آراء

الأمن السياسي الجغرافي واللا أمان في العلاقات الدولية

محمد زكي أوسي

كثيراً ما تشعر الدول بالقلق واللا أمان سياسياً – جغرافياً, والخوف من الجيران الأعداء, وعلى هذا الأساس تتشكل معاملتها للقوميات (الأقليات العرقية) عن طريق الشعور هذا, وبصفةٍ خاصةٍ فإن الدول لن تمنح الحق والسلطة للأقليات طواعية خصوصاً لدى الاعتقاد أن ذلك سيزيد احتمال أن تصبح الأقليات متواطئة مع الأعداء المجاورين, وغالباً ما شكل ذلك قضية في الغرب, أما في الدول الغاصبة لكُردستان فهذا هاجسها الدائم, فمثلاً ايطاليا قبل الحرب العالمية الثانية كانت تخشى أن تكون الأقلية الألمانية في تيرول أكثر ولاءً للنمسا أو المانيا منها, لذا ستساعد النمسا أو المانيا أي محاولة تقوم أي منهما لغزو وضم جنوب التيرول, وثّمة مخاوف مماثلة حول الأقليات الألمانية في بلجيكا والدنمارك ودول حوض البلطيق, من أن تتعرض لغزو الماني باسم تحرير (العرق الالماني) وأن تتعاون الأقليات الالمانية مع الغزو, وقد لعبت هذه المخاوف دوراً حاسماً في الاهتمام الدولي بمشكلة الأقليات بعد الحربين العالميتين, أما في يومنا هذا فلا يمثل ذلك قضية هامة وخاصة للأنظمة الديمقراطية القائمة في الغرب, إنما وضع الجماعات المهاجرة تقلقها أكثر وخاصة التي تنقل مشاكلها إلى هناك, ويصعب التفكير في نظام ديمقراطي غربي تخشى فيه الدولة من تعاون أقلية قومية أو جماعة السكان الأصليين مع عدو مجاور مثل سويسرا وغيرها, وسبب زوال مثل تلك المخاوف أن الدول الغربية لم يعد لها جيران أعداء, وكذلك لعب قيام (الناتو) دوراً بارزاً في إزالة مثل هذه المخاوف واستبعد مثل هذا الوضع تماماً من جدول أي مباحثات.

صحيح أن الأنظمة الديمقراطية الغربية لها أعداء محتملون على مسافة بعيدة, مثل الشيوعية السوفيتية سابقاً والجهاديين المتطرفين حالياً وربما الصين مستقبلاً ولكن رغم هذا فإن التهديدات والمخاوف مستبعدة دون شك, فلو نال الكيوبك استقلالهم فلا خوف في كندا من أنهم سيتواطئون مع تنظيم القاعدة أو الصين لإسقاط الدولة الكندية, بل بالعكس فالإعتقاد الجازم بأن دولة الكيوبك ستكون حليفة كندا, وكذلك ستكون اسكتلندا أو كتالونيا بالنسبة لانكلترا واسبانيا, وهنا لا بد من التذكير بموقف حركة التحرر الكُردية من قضايا الشرق الأوسط عموماً والدولة الغاصبة خصوصاً, مثل موقف قائد هذه الحركة من العدوان الثلاثي على مصر وإعلانه التأييد التام لشعب مصر ولعل هذا سبب هام للموقف الإيجابي للرئيس عبد الناصر من الثورة الكُردية في العراق ودعوته إلى منح الكُرد الحكم الذاتي هناك, ولا بد من التذكير بموقف الثورة الكُردية والبارزاني الخالد من الوضع في العراق من خلال رفع شعار (الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكُردستان) ولا ننسى بطولات البيشمركة في مقاومة داعش ودورهم الفعال في تحرير الموصل وما جاورها, هذا رغم عدوانية الأنظمة الفاشية والشوفينية في الدول الغاصبة والمستبدة التي لا تزال تنظر إلى القوميات والأقليات العرقية القائمة على أرضها التاريخية, على أنها (طابور خامس) تعمل لمصلحة عدوٍ مجاور, وتُحِكم هذه الدول قبضتها عليها, أما كان القذافي على حق عندما قال: (إن الأمر يقتضي إقامة الدولة الكُردية المستقلة على أرضها التاريخية لتكون حليفة للعرب والترك ضد الخط الإيراني) وهذا ما دفع برئيس الوزراء التركي لقطع زيارته إلى ليبيا احتجاجاً على مثل هذا التصريح.

إن الدول المستبدة هذه تزداد عدوانية تجاه الأقليات العرقية فيها عندما تكون هذه الأقلية مرتبطة بالدول المجاورة عرقياً أو دينياً, أو عندما توجد الأقلية القومية على جانبي الحدود, عندما تدعي الدولة المجاورة الحق في التدخل لحماية أمنها القومي, فتلجأ إلى الحرب أو عقد اتفاقات أمنية مشتركة مع الجيران لضرب العدو المفترض وهنا لا بد من التذكير بشواهد تاريخية استهدفت الكُرد لطمس قضيتهم العادلة مثل اتفاقية سعد آباد عام (1936م.) بين الدول الغاصبة وقيام حلف المعاهدة المركزية (السنتو) وحلف بغداد برعاية بريطانية, واتفاق نظام صدام المقبور مع الدولة التركية والتي سمحت لتركيا بالدخول لعمق الأرض العراقية وخاصة كُردستان, وكذلك اتفاق آضنة (1998م.) بين تركيا والنظام السوري وعيرها وكّلها تستهدف الشعب الكُردستاني وقضيته العادلة, أما كان الأجدر بهذه الدول حل هذه القضية ديمقراطياً ووفقاً لمبادئ حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير بدل التنازل عن سيادة الوطن والأرض معاً كما جرى في اتفاق الجزائر المشؤوم بين صدام وشاه إيران 6 – 3 – 1975م.

ومن المحتمل في ظل هذه الظروف, مشاهدة ما يطلق عليه علماء السياسة اسم (تأمين) العلاقات العرقية, وترى العلاقات بين الدول والأقليات لا كمسألة سياسية ديمقراطية عادية يمكن التفاوض والنقاش بشأنها, بل على أنها مسألة أمن قومي لا بد للدولة فيها من أن تحد من المسار الديمقراطي العادي لكي تحمي وجودها, وفي ظل ظروف التأمين, ربما تصبح تنظيمات الأقلية محدودة قانوناً, مثل خطر الأحزاب السياسية للأقليات, وقد يخضع قادة الأقليات إلى رقابة البوليس السري, وربما تكون المطالبة بأنواع معينة من المطالب غير مشروعة (مثل القوانين التي تمنع الترويج للانفصال أو الاستفتاء حول حق تقرير المصير), وهكذا وحتى إذا كان من الممكن الإعلان عن مطالب الأقلية, فسترفض بسهولة من المجتمع الكبير والدولة, فكيف يمكن أن تكون للجماعات التي ليس لها ولاء مطالب مشروعة ضد الدولة؟!

وعلى ذلك فإن تأمين العلاقات العرقية سيزيد من مساحة الديمقراطية التي تسمح بالإفصاح عن الأقلية ومن احتمال قبول هذه المطالب.

ومع ذلك, فإننا نجد أن السياسة العرقية في معظم البلاد الغربية غير مؤمنة تماماً (إقليم كتالونيا في اسبانيا) والسياسة العرقية هي مجرد سياسة يومية طبيعية, والعلاقات بين الدولة وجماعات الأقليات قد أخذت من صندوق التأمين لتوضع في صندوق السياسة الديمقراطية.

أما في شرقنا عموماً والشرق الأوسط خصوصاً ستبقى المنطقة بالتأكيد على صفيح ملتهب ما لم توضع قضايا الشعوب القومية على سكة الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان وتبني حق الشعوب في تقرير مصيرها وخاصة القضية الكُردية التي هي قضية شعب وأرض لا في عدالتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى