آراء

البطولات الدونكيشوتية في العصر الجديد

صباح حمدو

في زمنٍ تلاشت فيه الحدود بين الحقيقة والوهم، وبين البطولة والاستعراض، ينهض “دون كيشوت” من رماده، لا بصفته فارساً يحمل سيفًا خشبيًا، بل كملايين من البشر الذين يتوهّمون البطولة في عصرٍ يعبد الصورة والضوضاء.

لم يعد الفارس الحالم يمتطي جواده ليقاتل طواحين الهواء في السهول الإسبانية، بل أصبح يركب موجات الإنترنت، يلوّح بهاتفه كما كان دون كيشوت  يلوّح برمحه، ويخوض معاركه الوهمية عبر تغريدةٍ أو مقطعٍ مصوّر أو منشورٍ ملتهب.

في هذا العصر الرقمي، تحوّلت البطولة إلى استعراض، والنبل إلى محتوى قابل للمشاركة، وصار كلّ مَن يصرخ في وجه “الظلم” أمام الكاميرا بطلًا دونكيشوتياً بامتياز، يطعن شبحاً ويظنّ أنه أسقط إمبراطورية.

إنّ البطولات الدونكيشوتية الحديثة لا تنحصر في العالم الافتراضي وحده، بل تمتدّ إلى السياسة والثقافة، وحتى المواقف اليومية.

فكم من زعيمٍ أعلن حربه ضد الفساد وهو غارقٌ فيه حتى النخاع!!

وكم من مثقفٍ نصب نفسه منقذًا للأمة بينما لا يرى أبعد من صورته في المرآة!!

إنها بطولات من ورق، تُنفخ فيها الشعارات كما تُنفخ البالونات، لتنفجر سريعاً حين تمسها أول شرارة من الواقع.

ومع ذلك، لا يمكننا أن نحاكم “الدونكيشوتيين” الجدد بصرامة تامة.

ففي عالمٍ خالٍ من الإيمان والعاطفة، قد يكون هذا الجنون آخر ما تبقّى من إنسانيتنا.

قد يكون وهم البطولة، في بعض الأحيان، صرخة ضد الجمود، وتمرداً على عبثية الواقع، ومحاولةً لإحياء القيم في زمنٍ نسي معناها.

فحين ينادي الحالم بالعدالة، حتى وإن خسر، فإنه يذكّرنا بأنّ العدالة ما زالت ممكنة.

ربما ما يحتاجه عصرنا ليس أن نسخر من هؤلاء الفرسان الجدد، بل أن نحاول تهذيب جنونهم وتوجيهه نحو معارك حقيقية.

فالدنيا لا تتغير بالعقلاء وحدهم، بل بالمجانين الذين يرفضون أن يتصالحوا مع القبح، ولو حاربوا طواحين الهواء ألف مرة.

وفي النهاية، ربما لا تكون البطولات الدونكيشوتية مجرد حماقاتٍ طائشة كما يراها العالم، بل صورة خفية من البحث الإنساني عن المعنى وسط فراغٍ متضخم.

فحين يهاجم الإنسان “طواحين الهواء”، ربما لا يقاتل الوهم بقدر ما يقاتل اللاجدوى التي تبتلع روحه كل يوم.

إن دون كيخوته في جوهره ليس فارساً ضائعاً، بل مرآة لنا جميعاً؛ مرآة تكشف ضعفنا حين نضحك عليه، وشجاعتنا حين نشبهه.

فالعصر الحديث بحاجةٍ إلى حلمٍ مجنونٍ كهذا، يذكّره أن الإنسان لا يُقاس بمدى واقعيته، بل بقدرته على أن يحلم رغم الواقع.

وهكذا، سيبقى العالم يدور بطواحين هوائه، وسيبقى في مكانٍ ما فارسٌ وحيدٌ يندفع نحوها، يحمل رمحه الخشبي، وقلبه المشتعل بالأمل.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “337”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى