
إرث البعث في وعي السوريين- موروث لا يمضي
ماهر حسن
في السياسة، تتجلّى التناقضات أحياناً بأوضح صورها ؛ عندما يرفع شعار محاربة فكر أو نهج سياسي معين، لكن بعد إقصائه عن السلطة، يتمّ الإبقاء على إرثه وموروثه السياسي، وكأنّ المشكلة لم تكن في النهج نفسه، بل في من كان يتبنّاه. هذا ما نشهده في الحالة السورية، حيث تصاعدت الأصوات المناهضة لحزب البعث، باعتباره المسؤول عن عقودٍ من الاستبداد والقمع، غير أنّ هذه الأصوات نفسها، أو على الأقل شريحة واسعة منها، لا تزال متمسّكة بالسياسات القومية المتطرفة التي زرعها البعث، خصوصاً فيما يتعلّق بالقضية الكُردية.
لطالما سعى النظام البعثي منذ استلامه السلطة إلى فرض مشروع تعريبٍ شامل، استهدف من خلاله مناطق ذات أغلبية كُردية، مثل الجزيرة وكوباني وعفرين، عبر سياسات مثل مشروع “الحزام العربي” الذي تمّ تطبيقه في الجزيرة السورية، حيث جرى توطين عشائر عربية في مناطق كُردية بهدف تغيير التركيبة الديمغرافية. كما سحبت الجنسية من آلاف الكُرد بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، وتمّ التضييق على اللغة والثقافة الكُردية. هذه السياسات لم تكن مجرد إجراءات عابرة، بل كانت جزءاً من مشروعٍ قومي عربي متكامل تبنّاه البعث تحت شعار “الأمة العربية الواحدة”.
مع انطلاق الثورة السورية، كان يفترض أن تتجه القوى المعارضة للنظام نحو إعادة تقييم السياسات التي كرّسها البعث، وخاصةً تلك المتعلّقة بالمكونات غير العربية، مثل الكُرد والسريان والآشوريين. فالثورة، في جوهرها، ليست مجرد إسقاط لنظام استبدادي، بل فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة أكثر عدالة وتعددية. غير أنّ ما حدث كان عكس ذلك تماماً، حيث استمرّت العديد من القوى السياسية والفكرية المعارضة في تبني الإرث القومي البعثي، إما بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، من خلال الدفاع عن السياسات التي فرضها النظام لعقود.
برز هذا التوجه في رفض الاعتراف بالحقوق القومية للكُرد، والنظر إلى أي مطالب تتعلّق بلغتهم أو هويتهم الثقافية على أنها تهديد لوحدة سوريا. كما استمرّ الخطاب القومي الذي يؤكّد على “عروبة سوريا” بوصفها هوية ثابتة غير قابلة للنقاش، دون أي اعتبارٍ للتنوع القومي الذي تشهده البلاد تاريخياً. لم تقتصر هذه النزعة على الشعارات، بل انعكست في المواقف السياسية على الأرض، حيث أصرّّت العديد من القوى، حتى بعد سقوط النظام، على الحفاظ على نتائج سياسات التعريب التي فرضها، ورفض أي خطوات لإعادة الحقوق لأصحابها الأصليين.
هذا التناقض يوضّح أنّ المشكلة لدى الكثير من المعارضين لم تكن في النهج القومي الاستبدادي بحدّ ذاته، بل فقط في مَن كان يطبّقه. فحتى بعد إسقاط البعث، بقيت الأفكار القومية المتطرفة جزءاً من الخطاب السياسي للعديد من الفاعلين السوريين، ما يعني أنّ الثورة لم تؤدِّ إلى مراجعة حقيقية للإرث السياسي الذي كرّسه النظام. بناءً على ذلك، فإنّ التحول الديمقراطي الحقيقي في سوريا لا يمكن أن يقتصر على تغيير السلطة، بل يتطلّب تفكيك العقلية القومية الإقصائية التي كانت أساساً للاستبداد، واستبدالها برؤية وطنية تعترف بجميع المكونات وتعاملها على قدم المساواة.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو التمسك بمشروع “الحزام العربي”، حيث يعارض الكثير من المعارضين السوريين، بمن فيهم قوميون وإسلاميون، أي محاولة لإعادة الأراضي إلى أصحابها الأصليين أو منح الكُرد حقوقهم القومية. هذا الموقف لا يختلف عن موقف النظام نفسه، بل في بعض الأحيان يكون أكثر تشدداً، إذ يتمّ تصوير أي محاولة لتصحيح السياسات السابقة على أنها تهديد لوحدة سوريا. المفارقة هنا أنّ هؤلاء المعارضين أنفسهم يهاجمون النظام بحجة أنه كان سلطوياً وقمعياً، لكنهم لا يجدون غضاضة في تبني سياساته العنصرية والقومية.
عند الحديث عن الحقوق القومية لغير العرب، تتلاشى الخطابات التي تدعو إلى الديمقراطية والتعددية، ويتمّ استبدالها بمنطق ينكر التنوع ويؤكّد على مركزية القومية العربية في تشكيل الهوية الوطنية. هذا الاستمرار في تبني نهج البعث رغم معارضته، يدلّ على أنّ المشكلة ليست فقط في النظام بحد ذاته، وإنما في غياب مراجعة جذرية للمفاهيم التي حكمت الدولة السورية لعقود. بناءً عليه، فإنّ أي تحول ديمقراطي حقيقي في سوريا لا يمكن أن ينجح دون تفكيك هذه الذهنية الإقصائية، والاعتراف بتعدد الهويات ضمن إطارٍ وطني جامع يقوم على المساواة والعدالة، وليس على فرض هوية واحدة على الجميع.
ما يجري في سوريا اليوم هو انعكاس لعقلية قومية متجذرة تشكّلت على مدى عقود، ولم يتمّ تفكيكها حتى بعد اندلاع الثورة. فالكثير من السوريين الذين طالبوا بالحرية والعدالة لا يزالون أسرى للرؤية القومية العربية التي رسّخها حزب البعث، والتي تقوم على اعتبار العروبة هوية الدولة والمجتمع، مع تهميش المكونات الأخرى وطمس هوياتها القومية والثقافية. هذه العقلية لم تكن مجرد سياسة حزبية مؤقتة، بل أصبحت جزءاً من الوعي الجمعي لدى شرائح واسعة، حتى بين أولئك الذين يعارضون النظام الحالي.
إسقاط النظام، بحد ذاته، لا يعني إسقاط النهج الإقصائي الذي حكم سوريا لعقود، لأنّ المشكلة ليست فقط في السلطة، بل في الفكر السياسي السائد الذي لم يخضع لمراجعة حقيقية. فبدلًا من إعادة بناء الدولة على أسس جديدة قائمة على التعددية والاعتراف بالمكونات القومية المختلفة، استمرّت النزعة القومية العربية كإطار مهيمن، حتى في خطاب القوى التي عارض النظام. هذا يظهر في الإصرار على اعتبار سوريا دولة عربية حصرياً، وفي رفض الاعتراف بالحقوق القومية للكُرد وغيرهم، وفي الدفاع عن سياسات التعريب التي فرضها البعث، وكأنّ المشكلة لم تكن في السياسة نفسها، بل فقط في الجهة التي كانت تديرها.
لهذا، فإنّ أي تحول ديمقراطي حقيقي في سوريا لن يكون ممكناً ما لم تتمّ مراجعة جذرية للفكر القومي الإقصائي، والانتقال نحو رؤية وطنية تستوعب جميع المكونات دون تمييز. لا يمكن بناء دولة عادلة ومتوازنة دون الاعتراف بالتعدد القومي واللغوي والثقافي، ودون إعادة النظر في المفاهيم التي اختزلت الهوية السورية في العروبة وحدها. سوريا بلد متنوع، وأي مشروع مستقبلي يجب أن يعكس هذا التنوع بدلًا من محاولة طمسه أو إنكاره. التخلص من إرث البعث لا يقتصر على إسقاط النظام، بل يتطلّب تفكيك العقلية التي سمحت لهذا النظام بالاستمرار لعقود، واستبدالها برؤية جديدة قائمة على الشراكة الحقيقية بين جميع السوريين.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “329”