آراء

الأميرة قدم خير (غدام خير قلافند)

ليلى قمر – ديريك

كثيرة هي المآثر والعبر التي دوّنتها السريالية الشعبية الكُردستانية عبر تاريخها ، هذه المآثر التي ستظلّ تتوارد في الذهنية المجتمعية؛ فتظهرها من خلال السير والقص الشعبي والأمثال الكُردية ، كما الأهازيج والأغاني التي تواكب مسيرة حياة التجمعات البشرية، ومن ضمنها الكُردية ، وتبرز معها شخصيات / قامات نسوية و رجالية ، وعليه هنا، وقبل التوسع في هذا المجال ، أرى وكضرورة لابدّ منها في التركيز وكمقدمة على الخطوات الأولى التي ساهمت في تبلور وبروز مرحلة العصر البدئي، والذي أطلق عليه – مجتمع / عصر – مرحلة الأمومة – هذه المرحلة بحدّ ذاتها هي التي مهدت لظاهرة هيمنة المرأة / الأم ، وهيّأت لها الدور الأشبه بنظام ذي سلطة نسوية مهيمنة ، ومنحت – المرأة – فيها ، كما واكتسبت ، مكانة قداسوية متميّزة وصلت بها إلى سوية التأليه والتقديس ، ومع الخطوات البشرية المتتالية وظهور اللبنات الأولى في سياق تشكل وبناء العائلة ومن ثم الأسر ومعها بروز أشكال جديدة للنمط المعيشي من تنقل أو نصف مستقر ومستقر ، وفي داخل هذه المجتمعات وعبر العصور ومع تتالي وتعاقب المراحل ، حيث كان للنمط الاجتماعي ومن خلالها وكانعكاس عملي لها، ظهرت فئات نسوية أكثر وعياً في داخل تجمعاتها ، وأصبحن رائدات لمجتمعاتهن وأسسن لابل وضعن قواعد متينة اخذت تترسّخ كضوابط عامة في مجالات إنسانية واسعة ، واختصاراً فإنّ التاريخ يذكّرنا بشخصيات نسوية رائدات ، برعن في كثيرٍ من المجالات الإنسانية .

والمجتمع الكُردي كغيره من تلك المجتمعات ظهرت فيه نسوة لعبن أدواراً مهمة، وساهمن في تغيير نمط وظروف معيشة بيئاتهن ، واستطعن ، عبر مسيرة التاريخ البشري ، أن ترسخن حقيقة تاريخية بالرغم من اختلاف ظروف المعيشة كما التقسيمات الجائرة لكُردستان بين دول غاضبة ( تركيا وسوريا والعراق وإيران )، ورغم ذلك أثبتت المرأة الكُردية عبر تاريخها بأنها أنموذج : ( للمرأة الشرق أوسطية فهي أكثر حرية و تحركاً من غيرها ، ومناضلة تقف جنباً إلى جنب مع الرجل في جميع الميادين ، ومحاربة شرسة أيضاً في القتال إلى جانب الرجال ، وأظهرت عبر التاريخ نماذج أضحين كأيقونات تهتدي بهنّ الأجيال المتتالية ، وكانت منهن شاعرات وأديبات كما ومقاتلات وملكات وحاكمات ، وظهرت منهنّ نساء ذي بأس وشدة ، تصدرن ، ليس في مجالات الثقافة والإبداع بل حتى الحروب، عبر التاريخ والتي خلدتها الأوابد الاثرية والمخطوطات ، ونقلت إلينا عبر العصور نماذج من تلك الشخصيات ) وتمّ رصدها ومتابعتها من قبل المستشرقين وتوثيقها . وهنا وكتقدير لإرث كثير من هؤلاء النسوة الرائدات وكوفاء لهنّ، لابدّ من تسليط الضوء عليهنّ ، ولعلّ الأميرة قدم خير ( غدام خير قلافند) واحدة من الرائدات في هذا المنحى ، هذه الأميرة التي ولدت عام 1899م في مقاطعة الفار غرمسيري من أنديمشك ، وأصولها من قبيلة قلاواند، وقد اشتهرت كقائدة وبطلة مقدامة ، وهي التي سخرت كلّ إمكاناتها من أجل تحقيق طموحها الأساس والمتجسّد في هدف تحرير كُردستان وطرد المحتلين منها ، هذا الهدف الذي بات ملحاً وبشكلٍ خاص مع اشتداد ظلم وقسوة نظام شاه ايران رضا بهلوي ، فقامت بتنظيم صفوف قواتها وتجهّزت بالسلاح ، ومن ثم أعلنت ثورة عارمة في منطقة لورستان ، وقد تزامنت هذه الثورة مع ثورة القائد الكبير سمكو شكاكي ( إسماعيل خان الشكاكي ) ، وأيضاً مع ثورة الأذريين في إيران ، هذه الايقونة الكُردستانية والتي تقاطعت مآثرها وشجاعتها كما وبطولاتها وأضحت سيرتها فعلاً كملحمة بطولية ، تقاطعت مع مثيلتها قائدة الثورة الفرنسية جان دارك ومقاومتها للإنكليز ، وللحق والإنصاف ومع توثيق كثير من مآثر الأميرة – قدم خير – ومن ثم مقارنتها مع إنجازات جان دارك ، فسنلاحظ بأنّ الأميرة الكُردستانية تمتاز بصفات كثيرة عن جان دارك، وإن كانت هناك نقاط تشارك، ومنها كمثال أنّ الإثنتين استشهدتا غدراً ، وفي العودة وكتعريف تسلسلي عائلي للأميرة قدم خير فهي بنت الأمير قند القلاوندي من أمراء لورستان الصغرى ، والذي ينحدر أصلاً من قبيلة لورية فيلية مشهورة بحبها لقوميتها، وكذلك ببطولاتها وشجاعة مقاتليها . وميلادها غير موثق بكلّ أسف، وإن كان التقدير الأقرب هو في نهاية القرن 19 أو بداية القرن 20 ، وهنا وبكل أسف فحتى تاريخ وفاتها لم يتمّ توثيقه .

