آراء

استفتاء كُردستان، قصة صمود شعب وأمة

محمد زنكنة

لم تكن خطوة استفتاء استقلال كُردستان قراراً سهلاً، ولم يتخذ هذا القرار اعتباطاً بين ليلة وضحاها، ومن الممكنأن نصفها على أنها انفجار الإرادة الحقيقية لشعبٍ ملّ من الوعود الكاذبة التي تتكرّر دوماً من حكومات غير مستقرة، تعالج الازمة بأزمة، وتفعل ماتشاء لحرمان شعب كُردستان من ابسط حقوقه بحجة حماية وحدة العراق والحفاظ على سيادته المستباحة أصلاً، باختصار، هي لم تكن تريد ومازالت لاتريد الاستمرار لهذا الشعب، والذي بقي صامداً على الرغم من قبول القرارات الدولية المجحفة بالتقسيم والالحاق لهذه الارض بين دول ارتكبت أبشع الجرائم ضد شعب كُردستان لمجرد انتمائهم للقومية الكُردية ولارض كُردستان.

جاء هذا الحل، بعد أن أثبتت الحكومة العراقية نواياها الحقيقية بعد ثلاث تشكيلات وزارية، لم يكن نصيب الكُرد منها إلا تأجيلاً أو إيقافاً لمطالب نصّ عليها الدستور العراقي، من تأجيل تنفيذ المادة 58 من قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت، والذي ضمّ في بنوده حلا لقضية كركوك والمناطق الكُردستانية خارج سلطة اقليم كُردستان، ثم مرّر الى الدستور العراقي الدائم تحت مسمى المادة 140، والتي حوربت بأشد الاساليب من قبل حكومة ابراهيم الجعفري، ليتنصّل بعد ذلك مَن خلّفه في رئاسة الوزارة نوري المالكي من تنفيذها، حيث كان من المفروض أن تنفّذ في موعد أقصاه الحادي والثلاثين من ديسمبر/كانون الاول لعام 2007، ثمّ الوقوف ضد اجراء الإحصاء السكاني العام لحجج واهية، مروراً بالتهديدات المتكررة لاجتياح أقليم كُردستان، وصولاً لمرحلة قطع حصة أقليم كُردستان من الموازنة العامة العراقية ثم تهديد الأقليم من قبل إرهابيي داعش بعد احتلالهم لخمس محافظات عراقية ذات غالية سنية، والنظر لأقليم كُردستان كندٍّ للعملية السياسية العراقية بتناسي مباديء الشراكة والتوافق والتوازن والتي اتفقت عليها الكتل والأطراف السياسية العراقية كأساس للعملية السياسية العراقية بعد إسقاط نظام صدام.

كان العام 2014،عاماً حاسماً لمعرفة نوايا الحكومة العراقية، والتي توضحت بعد السكوت عن احتلال المحافظات السنية، وتواطؤ بعض الأطراف السياسية مع إرهابيي داعش لاحتلال سنجار، ثم الالتفاف على أقليم كُردستان محاولين الدخول إليه، تلك الحركة الخبيثة التي تصدّت لها قوات البيشمركة بكلّ بسالة في حرب استمرّت لما يقارب الثلاثة أعوام، وحصدت أرواح الآلاف من شباب كُردستان وقادتها العسكريين، وانتهت بالقضاء على الأسطورة الكاذبة لهذا التنظيم الارهابي. منذ تلك الفترة، فكّر الرئيس مسعود بارزاني بحل قومي وطني للخروج من هذه الأزمة، بعد أن أعطى الاقليم أكثر من فرصة للحكومة العراقية للعدول عن قراراتها المالية والسياسية والادارية المجحفة تجاه أقليم كُردستان، وليبدأ باجتماعات على المستوى الداخلي في الاقليم، والذي قوبل ،وبكلّ اسف ، بتصرفات يندى لها الجبين من قبل بعض الأطراف السياسية المحسوبة على الاقليم، لتاتي بعد ذلك جولاته إلى بغداد ثم إلى تركيا والدول العربية واوروبا والولايات المتحدة الامريكية، لشرح وتوضيح الفكرة من إجراء الاستفتاء والهدف منه.

الرئيس، بيّن لكلّ العالم بأنّ نصيب الكُرد من الدولة العراقية بعد مايقارب المئة عام، كان قطعاً للأعناق ثم الأرزاق، في المرحلة الأولى من عمر الدولة تسابقت حكومات النظامين الملكي والجمهوري لارتكاب أكثر الجرائم شراسة تجاه هذا الشعب، من اعتقالات وإعدامات سياسية، وقصف وتدمير القرى والمدن وحملات الإبادة الجماعية والقتل على الهوية، والحرمان من حق المواطنة والقصف بالأسلحة الكيمياوية وإرساء نظام الحزب الواحد ومحو الهوية القومية والإنسانية لشعب كُردستان، لتأتي بعد ذلك مرحلة محاربة الاقليم اقتصادياً ومحاولة إضعافه وسلب سلطاته الدستورية واعتبار أقليم كُردستان مجرد مشارك في العملية السياسية، وليس شريكاً حقيقياً ساهم في إعداد وصياغة الدستور الذي ضمن حقوق أغلب المكونات العراقية.

وعلى الرغم من كلّ ماذكر، مدّ الرئيس بارزاني يد المساعدة والعون للجيش العراقي في زمن حكومة حيدر العبادي، ليثبت مرة أخرى الشراكة العسكرية الحقيقية المنصوص عليها في الدستور، ولتساهم قوات البيشمركة في تحرير الموصل، وفي تلك الفترة شدد الرئيس على ضرورة أن تسبق مرحلة التحرير، اتفاقاً سياسياً يتحدّد فيه مستقبل محافظة نينوى والمناطق المحررة، ورسم خارطة مجتمعية لإعادة إعمارها وضمان حقوق كافة سكان هذه المناطق وخصوصاً نينوى، بكلّ مكوناتها القومية والدينية والمذهبية، وكالعادة..تنصّلت حكومة العبادي عن هذه الفكرة ايضًا.

وبعد صبر طويل، ونفاذ جميع الحلول، قرّرت الاحزاب السياسية الكُردستانية وفي اجتماع عقد في يوم السابع من يونيو/حزيران لعام 2017، تحديد يوم الخامس والعشرين من سبتمبر/ايلول، كموعد لإجراء عملية الاستفتاء، ومنذ ذلك اليوم ولحين الثمانية والأربعين ساعة الاخيرة قبل إجراء الاستفتاء، بدأت الضغوط وبشكلٍ مكّثف ومستفز،من الداخل ومن الدول الاقليمية وحتى العربية على الأقليم للعدول عن إجراء هذه العملية والتراجع عنها، والسبب في ذلك يعود إلى القيمة الدولية والقانونية لهذه العملية، لأنّ هذا الاستفتاء لم يكن قراراً لحزب واحد أو جهة واحدة، أو قومية واحدة، ولم يفرض على الشعب على شاكلة الحكومات الدكتاتورية، كما أخذت العملية شرعيتها من برلمان كُردستان، والأهم من ذلك الشرعية الجماهيرية للتصويت بنعم للاستقلال، ولكن جميع هذه الضغوط باءت بالفشل، حيث أعلن الرئيس مسعود بارزاني وقبل ثمانية وأربعين ساعة من العملية بأنّ الأقليم لن يتراجع عن قراره الذي أخذ شرعية سياسية وقانونية، لينتظر الشرعية الجماهيرية في اليوم المحدد والمتفق عليه.

لقد أثبتت هذه العملية، مدى قوة وتماسك شعب كُردستان، ومدى التلاحم بين أطياف المجتمع برغم جميع الاختلافات، في داخل الأقليم وفي المناطق الكُردستانية المشمولة بالمادة 140 من الدستور العراقي، كما بعثت برسالة قوية للعالم، بأنّ الاختلافات السياسية ووجود تباين في الرؤى بين هذا الحزب أو ذاك، لايمحو الهوية القومية والمشاعر الوطنية لشعب لايمكن أن تؤثّر عليه هذه الاختلافات والخلافات، والتي تعتبر أمراً طبيعياً في المجال السياسي.

وبرغم كل التهديدات والضغوط التي واجهها المئات من مواطني الاقليم، من أحزاب (للاسف كُردستانية)، لإجبارهم بالعدول عن المشاركة والتصويت بنعم للاستفتاء، لكنّ هذا الشعب تحدّى كل هذه التهديدات وتوجّه الى الصناديق وقال كلمته الصادقة، ليقول الأغلبية كلمتهم بالموافقة والقبول وتقرير مصير هذا الشعب لأول مرة في تاريخه، في فرصة ثبتت ملكيته على أرضه، وترسم الخطوة الأولى نحو مستقبل بأساس شعبي رسمي قوي، أي أنّ شعب كُردستان أثبت بأنه أقوى بكثير من الأحزاب السياسية وأكثر ثباتاً على وحدة الموقف والقرار لمصير انتظره طويلاً.

ومهما كانت التداعيات التي حصلت بحجة الاستفتاء، ومهما كانت الخيانات الداخلية والخارجية، وخصوصاً خيانة السادس عشر من اكتوبر/تشرين الاول 2017، ومهما حاولت القوى السياسية المحسوبة على كُردستان التقليل من شأن هذه العملية، إلا أنّ استفتاء الاستقلال، والذي عشت أيامه لحظة بلحظة، بكلّ التهديدات التي كنت أتلقّاها شفهياً وعبر الرسائل الاليكترونية، وبكل الليالي التي سهرت فيها لمتابعة آخر المستجدات، وبكلّ لحظات الحزن التي اعترتني بسبب الخيانات غير المتوقعة من أحزاب شاركت في الحركة النضالية لشعب كُردستان، إلا أنها كانت درساً للصمود، وأصبحت أساساً لكلّ حديث وتفاهم واتفاق من الممكن أن يحصل في الوقت الحالي والمستقبل، لأنّ العالم بأسره، يحسب لهذه الخطوة ألف حساب قبل أن يتخذ أي قرار تجاه مستقبل شعب كُردستان، أي أنّ هذا القرار، نقل شعب كُردستان وبكلّ شفافية، من مرحلة سايكس بيكو، إلى مرحلة المصير المقرر والمتفق عليه.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “324”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى