التعليم السوري ضحية الاستبداد والمشاريع العابرة للحدود
عبدالباسط سيدا
يعاني السوريون، إلى جانب التدمير واالتهجير والتشريد والتغييب، والأوضاع الاقتصادية البالغة الصعوبة، وواقع تقسيم البلد بين جيوش وميليشيات متعددة الجنسيات والمصالح والحسابات، مجموعةَ مشكلات وجودية كبرى، ستؤثر -لا محالة- في عملية رسم ملامح مستقبلهم ومستقبل بلدهم وأجيالهم المقبلة. ومن بين أهم هذه المشكلات، المشكلة الخاصة بالواقع التعليمي، وذلك لكونها تمثل العمود الفقري لللمشروع الوطني السوري الذي يبقى هو المخرج، شرط أن يُطمئن جميع السوريين من دون أي استثناء، ويفسح المجال أمام الجميع لإعادة ترميم النسيج المجتمعي الوطني، وإعادة بناء الوطن على أسس صلبة، بعد القطع مع سلطة الاستبداد والإفساد وتوابعها وإفرازاتها؛ فالتعليم الذي من أهم وظائفه وأهدافه إعداد الكفاءات والكوادر في مختلف الاختصاصات، وعلى جميع المستويات، يعاني واقعًا بائسًا في مختلف المناطق السورية. فالمدارس هي في أسوأ حالاتها، وتفتقر إلى أبسط المستلزمات التربوية، والصفوف الدراسية مزدحمة بأعداد تفوق استيعابها، والطلاب لا يحصلون على الحد الأدنى من التعليم المقبول، والجهاز التدريسي يعاني الأمرّين نتيجة النقص في الأعداد والكفاءات، هذا إلى جانب الظروف المعيشية البالغة الصعوبة، ولا سيّما من جهة الرواتب شبه الصفرية، وذلك بفعل البون الشاسع بين مستويات انهيار الليرة السورية، والارتفاع الجنوني المستمر في الأسعار.
لقد عانى القطاع التعليمي في دول أخرى ظروفَ الحرب والمشكلات المترتبة عليها، لكن الحالة السورية تبقى فريدة من نوعها، من ناحية طول مدّتها، وتعددية الجهات المنخرطة فيها، وحرص كل جهة على فرض أيديولوجيتها وبرامجها عبر المناهج الدراسية على الطلاب؛ الأمر الذي أدّى ويؤدي إلى خلق تمايزات وخلافات كبيرة في الرؤى والتوجهات في ميدان إعداد الطلبة، في مختلف المناطق السورية، وتأهيلهم ليكونوا مواطنين فاعلين يمتلكون القدرات العلمية في مختلف الاختصاصات، والملكة النقدية التي تمكنهم من تشخيص المشكلات، والإسهام في حلّها.
ففي مناطق سيطرة النظام، يُعتمد المنهاج الدراسي الذي يغلب عليه الطابع العقائدي الذي يمجّد أيديولوجية حزب البعث، وخرافات النظام الأسدي، خاصة ما يتصل منها بـ “القائد الملهم الضرورة”، وبـ “خط المقاومة والممانعة”.
أما في منطقة إدلب، فالمناهج المعتمدة، وهي بصورة عامة مناهج “الحكومة المؤقتة” التابعة للائتلاف، تخضع لتدخلات وتأثيرات هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، عبر “حكومة الإنقاذ” وغيرها، وذلك بهدف تلقين الأطفال أفكار التطرف والتشدد، ليكونوا استمراريةً لنهجها الذي لم، ولن، يكون أبدًا في مصلحة السوريين، ووحدتهم، وتماسكهم، ومشروعهم الوطني.
هذا في حين أن المناطق الخاضعة للسلطات التركية والفصائل المتحالفة معها، أو التابعة لها، تتميز بالخلط بين المناهج التركية، وتلك التي اعتمدتها وزارة التربية في الحكومة المؤقتة.
أما المناطق االخاضعة لإدارة حزب الاتحاد الديمقراطي/ الواجهة السورية لحزب العمال الكردستاني، فتعتمد مناهج عدة منها: مناهج النظام، خاصة في المناطق التي ما زالت قوات النظام فيها؛ وهي تُستخدم في تعليم الطلاب العرب بصورة أساسية. وإلى جانب ذلك، هناك مناهج الحكومة المؤقتة التي تُعتمد في بعض المناطق العربية غير الخاضعة للنظام. أما في المناطق الكردية، فقد فرضت الإدارة المعنية على الكرد السوريين مناهجَ مستمدة من أيديولوجية حزب العمال الكردستاني، تحت ذريعة اعتماد اللغة الكردية في التدريس، وهذا الأمرُ كلام حقّ يُراد به باطل. فالتعليم باللغة الكردية في المناطق المعنية، والاعتراف الدستوري بالثقافة الكردية على الصعيد الوطني السوري، وحرية الكرد في التأليف والنشر؛ كل ذلك كان من بين مطالب الكرد منذ البدايات، وهي المطالب التي كانت تطرح تحت عنوان الحقوق الثقافية. ولكنّ ما يفعله الحزب المعني، من خلال فرض مناهجه القاصرة علميًا بصورة تعسفية، يؤدي إلى حالة كارثية، ما زالت العملية التربوية في واقعها التطبيقي تعاني تبعاتها الوخيمة.. وبغض النظر عن الأهداف الحقيقية لهذا المشروع، فإن النتائج والوقائع على الأرض تؤكد وجود إخفاقات بنيوية، في الوضع التعليمي بين الكرد السوريين الذين اشتُهروا دائمًا بحرصهم على تأمين التعليم الجيد لأبنائهم، ولو على حساب لقمة عيشهم.
إن التدقيق الأولي، في النتائج التي ترتبت على هذا الإجراء الغريب الذي يفتقر إلى أي شرعنة، يبيّن لنا أن التعليم المدرسي بين الكرد السوريين قد دُمّر في واقع الحال، وذلك مرده أنه لم يراع أبسط مستلزمات التعليم، وهي المناهج العلمية الموضوعية، والكوادر التعليمية، إلى جانب ضرورة وجود لغة مدرسية تمتلك المصطلحات والمفاهيم العلمية في سائر المواد الدراسية. فكل هذه الأمور غائبة عن االتعليم الذي فرضه حزب العمال -عبر واجهته السورية- على الطلبة الكرد السوريين، الأمر الذي أدى إلى اعتراضات كبرى من جانب الأهالي، وأسهم في حدوث هجرة كبيرة نتيجة إقدام كثير من أولياء الطلبة على نقل أولادهم إلى مناطق أخرى، أو إلى خارج البلد، بغية تأمين التعليم اللائق لهم.
وما سيؤدي إليه الواقع الراهن للتعليم في مختلف المناطق السورية، على الصعيد العملي، إذا ما استمر هكذا، هو تخريج دفعات من الأمّيين، علميًا وثقافيًا، ومن المشبَعين بنزعات التشدد والتطرف؛ الأمر الذي يهدد مستقبل جيل بكامله، سيضطر أبناؤه في كثير من الأحيان إلى البحث عن العمل ضمن الميليشيات الوافدة، وسيكونون بيادق في مشاريع الآخرين، ووقودًا للمعارك التي يُكلَّف بها المتعهدون؛ وهي معارك لا تتقاطع من قريب أو من بعيد مع مصلحة السوريين بجميع مكوناتهم.
المشروع الوطني السوري الذي يُعدّ المخرج، بالنسبة إلى الحالة السورية المستعصية الراهنة، لن يكتمل من دون مدرسة وطنية، تدرّس منهجًا وطنيًا يعطي الاعتبار لكل المكونات السورية، من دون أي استثناء، ويركّز على القيم الوطنية المشتركة، من دون الوقوع في فخ الخلط بين الأيديولوجيا بكل صيغها وألوانها، أو العصبيات الدينية والمذهبية والقومية من جهة، والمادة العلمية المعرفية من جهة أخرى؛ حيث ينبغي أن تكون مهمة المدرسة الأساسية تهيئة مواطنين سوريين في جميع الاختصاصات، يعترفون بالتنوع السوري، ويحترمون التعددية بكل أشكالها، ويعتبرونها وجهًا أساسيًا من أوجه الهوية السورية بأطيافها المختلفة، هوية متفاعلة مع محيط سورية المتنوع هو الآخر، لتستعيد سورية دورها الحضاري المألوف عبر العصور.
وفي هذا السياق، يجدر التركيز على دور المناهج الدراسية في تنمية الملكة النقدية التي لا يمكن من دونها مواجهة الحملات التجييشية التي يتكأ عليها أصحاب الأيديولوجيات، ممن يستخدمونها لتكون أداة تعبوية تفرّق بين السوريين، وتدفع بهم نحو اصطفافات ما قبل وطنية، أثبتت التجارب على مدى عقود أنها لم تجلب لسورية سوى الإخفاقات والكوارث والتراجعات في جميع الميادين، خاصة في الميادين الاقتصادية والسياسية والإدارية.
سورية تحتاج إلى عملية إعادة إعمار كبرى، تبدأ بالمجتمع، ثم العمران، وهي العملية التي لن تكون قبل التوافق على مشروع حل سياسي محوره المفصلي عملية انتقال سياسي حقيقي، يفسح المجال أمام مصالحة وطنية شاملة، ونهضة معرفية تستفيد من إنجازات المبدعين السوريين في الداخل والخارج، بالرغم من كل الجراح، ويكون هدفها تأمين حاجات السوريين وتمكينهم من إنقاذ مجتمعهم، بعد تجاوز أسباب الخلل ونتائج كل ما جرى. ومن الطبيعي أن يكون للمدرسة الدور الأول في هذا المجال، وذلك من جهة تزويد الطلبة بالمعارف المطلوبة، وتأصيل الروحية الوطنية في نفوسهم، روحية واعية متمردة على التخندقات العصبوية، رافضة لظلامية سلطة الاستبداد والمشاريع المتشددة؛ روحية تؤكد أن سورية الوطن تتسع لكل السوريين من دون استثناء، وقادرة في ظل إدارة راشدة نزيهة على توفير مستلزمات العيش الحر الكريم للجميع.
مركز الحرمون