع تفاعلها مع الثورة السورية؛ ومن ثم اعتماد الأمريكان لاحقاً على القوات نفسها في محاربة داعش، والسيطرة على منطقة شرقي الفرات في سياق تفاهماتهم مع الروس الذين سيطروا على غربي الفرات، وذلك بقصد استخدام المنطقة لتكون ورقة ضغطٍ في المفاوضات المقبلة حول مستقبل سوريا والمنطقة. وتكون المنطقة المعنية، شرقي الفرات، في الوقت ذاته ميداناً لمتابعة الأوضاع في العراق.
هذه الوضعية أدّت إلى إثارة الحساسيات على الصعيد الشعبي بين العرب والكُرد ، وقد استغلّها المتطرّفون من الجانبين لصالح أجندات ليست في صالح الكُرد والعرب السوريين، والسوريين عموماً. وما أسهم في تعقيد اللوحة هو إقدام بعض النخب والنشطاء على إصدار البيانات، والتوقيع عليها لصالح هذه الجهة أو تلك، واختلط ذلك مع شعاراتٍ قوموية وإسلاموية، مما أدى إلى ارتفاع وتيرة الحساسيات. هذا في حين أنّ الموقف كان يستوجب تدخّل تلك النخب للتهدئة ولفت الأنظار إلى عواقب الأمور.
لقد أثبتت التجربة السورية على مدى قرنٍ كامل أنّ الأيديولوجيات العابرة للحدود الوطنية، كانت باستمرارٍ أداةً استخدمتها الأنظمة للانقضاض على الداخل الوطني. ولم تكن شعاراتها الكبرى سوى “عدة الشغل” إذا صحّ التعبير؛ ااستُخدمت للتضليل والتعمية، والإيهام بأنّ كلّ شيءٍ مسخّر لمعارك التحرير والوحدة. ولكنّ الذي تبيّن قبل الثورة وبعدها هو أنّ السلطة وامتيازاتها، خاصةً المالية منها، كانت محور الصراع بين مختلف مجموعات وأجنحة الحكم، ولم يكن الاهتمام بالوطن وأهله يتجاوز حدود كيفية الضبط والاستنزاف وتسطيح القول والضمائر، وقمع الإرادات الحرة.
ما ينقذ سوريا وأهلها من واقع تقسيمها إلى مناطق نفوذ، قد تتحوّل إلى مناطق سيطرة ٍ واحتلالٍ مباشرين إلى أجلٍ غير مسمّى، إذا ما استمرّت الأوضاع الحالية على ما هي عليه؛ ما ينقذنا من كلّ ذلك، هو القطع مع الأيديولوجيات العابرة للحدود بكلّ أشكالها وأسمائها وألوانها، القومية منها والدينية؛ والتركيز على أيديولوجيةٍ ، أو رؤيةٍ وطنية معتدلة متكاملة تطمئن سائر السوريين. رؤية تركّز على المشترك السوري، وتتّخذ من الإنسان والمجتمع السوريين المحور الأساس الذي تتمفصل حوله أفكارها وخططها حول كيفية ترميم النسيج المجتمع السوري الذي يعاني من جروحٍ عميقة بعد كلّ الذي حصل. وذلك يُعدّ الخطوة الأولى على طريق استعادة الوطن؛ وتأمين المستلزمات الكفيلة بالنهوض لصالح جميع السوريين، وبمشاركتهم جميعاً من دون أيّ استثناءٍ أو تمييزٍ.
* كاتب وأكاديمي سوري
*عن القدس العربي*