ومن أهم صفاتها ومزاياها ، فقد عرف عن الأميرة غدام خير بأنها كانت فتاة جميلة وراجحة العقل ، وأيضاً فارسة شجاعة ، و قد أصبحت ملهمة للعديد من المغنين والشعراء وبشكلٍ خاص باللهجة الفيلية ، وكثير من هذه الأشعار لاتزال مقاطع كثيرة منها تنشد وترتل ، وهي تمجّد صفاتها خاصةً عند الكُرد الفيليين . وفي عودةٍ إلى حياتها الطفولية ولغاية سنين المراهقة التي عاشتها في بيئتها الحقيقة، وفي ظروف قبلية وبدوية مع إخوتها ، تلك الظروف التي لم تكن بأية حال مستقرة ، بقدر ما كانت في حالة نزاع سواءً مع الحكومات من جهة أو صراعات قبلية …

ولكن القدر في أحايين كثيرة يسير بالبعض ويقوده إلى ما لا يريد ، فمع جريمة اغتيال الشاه رضا بهلوي لشقيقها شامراد خان ، آخر أمراء إمارة لورستان الصغرى غدراً في عام 1925، الأمر الذي أثار غضبها الشديد على الشاه ، حيث كان وقع الحادثة كبيراً عليها ، فتعهّدت أن تثأر له من الشاه ، إضافةً الى تخليص شعبها من طغيانه ، وأخذت تستعدّ لأجل ذلك ، فشكّلت وبقيادتها جيشاً من الكُرد الفيليين ، وعندما تهيّأت قامت بإعلان الثورة ، واتخذ هدف إعلان استقلال لورستان الغاية الرئيسية ، واتخذت من جبالها الحصينة معقلاً لثورتها ، وأوعزت لمقاتليها في البدء بمهاجمة قوات الشاه ، وبالفعل فقد نفذوا هجومهم ولمرات عديدة، ومن عدة جهات، وبالتتالي مخلفة في كل جولة ، حيث كانت تلحق بها خسائر كبيرة ، وتغتنم أيضاً الكثير من الأسلحة والعتاد ، أمام هذا الواقع سعى الشاه بكلّ إمكاناته إلى اغراء العشائر الكُردية ودفعها للمحاربة معه ضد – قدم خير – إلا أنهم رفضوا كلّ إغراءاته ، ومع فشل الشاه الذريع في تحشيد الكُرد ، أوعز لقواته بتنفيذ هجمات جديدة ضد الثورة ، ومن جديد : تكبّدت قواته خسائر فادحة ، بفعل شجاعة قواتها وبسالتهم ، وبالفعل استطاعوا ،وفي مدة قصيرة، تطهير كامل مناطق لورستان من جيش الاحتلال الإيراني ، وكنتاج لما آلت إليها التطورات أرسلت الأميرة قدم خير وفداً حمّلتهم برسالة إلى الشيخ محمود الحفيد، شرحت فيها حجم المظالم التي يمارسها الشاه رضا بهلوي بدءاً من قتل أخيها الأكبر الأمير شاه مراد خان غدراً، وطلبت فيها أيضاً من الشيخ الحفيد أن يوحّدا جيشيهما في قوة واحدة؛ لمواجهة المحتلين في شرق وجنوب كُردستان ، وأكّدت له ايضاً بأنها على استعداد أن تكون هي وكلّ قواتها بأسلحتهم وعتادهم ومؤونة تكفي لسنتين تحت إمرته ، لكن الشيخ لم يعر لطلبها أية أهمية ، وقد علّل كثيرون السبب في ذلك هو أنّ الشيخ لربما خشي من سوء الظن عند قواته ، فيفسّرون قبوله بهذا الأمر على أنّ الشيخ قد فعل ذلك طمعاً في ثروة وجاه هذه الأميرة الغنية . ومع فشل محاولات الشاه العسكرية وتكبّد قواته خسائر فادحة ، لجأ إلى المراوغة والحيلة ، فأرسل وفداً إلى الأميرة قدم خير محملاً بمجموعة من الهدايا القيمة ، ووعدها بأن يقوم بإصلاحات وعمليات إعمار في لورستان ، وأن يجهد في رفع مستوى معيشة سكانها ، وأرفق ذلك بإعلان عفو عام عن جميع الذين رفعوا السلاح ضده ، وطالب، عبر وفده، بموافقتها للزواج منه ، الأمر الذي أثار غضب قدم خير، فأرجعت الوفد مع كل ما جلبوه من هدايا ، وأرفقتهم برسالة شفهية وعبارات دقيقة ( أنا لست امرأة لأتزوج، إنما أنت امرأة ) . وبالرغم من نباهة قدم خير وعلمها بنوايا وأهداف الشاه الخبيثة ، ولكن وللأسف صدّق عدد من الثوار العفو الذي أصدره الشاه ، فسلّموا أنفسهم مع أسلحتهم للشاه ، الأمر الذي أضرّ كثيراً بالثورة ، كما وقد أثار موقف الأميرة غضباً وتوتراً كبيراً عند الشاه، فجهّز جيشاً كبيراً وزوّده بأقوى الأسلحة، وتوجّهَ به إلى لورستان ، هذا الجيش الذي ماترك أمراً شائناً إلا وفعله ، فقتل المئات من الأطفال والنساء والكهول الأبرياء ، وخرّب ودمّر عشرات القرى وأحرقها ، بعد سلب ونهب ماكانت تحتويه البيوت ، ومع كلّ طغيانه وجبروته لم يستطع أن يحتلّ جبال لورستان . الأمر الذي مكّن الثوار بالسعي لإعادة تنظيم صفوفهم جنوبي منطقة كَرميان ، ومن هناك عبروا ثانية إلى لورستان ، وبداوا هجوماً جديداً، ومن عدة اتجاهات، على قوات الشاه وألحقوا بها هزيمة نكراء وكثير من الخسائر والأضرار ، وأمام فشله المتكرر في السيطرة على المنطقة ، توصّل إلى قناعة تامة بأنه يستحيل عليه السيطرة على المنطقة بقوة الجيش والسلاح، وبالتالي القضاء على ثورة قدم خير، لذا آثر اللجوء من جديد الى الخديعة والمكر وكذلك الوعود الكاذبة ، وقام بمساعٍ لخداع الكُرد تحت ستار الدين الإسلامي ، وبمؤامرة أكبر من سابقاتها ، وقام بإرسال وفد آخر إلى قدم خير، وحمّله رسالة أخرى مع نسخة من القرآن الكريم ، وقد دوّن على جلدها الأول توقيعه وبصمة يده ، ليصدّق الكُرد بأنه مسلم ويخاف الله ، ولهذا جعل القرآن شاهداً على ذلك ، ومن ثم كتب لهم عفواً عاماً وبدون أية قيد أو شرط ، حيث ضمن عودة كل الى داره وأهله ، ومع وعد قاطع بأن يعيد إعمار لورستان بشكلٍ أفضل من السابق ، ومن الطبيعي ،وفي حالة مثل حالة الكُرد، أن يصدّقوا وعود الشاه، فانطلت الحيلة عليهم، وقاموا بتسليم أنفسهم وأسلحتهم لجيش الشاه ، سواها قدم خير وعدد قليل من الأشخاص الذين بحكم الامر الواقع اضطرّوا على تسليم أنفسهم رغم عدم قناعتهم بعفو الشاه المزعوم ، وبالفعل قام جيش الشاه في أول ليلة بتصفية معظم الثوار، واعتقلوا الأميرة قدم خير و17 من قادة الثورة وأرسلوهم إلى طهران ، حيث أعدموا جميعاً بعد وصولهم بيوم واحد ، أما قدم خير فلم ترتوِ غليلتهم ، وقد قيل في حالتها : بأنهم قاموا بربط ضفائرها بقدم بغل ، فتقطع جسدها الطاهر إلى أشلاء ، وتبعثرت قطرات دمها ، ورموها في زنزانة . ولتتوفّى قدم خير الأميرة في عام 1933 م ، بعد أربع سنوات من وفاة إخوتها وزوجها في سوزا ، ودفنت في مقبرة بجوار الجسر القديم فيها دزفول . وهنا ونحن نقرأ سريالية هذه المرأة المقاومة بشموخ مستمر ؟!

: أفليس من حقنا أن نرى في الحديث عن هكذا نساء، عبر التاريخ، وخاصة منهم تلكم اللواتي خلدن أسمائهن في صفحات التاريخ كنتاج حقيقي لما انجزنها من أعمال أو تضحيات ؟ تلك الإنجازات التي لم تلق حظوظها بما يكفي وإلى الآن ! أما كن لبوات حقيقيات ؟ عاركن الصعاب وتشاركن الرجال ملوحة الحياة وقسوتها ؟ والسؤال هنا ؟ هل حظيت المرأة، إلى اليوم، من الرجل وعبر سريالية التاريخ الطويل ، ليعترف بدورهنّ الكبير وتضحياتهنّ ، وفي تجاوز منا فكرة ودوافع رفض الحفيد العرض الذي قدّمته إليه الأميرة قلافند لكونها امرأة أكثر مما تحجج به وتخوفه من الملامة ! والعتب للدملة التي توحدت في سايكولوجية الانفة الذكورية عند الرجل الكُردي ! ستكون هي ذاتها الدملة التي لم تستطع النساء الكُرديات من معالجتها لفرط الهيمنة الذكورية وممارستها الاستبدادية ! الرجل الكُردي

التي طالما كانت هي الداعم الراسخ له حتى في بساطتها الدفاعية؛ حينما كانت تجد نفسها أمام خيارين أما الاستسلام للعدو وتركه ليأخذ منها ما يبتغي في طبع وحشي غير إنساني أو أن تحتمي في أتون النيران وتكون بذلك قد تملّكت ذاتها ولذاتها خسرت نتجه إلى مرآة واضحة الصورة في أنه في كلّ زاوية من بقاع كُردستان نسمع حكايا عن نسوة استطعن كتابة التاريخ، وصنع الحاضر والمستقبل ، وبصمة ستدوم لا محالة للأجيال .

هوامش:

١ – التاريخ الجغرافي والإجتماعي ل لورستان حميد إزيانه.. طهران جمعية الأعمال الثقافية والتكريم ١٩٩٧

٢ – كتاب لورستان : جهد سيد فريد قاسمي .. طهران الهروفيه ١٩٩٩

٣ – مقالات عديدة من غوغل إضافة إلى مواقع انترنيتية مهتمة بهكذا جوانب.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “313”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى