آراء

التاريخ عِبَر إلا للكورد

جوتيار تمر – كاتب وباحث من إقليم كوردستان.

يستمد الانسان في غالبية الدول الشرقية وبالأخص الشرق أوسطية مقومات وجوده الحالي من التهويمات التاريخية القديمة، ويبني على أساسها وجوده الفعلي، وكأن الماضي السحيق ذاك وحده كان مرحلة الفعل الجاد بالنسبة اليه، ومرحلة التفكير والإنتاج، والتجديد والتطور ومواكبة المتغيرات وإيجاد الحلول لها، وبذلك يقحم نفسه في نستولوجيا رهيبة قاتمة، فذلك الحنين الى الماضي – في حالته هذه – ليس إلا دليل على تفشي العدمية في الذات الإنسانية، بحيث لم يعد يستطيع التعايش مع الحاضر، ليس لأن الحاضر غير مزدهر ومتطور، بل لأنه باختصار لا يستطيع أن يكون فعالاً ومنتجاً داخل الاجتماع الذي يعيش فيه، فتحول الى آفة تتآكل ذاتياً، تأخذ ولا تعطي شيئاً، وذلك ما عالجته في مقال سابق بعنوان (هل نتعلم من التاريخ)، حيث قلت فيها إن احالة وقائع الان الى الماضي لا يمكن أن تأتي بنتائج مطلقة يمكن تعميمها على مراحل التاريخ الحالية أو اللاحقة، لأن الثوابت إنما تكمن في الحدث وما آل اليه الحدث، فهو متوقف على جملة امور اخرى تكاملية في صناعة الحدث الحالي، وبذلك لا نستغرب الان وفي وقتنا الحاضر أن يتجه الناس الى دائرة التاريخ للتخفي وراء انتكاساتهم في الحاضر، والتوجس من مستقبلهم الاتي، ولعل الغريب أن الانسان رغم الانتكاسات يحاول أن يغير صورتها الى كونها تاريخ متقد ومشرق، فيلجأ الى تعظيم الماضي بدرجة تصل الى المرض، دون الوقوف على مجريات الحدث التاريخي على أنه مرحلة منقضية، يفترض بالإنسان أن يتعلم ولو جزئيات صغيرة من تلك المتحولات والمتغيرات التي طرأت على تاريخه، فضلاً عن الاخذ بعين الاعتبار كل الموجبات سواء القسرية أو حتى الطوعية التي فرضتها الاحداث التاريخية عليه وعلى بني جلدته، وتعلم كيفية التعامل معها إن تكررت، و إلا فانه سيعيش دائماً وهم التاريخ، وهم سبقه التاريخي، ووهم حضارته التاريخية، وحتى وهم وجوده الفعلي الحالي، إن عدم الاعتبار من الحدث التاريخي وتبعياته وحتى موجباته دليل على ضعف القدرة البشرية على التكيف مع الحاضر، وانعدام الرؤية المستقبلية، وبالتالي يقع تحت وطأة التكرار، كما يقول ألفرد ويتني جريسولد :” إن الذين لا يعتبرون من أخطاء الماضي مكتوب عليهم تكرارها مرة أخرى..”، وهذا ما يحدث للشعوب الشرقية بشكل عام، ولنا نحن الكورد بالذات، تكرار أخطاء الماضي تحت مظلات واهمة، وايديولوجيات متزعزعة لا ثوابت فيها، والوان لبست ثوب الاغتراب مع انها الوان تنتمي الى عمق الأرض، وتأخذ من سمات الأرض بريقها.

وذلك ما فرض على غالبية الكورد بالأخص تلك الشريحة التي تتدعي الوعي وهي لا تعي إلا مخلفات القشرة الخارجية من التاريخ الكوردي، اللجوء غير المنطقي الى احياء نعرات الماضي، والتباهي ببعض الإنجازات التاريخية التي كانت تناسب وتلائم تلك المرحلة التاريخية من مراحل الامة الكوردية، حتى انها تحولت بفعل عدم الاعتبار من التاريخ الى عائق في الاندماج الأيديولوجي، والتوافق الثوري، والفهم الصحيح لمعنى التاريخ، فبدل أن يتخذ خطوات تناسب المرحلة وذلك عن طريق فهم المتحولات والمتغيرات الإقليمية وما تستوجبه للاندماج مع المنظومة الدولية، نجده يتلاعب بالمفردات، ويتفنن في التبريرات، ويعيش حالة تهويمية لا مجدية، وكما يقول عبدالرحمن منيف:” التاريخ يعلم الانسان الدروس، ويجعله اكثر وعياً، وأقدر على اتخاذ الخطوات المناسبة..”، فإن الكوردي لم يتعلم من تاريخه كما غالبية الشعوب الشرقية إلا التباهي، وبدل أن يجعله التاريخ واعياً بالمنطق الحالي، ومدركاً لتبعيات وجوده الحالي، ليتمكن من اتخاذ خطوات تتناسب المرحلة، واستغلال ولو اسمياً اندماجه بالمنظومة الدولية، نجده يوظف مكتسباته المحدودة هذه في بناء قاعدة تنافريه عدائية تجاه بعضهم البعض، ويعلل خطواته هذه بشبكة من التبريرات اللامجدية، وغير المنطقية، وحتى غير التاريخية، حتى تحول بفعل لا وحدته، وعدم قدرته على تجاوز مصالحه الشخصية أو لنقل الحزبية، الى آفة تنهش بجسد الامة الكوردية، فكأن وجوده على ارض الكورد – كوردستان – ليس إلا لفرض التبعية التي اقرتها الأنظمة الدولية، وفرضتها قسراً على الامة الكوردية، وبالتالي لا يعيش الكوردي على ارضه إلا ضمن دوائر انتمائية غريبة عليه، وعلى تراثه، وعلى وجوده السبقي، وحتى على موروثاته وتقاليده، وعلى ذلك الأساس يمكن القول إن الكوردي يقرأ التاريخ ولا يفهم منه شيئاً، وبعبارة أدق كما يقول ادولف هتلر:” حقاً إن بعض الناس يقرأون التاريخ ولا يفهمون منه شيئاً..”، ونحن الكورد وغالبية الشعوب الشرقية من هذه الفئة اللامجدية اللامنتجة التي تقرأ التاريخ لتتباهى بالماضي فقط دوان فهمه.

إن فهمنا للتاريخ كان من المفترض أن يتحول الى ورقة ضغط بيدنا للحصول على مكتسبات لا حدود لها، وذلك من خلال الاخذ بعينات تاريخية معاصرة تواكب الاحداث في مجتمعاتنا وصهرها فكرياً بمطالبنا المشروعة، لاسيما أننا نعيش تحت مظلة تاريخية قائمة على تجاوز وهم الماضي والاخذ بالحاضر والتوجه للآتي، والعمل على فرض مفاهيم نحن بأمس الحاجة اليها، لاسيما تلك التي تتعلق بالديمقراطية، التي باتت تفوق مستوى الدولة القومية، أو في مستوى عابر للقوميات، وقد نقل لنا حسين طلال مقلد في دراسة له بعنوان( الأحزاب الأوروبية ودورها في صنع القرار في الاتحاد الأوروبي)، مقولة للعميد جورج فيديل(ت2002) الذي وبحسب تعبيره كان قد استشف منذ أمد بعيد هذا التطور ” في أي نظام قومي، أو دون القومي، أو فوق القومي، لا يستطيع الانسان أن يعيش كإنسان إلا ديمقراطياً، وهذا هو المضمون الدائم والمتسامي للسيادة الديمقراطية، ولكن الامر المحتمل الحدوث بدقة، لأنه مرتبط بمعطيات تاريخية، إنما هو الطابع الحصري المعترف به للاطار القومي كمكان يُؤذَن فيه للأغلبية بأن تحكم، وعليه فإن شيئاً لا يمنع من التطلع الى وجود ديمقراطية فوق قومية، ومن العمل على تشجيعها..”، وذلك ما يُفترض أن يستسيغه الكوردي ليتجاوز الكثير من الفرضيات القسرية التي يعيشها، ضمن دوائر التقسيمات الإدارية التي يعيشها، دون محاولة تجاوز تلك التقسيمات لفرض ايديولوجياته الحزبية التي قد تتناسب حدود جغرافيتة الإدارية – لعدة اعتبارات منها طبيعة الحكم والفكر المتحكم بالسلطة فضلاً عن الأيديولوجيات المنتشرة ضمن تلك الدائرة الإدارية – ، ولكنها قد لا تتناسب مع حدود جغرافية إدارية الاخر الكوردي، وبالتالي العمل على فرض وجوده من خلال استغلال الفرضيات التاريخية المعاصرة لاسيما المنادية للديمقراطيات فوق القومية، والعمل على خلق انموذج سياسي فكري مهيمن على قواعده بدل بث روح التفرقة، ومن ثم عند حصوله على مكتسبات تخدم القضية الاسمى، مد يد العون لأقرانه في الدوائر الإدارية الأخرى ضمن حدود الممكن والمتوافق مع صيرورة العمل لتلك الدوائر، وليس اقحام نفسها بصورة قسرية تحت مظلة شعاراتية مظللة، تعمل على زيادة النعرات اللونية الحزبية، وتؤثث لأيديولوجيات سلطوية انفرادية، اشبه بالديكتاتوريات التي تتحكم بالأرض الكوردية في الأصل.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “308”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى