
الإدارة الجديدة في دمشق: الواقع السوري وتحديات الإدارة الجديدة
المحامي أكرم شمو
شهدت الساحة السورية تحولات كبيرة بعد وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في دمشق، وهو ما شكل نقطة تحول مهمة في مسار الصراع السوري. رغم الاحتفالات الشعبية المُصاحبة لهذا التغيير
إلا أن الواقع السياسي والاقتصادي في البلاد ظل متأثراً بعدم الاستقرار، دون أن تطرأ تغييرات جذرية تلبّي طموحات الشعب السوري في تحقيق الحرية والكرامة. وعلى الرغم من ذلك، حققت الإدارة بعض الإنجازات المهمة، مثل تبييض السجون وإطلاق سراح آلاف المحتجزين دون محاكمة عادلة، وإلغاء التجنيد الإجباري الذي شكل عبئاً على الشباب. كما شهدت بعض المناطق تحسناً أمنياً سمح بعودة تدريجية للنازحين، وتم تفكيك الأجهزة الأمنية المتهمة بالتورط، في انتهاكات حقوق الإنسان. كذلك، بدأت الإدارة في الانفتاح على محيطها الإقليمي والدولي، مما قد يسهم في تخفيف العزلة الدولية.
تواجه الإدارة الجديدة تحديات كبيرة في ظل العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، وهي العقوبات التي لم يتم رفعها رغم التكرار المستمر للمطالبات بذلك. هذه العقوبات لا تُرفع إلا إذا تم الاستجابة لمجموعة من المطالب الدولية التي تشمل تعزيز الحريات العامة، والمساواة بين الجنسين، والمشاركة الفاعلة لجميع مكونات المجتمع في إدارة المرحلة المقبلة. وفي الوقت الذي تُظهر فيه الإدارة الحالية استعدادها وحسن نيتها في التعامل مع الوضع الراهن، إلا أن المحاولات الرمزية والتصريحات السياسية لا تُترجم إلى نتائج ملموسة أو تحقق وعوداً دولية على المدى البعيد.
من الملاحظ في جميع تصريحات القادة السوريين الجدد أن كلمة “الديمقراطية” غائبة عن خطاباتهم، حيث يتجنبون استخدامها في البيانات الرسمية. هذا التجاهل يعكس رغبة الإدارة في الابتعاد عن هذا المصطلح في الوقت الحالي، ويشير إلى عدم وجود نية قوية في تبنيه كمنهج سياسي في الحكم. إن غياب هذا المفهوم يجعل من الصعب تحديد مدى التزام الإدارة بتطبيق إصلاحات سياسية حقيقية تُعزز المشاركة الشعبية.
كما ان الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري و فشل الإدارة الحالية في تحسين ظروف الحياة على الرغم من وعودها بزيادة الرواتب بنسبة 400%. يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر، أي بأقل من 2.15 دولار في اليوم، وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، وقد تضاعفت تكاليف المعيشة ثلاثة اضعاف خلال السنوات الثلاث الماضية بحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، وفي الوقت نفسه، نجد أن راتب الموظف السوري يتراوح بين 20-30 دولاراً امريكياً فقط، بينما يتراوح رواتب الموظفين في الدول الجوار بين 400 الى 600 دولار امريكي، على سبيل المثال، مما يعكس فجوة كبيرة في مستويات المعيشة بين سوريا والدول المجاورةمع الاخذ بعين الاعتبار الظروف الخاصة بكل دولة على حدة.
تجد السلطة نفسها في مأزق حقيقي؛ إذ لا يمكنها في ظل هذه الظروف تحقيق تطلعات الشعب السوري في بناء دولة حرة ومستقلة. كما تواجه السلطة تحدياً في تحقيق استقرار إدارة دمشق في ظل الظروف الراهنة. إن التقاعس عن اتخاذ خطوات ملموسة لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي سيزيد من الضغط الشعبي، وربما يؤدي إلى احتجاجات واسعة قد تهدد استقرار النظام. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن البلاد قد تنزلق تدريجياً إلى نفق الاضطرابات الداخلية والحرب الأهلية المظلمة، وهو ما ترفضه الغالبية السورية وتخشاه القوى الوطنية المخلصة.
إن العزوف عن تلبية مطالب المجتمع الدولي والشعب السوري، وعدم اتخاذ خطوات حقيقية في تطوير الحريات وحقوق الإنسان، سيؤدي إلى تدهور الوضع أكثر. فالتصريحات والوعود لن تُترجم إلى واقع ما لم تلتزم الحكومة بتحقيق الأهداف التي تم التعهد بها، وهي تحقيق العدالة والمساواة، وتوزيع السلطة بشكل يضمن مشاركة جميع مكونات المجتمع دون تمييز .
من جهة أخرى، لم تضع الإدارة الجديدة أي خطة واضحة للمشاركة السياسية الفاعلة لجميع القوى السياسية والكيانات المدنية ذات التاريخ النضالي الطويل. فقد تم تجاهل هذه الكيانات والأحزاب التي لها دور محوري في النضال الوطني، إذ تُقتصر الدعوات على الأفراد فقط بدلاً من الاعتراف بشخصياتهم الاعتبارية، مما يزيد من الشعور بالإقصاء ويعيق بناء حوار وطني شامل.
كما أن العديد من القوى السياسية والمراقبين كانوا قد دعوا إلى التريث وعدم الهرولة في التعامل مع إدارة دمشق حتى يتضح الموقف وتنكشف الرؤية بشكل جلي. كان من الأجدر التريث لفك الغموض المحيط بمواقف الإدارة الحالية، حتى تصبح الخطوات الملموسة والإصلاحات واضحة للجميع.
وفي إطار سياسات الإدارة الحالية، تبرز أيضًا الإدانات المتكررة لبعض الدول الإقليمية المجاورة، المتهمة بالوقوف وراء الاحتجاجات والاضطرابات الأمنية. إن تحميل الأزمات الداخلية على قوى خارجية، بدلاً من مواجهة الأسباب الحقيقية للتدهور الاقتصادي والسياسي، لا يسهم إلا في تعقيد الأوضاع ويضعف من موقف الإدارة أمام المجتمع الدولي والشعب السوري.
وفي الختام، يتضح أن الوضع السوري الراهن يعاني من ضبابية شاملة في مواقفه السياسية والاقتصادية، مما يستدعي تغييرات جذرية ومشاركة فاعلة لجميع الأطياف. لتحقيق الاستقرار وبناء دولة تحترم حقوق الإنسان وتضمن العدالة والمساواة، يجب على الإدارة الجديدة أن تتبنى إصلاحات حقيقية تشمل جميع مكونات المجتمع، وأن تتوقف عن اللجوء إلى التصريحات الرمزية والإدانات الخارجية التي تُبعدها عن مواجهة الواقع الداخلي. ينبع نجاح أي حكومة في سوريا من قدرتها على تطبيق إصلاحات شاملة وبناء حوار وطني يُعيد ثقة الشعب بالحكومة، وإلا فإن استمرار الوضع على ما هو عليه قد يؤدي إلى مزيد من الاحتقان الداخلي وربما يدفع البلاد نحو مسارات غير مأمونة العواقب.
5 مارس 2025
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “330”