آراء

الأحزاب الشمولية وقياداتها الكلاسيكية

محمد زكي أوسي

لا يعود سبب التخلف والانحطاط في المجتمع الشرقي إلى تسلط الأنظمة الشمولية الاستبدادية فقط، بل إلى تخلف واستبدادية أحزاب المعارضة الأكثر خطورةً, لأنها ماهدة للأنظمة الاستبدادية ولأنها شاخت، لا بفعل عمرها النضالي فحسب بل بفعل قياداتها الديناصورية غير القابلة للتحديث والتطور، وأضرّت بشكلٍ كبير بالعملية النضالية، وجلبت الخراب والكوارث لمنتسبيها خاصةً والمجامع عامةً لتعاملها المتخلف مع الأحداث السياسية.

مثل هذه الأحزاب لا تُعَدُّ أحزاباً جماهرية كما تدّعي, إنما هي أحزاب قادة استغلّت مراكزها الحزبية لتحقيق مصالحها على حساب المصالح العامة, ولا يحتاج المرء جهداً كبيراً للكشف عن مستواها ثقافياً وسياسياً.

يرى موريس دوفرجيه في كتابه القيمّ (مدخل إلى علم السياسة): (أنّ القادة في جميع الأحزاب الجماهيرية في البلدان المتخلفة يشكّلون فئة خاصة عن سائر المنتسبين والمناضلين, فهذه الحلقة الضيقة تظلّ تمثّل (حزب قادة) ضمن (حزب جماهيري).

ولا يكون هناك فارق بين الفئتين في البلدان المتطورة, فالحلقة الضيقة تظلّ منفتحة على القاعدة, وينحصر الفارق بين الفئتين بضرورات تكتيكية مثل تفعيل الأداء ووحدة القرار أكثر مما يمليه ظرف اجتماعي, بينما الأحزاب في البلدان المتخلفة يكون الفارق فيها بين القيادة والمنتسبين كبيراً جداً, لأنهم ينهلون قيمهم الحزبية من الموروثات الاجتماعية البالية).

وثمة سؤال محيّر في المجتمعات المتخلفة يُطرَحْ على بساط المناقشة وهو: كيف تقبل فئة الانتلجنسيا على نفسها الأنضواء تحت راية حزب سياسي جُلُّ قادته من الأميين والجهلة؟ والأغرب من ذلك أن نجد باحثاً واستاذاً جامعياً ومدير لمؤسسة علمية يقبل على نفسه صاغراً تلقي توجيهات من مسؤوله الحزبي الجاهل الأمي, هذه ظاهرة غريبة يجب دراستها بتمعن من قبل علماء النفس والاجتماع, ترى مالذي يدعو نخبة المجامع لأن تقبل بالإذعان والخنوع؟

وهل يمكننا العمل من دون وصاية في مجالها الوظيفي والعلمي؟

يقول موريس دوفرجيه معلقاً: (إنه يغمض كثير من الناس أعينهم في العمل السياسي, ويرفضون بمحض إرادتهم إزالة الغشاء عن أبصارهم).

تتخذ مثل القيادات السياسية الكذب والخداع والتدليس طريقاً لاستمرارها في مواقعها الحزبية, وإلا فهل يُعقَّل استمرارها في رئاسة الحزب ومراكزه القيادية لأكثر من ( 30) عاماً أو حتى الممات؟ وهل من المعقول أنّ هذا الحزب أو ذاك لم ينجب سوى تلك القيادة الديناصورية طوال عمره النضالي؟. مثل هذه الأسئلة يجب طرحها بجرأة لتشخيص مسبّبات التخلف وإعاقة تطور المجتمع.

يرى موريس دوفرجيه: (أنه يمكن تشبيه السياسيين بعرّافي العصور القديمة,إذا ما صادف أحدهم الآخر في اجتماع جماهيري تبادلوا الابتسامة لمعرفة كلّ منهم أكاذيب الآخر وخداعه للجمهور).

إذاً العلاقة بين تسلط القيادات الديناصورية لسنوات كثيرة على أحزابها طردية مع قدرتها على الخداع والتمويه والمماطلة واستغلال البائسين من الناس لتحقيق أغراضها الخاصة, هذا ولا يقتصر مستوى الكذب والتمويه على إقناع الآخرين بضرورة وجودهم في قيادة الحزب وعدم وجود البديل, وإنما يتجاوز ذلك ليصل إلى استخدام منظومة القيم الإنسانية تعبيراً عن صورهم المزيفة كونهم (مناضلون) يسعون لتحقيق أهداف نبيلة للشعوب!

وانعكس المستوى المتخلف والمنحط للقيادات الحزبية, عشرات السنوات على أداء الحزب ذاته, فلم تكن برامجه معبّرة عن التطلعات الحقيقية للمجتمع، ومع مرور الزمن شاخت تلك الأحزاب وتخطّت حدود التاريخ, فالحزب الذي لم يحقّق على مدى نصف قرنٍ من عمره النضالي طموحه وبرنامجه السياسي لا ضرورة لوجوده, فقد تحوّلت الأحزاب التقليدية من أحزاب معارضة للنظام إلى أحزاب مشاركة في النظام الشمولي ومدافعة عنه, كما أنها لم تسعََ خلال عمرها لتطوير الحزب إلى مؤسسة اجتماعية وسياسية لذلك عليها ألّا تدّعي أنها معارضة.

يرى موريس دوفرجيه: (أنه إذا شاخت الأحزاب الثورية تسعى للاندماج بالنظام القائم خاصةً وإن أبدى ميولاً تجاهها, وحينئذٍ تتحوّل من أحزاب معارضة للنظام إلى أحزاب معارضة في النظام).

والمعارضة كثيراً ما تكون مؤطّرة في النظام بحدود لا يمكن تجاوزها, فتوجيه النقد يجب ألا يتجاوز انتقاد صحافة النظام ذاته للأداء الحكومي, لأنّ دافع المعارضة الخجولة إقناع بسطاء الناس داخل وخارج الحزب بأنّ صوتها مميّز داخل النظام وليس كما يشيع المغرضون عنها بأنها صدى للنظام وصوته.

وهنا لابدّ من القول: إذا ما أُريد للتطور أن يأخذ مجراه حتى يزول التخلف والانحطاط, لابدّ من إزالة الديناصورات عن قيادات الأحزاب وتُستبدَل أصولاً بحَمَلة راية الوعي والمعرفة ليبادروا بإعادة تأسيس البنى المؤسسية للحزب ليتمكّن من الاهتمام بالشأن العام, والخطوة الصحيحة بهذا الاتجاه هي البدء من الرأس الفاسد ، لأنه بؤرة الفساد والشلل لسائر الجسد.

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 295

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى