التموضع الأميركي الحازم في سوريا مفاجأة غير سارة لموسكو وشركائها
راغدة درغام
التغيير الذي طرأ على السياسة الأميركية في سوريا في الشهرين الماضيين لجهة تفعيل الدور الأميركي السياسي وتثبيت التواجد العسكري وتمتينه ترك أثره الملحوظ على ثقة روسيا بامتلاكها المفاتيح في تصميم وهندسة أدوار تركيا وايران وكذلك الولايات المتحدة في سوريا. عاد الاستقطاب بين المعسكرات المتضاربة وعادت معه الإشارات المتناقضة من داخل المعسكر الواحد. وعليه، تراجع تفاؤل الذين افترضوا ان الحرب السورية انتهت، وان بشار الأسد انتصر، وان ايران و “حزب الله” سجّلا نصراً استراتيجياً عبر البوابة السورية، وان موسكو قطفت الثمرة وفي أياديها كامل املاء المستقبل في سوريا بما في ذلك توزيع المكافآت على تركيا أو غيرها. توقفت عجلة العملية السياسية الموكلة الى الأمم المتحدة عبر المبعوث ستيفان ديماستورا نتيجة تفاقم الاستقطاب والتناقضات، إنما مع الحرص على التمسك بمركزية العملية السياسية حين تختمر ظروفها. وبحسب أحد المعنيين “صعب جداً أن يحصل أي تقدم في مرحلة اعادة التقويم واعادة التموضع”، فالمسألة ستتطلب الوقت – “ليس في أسابيع ولا أشهر” بل أكثر. ذلك ان المعادلة اختلفت جذرياً بسبب وضوح استعادة الولايات المتحدة زمام المبادرة في سوريا واحياء نفوذها في العراق واثبات حزمها نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مختلف الجبهات.
الحرب ضد “داعش” و “النصرة” وغيرها لم تنته بعد – ولربما عمداً. كل الفاعلين في الساحة السورية والساحة العراقية يستفيدون من استمرارية “داعش” حتى وان كان في بقايا متناثرة منه – فهذا التنظيم ذخيرة في أيادي الكل بقرار مسبق، مع اختلاف الدرجات. وحسبما يبدو، ان قذفه من هنا الى هناك يأتي في اطار الاحتفاظ ببقاياه للتأثير والنفوذ عند الحاجة ان كان داخل سوريا أو في قذفه الى ليبيا أو في العراق. إنما في العراق اليوم حدثٌ يبشر خيراً وهو انتخاب الديبلوماسي اللائق برهم صالح رئيساً والسياسي الودود عادل عبد المهدي رئيساً للحكومة – وكلاهما مخضرم في السياسة والديبلوماسية. انهما عنوان الاعتدال والعمل نحو التوافق والمصالحة الوطنية، ومعهما توجد فرصة للعراق للانتقال الفعلي نحو هوية عراقية بعيداً عن املاءات طهران أو غيرها. ما حدث في العراق قد يدخل في اطار تطويق ايران ومشاريعها الاقليمية، سيما على ضوء الضغوطات الأميركية الجدية واجراءاتها الحادة ضد النظام في طهران – داخلياً وعلى صعيد مشروعه الاقليمي في اليمن ولبنان والعراق وسوريا.
حديث ممثل الولايات المتحدة الخاص الى سوريا، جيمس جفري، أثناء برنامج “الجهات الأربع” في قناة “الحرّة” الذي شاركتُ فيه الأسبوع الماضي كلام يجدر التوقف عنده نظراً لوضوحه ولإيضاح معالم السياسة الأميركية الجديدة في سورية. قال “ستبقى الولايات المتحدة في سوريا حتى يتحقق انسحاب كامل للقوات الإيرانية ووكلائها” والرئيس الأميركي هو الذي يحدد “طبيعة التواجد الأميركي هناك”. كلام جفري نيابة عن وزارة الخارجية أكد ما قاله مستشار الأمن القومي، جون بولتون، عن استمرار التواجد الأميركي العسكري في سوريا. انما بولتون أوضح أكثر عندما قال ان أميركا باقية في سوريا عسكرياً الى حين عودة جميع القوى الإيرانية حيثما كانت الى داخل الحدود الإيرانية.
هذا يعني ان ادارة ترامب لا تحصر تمتين تواجدها العسكري في سوريا أو العراق بالبلدين وإنما هدفها الآن هو اعادة “الحرس الثوري” الإيراني الى الأراضي الإيرانية لكبح تصدير الثورة الإيرانية ونموذج النظام في طهران.
لربما هذا هو ما أدى بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقول في مؤتمره الصحفي في الأمم المتحدة هذا الأسبوع “لا يمكن حصر ايران في قفص ضمن حدودها” و “اقفال الباب على ايران ضمن حدودها ليس واقعياً”. لافروف احتج وانتفض عندما طُرحت عليه أسئله تطالبه ان كان يعني انه يدعم التوسع الإيراني في الدول العربية. وقال “هكذا تختلق الأخبار الزائفة” مبرراً التواجد الإيراني في سوريا انه “بدعوة من الحكومة السورية”.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحدث قبل أيام عن ضرورة “ان نتوصل الى هدف عدم تواجد أية قوات أجنبية في سوريا على الاطلاق”. أضاف “بما في ذلك روسيا – إذا أتى القرار على مستوى حكومة الجمهورية العربية السورية”. ما يقصده بوتين بالدرجة الأولى هو قوات “التحالف” الدولي وفي مقدمتها القوات الأميركية. انما الكرملين يميّز أيضاً ما بين تواجد القوات الروسية بموجب “اتفاقية” مع الحكومة السورية تشمل القواعد الروسية في سوريا وبين تواجد القوات الإيرانية بـ “دعوة” من الحكومة السورية. ولذلك يبقي الباب مفتوحاً على احتمال ان يضطر الى التوافق مع البيت الأبيض على ضرورة مغادرة القوات الإيرانية الأراضي السورية، مع بقاء القوات الروسية هناك ومعها القوات الأميركية.
جيمس جفري تحدث عن “تواجد قواتنا في نحو ثلث سوريا وهي تمنع وصول قوات الحكومة السورية من الوصول الى تلك المناطق، وعبر ذلك التواجد بشكل أكبر من خلال الحلفاء المحليين يمنعون القوات الإيرانية من الوصول الى تلك المناطق.
تابع جفري قائلاً “لكن مهمة القوات الأميركية هي هزيمة داعش نهائياً – علينا ان ندرك ان نظام الأسد هو الذي صنع تنظيم داعش، ولذلك فإن ضمان اعادة اطلاق عملية سياسية تُعَد جزءاً من مهمتنا السياسية – كما قال الرئيس – وذلك عبر ايجاد نظام في دمشق لا يهدد شعبه أو جيرانه ولا ينتج نسخة جديدة من داعش”. ولدى سؤاله ان كانت ادارة ترامب تعتقد ان أيام الأسد معدودة، قال “اعتقد ان أي نظام يتصرف كما يفعل نظام الأسد أيامه معدودة أو ان على الروس والايرانيين بذل جهد هائل ومبالغ طائلة من الأموال والمخاطرة بشكل كبير – مقارنة بالدول الأخرى المنخرطة في سوريا – في محاولة لاعادة احياء جثة، وهي الدولة السورية الحالية”.
ماذا عن الاستراتيجية الثلاثية للنظام السوري وايران وروسيا؟ “انهم يسيطرون على نصف الأراضي وعلى نصف السكان ولقد اصطدموا بالقوات التركية في الشمال الغربي وبحلفائنا من القوات المحلية في الشمال الشرقي وبقواتنا وحلفائنا في الجنوب”، قال جفري. وتابع “لذلك لديهم نصف البلد ونصف السكان، ولا يملكون السيطرة على حقول النفط أو الغاز ويجلسون على كومة من الركام دون بصيص أمل في أن يقدم المجتمع الدولي مساعدة لاعادة الاعمار أو لانعاش الاقتصاد حتى نشهد انطلاق عملية سياسية. وهذا هو تعريفي للأمر. ويبدو انهم يخسرون الكثير. اليس كذلك؟”.
الزميل ميشال غندور الذي أجرى الحديث قال لجيمس جفري “لكن الإيرانيين والروس أرادوا الابقاء على النظام السوري. وهذا ما حدث”، فرد قائلاً: “بإمكان هذا النظام ان ينجح في البقاء على كومة من الركام بإسناد من الروس والايرانيين – واستخدم كلمة بإسناد قصداً – وذلك عبر انفاق مليارات الدولارات الى متى ما شاء. فنحن لا ننفذ عمليات عسكرية ضد هذا النظام على حد علمي. وبالتأكيد ليس هذا ضمن خطتنا”.
ما تنفذه ادارة ترامب في سوريا هو ضمان المصالح عبر التواجد العسكري والأمني والسياسي مع السيطرة على المناطق الحيوية في سوريا بدون كلفة بشرية – أي بدون خسارة للقوات الأميركية في سوريا. هذا هو أساس استراتيجية الإدارة الأميركية في سوريا. الروس والإيرانيون يدفعون الثمن بضحايا من قواتهم العاملة في سوريا. انما ليس الأميركيين. لذلك تعمّد جفري القول ان واشنطن لن تنفذ عمليات عسكرية ضد النظام في دمشق. هذا لا يعني الموافقة على استمرار بشار الأسد في الرئاسة. بل ان كلام الأسبوعين الماضيين كشف ان تغييراً طرأ على مصير الأسد اذ ان نبرة الكلام تفيد بلهجة اعادة مصير الأسد الى الواجهة فيما كان حديث الأمس يكتفي بتجاهله.
دمشق ليست وحدها القلقة من التغيير في السياسة الأميركية وانما طهران في أقصى القلق والتوتر نتيجة السياسات الأميركية نحوها داخلياً وفي العراق وسوريا. موسكو أيضاً قلقة لأن النهج الجديد لإدارة ترامب في سوريا أوقف قطار الانجازات الروسية وفرحتها بامتلاك مفاتيح مصير سوريا. فلقد عاد الأميركيون بمواقف عسكرية وسياسية صلبة بعدما كان الروس اعتقدوا ان اميركا اتخذت قرارها بالسماح لروسيا ان تسرح وتمرح في سوريا دون أن يتصدّى لها أحد. الوضع الآن اختلف واثاره باتت مجهولة في مرحلة التموضع الحالية.
ماذا ستفعل روسيا؟ ما زال مبكراً الإجابة على هذا السؤال علماً ان لدى روسيا وسائل التأثير في ايران والقدرة على تلبية الشروط الأميركية التي تمكّن الدولتين الكبريين ان تتفاهما لو قررت موسكو فك ارتباطها بطهران. هذا قرار ضخم ومعقّد لن يتسرع الكرملين اليه ما لم يتأكد من تفاصيل تلك الصفقة الكبرى التي تزداد ابتعاداً وقرباً في آنٍ واحد. اجراءات استبعاد ايران عن سوريا لن تحصل بين ليلة وضحاها. الواضح تماماً ان هذا هدف جازم لادارة ترامب وهي تنوي تنفيذه مهما استغرق الأمر وطال الزمن. فكلفة بقاء الولايات المتحدة في سوريا – البشرية والمادية – رخيصة جداً مقياساً مع الكلفة الروسية أو الإيرانية فيما مردود الاستثمار الأميركي في سوريا عالٍ جداً. وكما قال جيمس جفري – لا مناطق النفط ولا الغاز تحت سيطرة الروس أو الإيرانيين أو النظام في دمشق.
بالأمس القريب، اعتقد الكرملين ان ثلاثي “استانة” استراتيجية تضمن له السيطرة على سوريا على أساس ان روسيا وتركيا وايران يشكلون الثلاثي الذي له سيطرة ميدانية. اليوم، تطالب واشنطن الكرملين ان يعيد النظر في علاقاته مع الطرفين الآخرين في ثلاثي استانة. فلا هي مستعدة للتساهل مع علاقة روسيا التحالفية مع ايران في سوريا. ولا هي راضية على تكتيك التقارب الروسي مع تركيا علماً ان انقرة عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو).
امتعاض واشنطن من امداد موسكو الى دمشق المنظومة الدفاعية ضد الصواريخ S-300 الخطيرة على الطيران المدني لا يعني ان الكرملين يرتاح الى قراره الذي اضطر الى اتخاذه بعد اسقاط دمشق – عن طريق الخطأ – الطائرة الروسية. بالتأكيد، تنوي موسكو ان يدير خبراؤها هذه المنظومة حتى وان كانت رسمياً في أيادي الجيش السوري. الخطر، حسب المراقبين، يكمن في ان اسرائيل واليونان تدربوا واصبحوا خبراء في الـ S-300 وهذا يعني ان خطراً ميدانياً على الأفق بما لا تبتغيه موسكو الحريصة على علاقات جيدة مع اسرائيل داخل سوريا وثنائياً.