التنظيم في الحزب الكردي والتجديد
المهندس: عبدالله كدو
ظلّ المجتمع الكردي في سورية يعيش حالة من العزلة ، في قرى متباعدة تتقاسمها عشائر متخاصمة ، في بقاع منسية بعيدة عن مركز القرار ، حتى بلغت العزلة التي عاشتها تلك العشائر درجة اكتساب كل منها لكنة خاصة في الكلام ، تميزها عن الأخرى ، واستبدت بها العزلة أكثر فأكثر عندما انفصلت قسراً عن أسواقها في مراكز المدن الكردية التي ظلت على الجانب الشمالي من الخط الحدودي الفاصل بين الكيان الجديد – سورية – والدولة التركية ، بعد تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو قبل قرن من الزمن .
لقد شهد المجتمع الكردي في سورية حتى نهاية خمسينيات القرن الماضي نفوذا قوياً للإقطاع ، حيث سادت القيم والأفكار العشائرية التي استمدت ديمومتها من الاقتصاد الزراعي المتخلف في دولة أرادت أنظمتها السياسية المتعاقبة منذ فجر الاستقلال الوطني الإبقاء على الأوضاع السياسية والاجتماعية السيئة كما هي ، أو انزياحها سلبا – باستثناء فترة قصيرة – مستفيدة من تجربة الاستعمار القديم في التعاطي مع رعاياه ، و بلغ الأمر درجة لا يجد حتى مجاهدو الاستقلال غضاضة في الإفصاح عن ” الحنين إلى عهود الاستعمار ” .
الآن ، بعد أن بلغنا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ، ثمة أحزاب كردية ما زالت تعتمد أساليب وآليات في العمل السياسي ، تبدو آثار العلاقات الاجتماعية القديمة حاضرة فيها بشكل ملحوظ ، لأن مكونات عقل الحزبي الكردي العامل في هذه الأحزاب ، تكاد أن تكون نفس تلك القديمة المتمثلة في الموروث الثقافي والاجتماعي و التجارب الحسية التي تكونت لديه خلال نشاطه المجتمعي الذي يحكمه التفكير الارتجالي ، دون الذهاب للاستفادة من تجارب الآخرين وامتلاك معارف تخوله للولوج إلى عالم الحوار النقدي ، ذلك لأن الأحزاب الكردية بشكل عام وتلك المومأ إليها بشكل خاص ، لم تتمتع منذ تأسيسها بالكادر المتخصص المحترف ، ولا بمراكز الدراسات ، ولا بإعلام حرّ فعال يتناول واقع الحركة السياسية ويراقب أداءها ، بعيدا عن النزعات الحزبية الضيقة ، فيعيد هذا النمط من الحزب الكردي إنتاج ذاته عبر قبول طلبات انتساب أبناء وبنات رفاق حزبيين قدامى ، ممن يلوكون اليوم كلاماً ليس ببعيد عن كلام آبائهم ، المنسوج من حكم ومعان تنتمي إلى الحياة القبلية أكثر منها إلى العصرية .
إن شروط القبول في الأحزاب الكردية تتيح لكل كردي سوري يقبل بدفع اشتراكاته وحضور اجتماعاته الدورية ، الانضمام إلى أي منها ، دون إيلاء اهتمام إلى السوية الثقافية لطالبي الانتساب ، وبذلك ترى أن الأحزاب الكردية تأوي كل ما هبّ ودبّ ، وعليه ظهر من يتندر بأن درجة يقظة الجهاز الحزبي الكردي وحيويته تسمح للشخص الواحد العمل في أكثر من حزب كردي ، لما لشروط القبول وطريقة التدقيق في سجل طالبي الانتساب ، من التخلخل والتراخي ما يكفي لذلك .
على خلفية ما سبق ترى أن هذا النمط من الحزبيين لا يصدق بأن السياسة علم وفن ، وأن لا سياسة عصرية دون ثقافة سياسية مقروءة ، و ليس مسموعة فقط ، أما الثقافة السياسية هذه فقد لا تكون معرّفة لديه أو غير متفق على تعريفها ، حيث ما زال يعتقد بأن الذكاء الفطري وقوة الذاكرة لدى الشخص تكفيانه ليكون سياسيا أو على الأقل مسؤولاً ، وعليه أصبح سبيل الارتقاء في الحزب والاحتفاظ بالمرتبة المطلوبة أمراً متفقا عليه لدى هذا النمط ، فالأمر يحتاج إلى تنسيب أعداد من النمط المذكور ، ممن لا يستسيغون من الحياة السياسية سوى الزيارات و المجالس ، وعليه ترى أن درجة اندفاع هذا الحزبي تتناسب طرداً مع درجة التواصل الاجتماعي الميكانيكي – الزيارات ونحوها – حتى يتحول الحزب إلى ناد للأصدقاء ، أكثر ما هو فضاء سياسي وفكري يجمع رفاقاً ، أيا كانت المسافات المكانية التي تفصلهم عن البعض .
إن سيادة التفكير القبلي القائم على نزعة تقديس الزعيم المخلّص والانتقال الوراثي للزعامة ، تفسر- جزئياً – أسباب احتكار قادة بعض الأحزاب الكردية مناصبهم لعشرات السنين ، رغم الانعقاد الدوري للمحافل الحزبية – مؤتمرات ، كونفرانسات ، اجتماعات موسعة وغيرها – للتجديد للأمين العام أو السكرتير السابق ، الذي يرتبط بحبال سرية مع القوى الراجحة داخل التنظيم ، وبحبال سرية وعلنية مع أحزاب تحكمها – هي الأخرى – المصالح الحزبية أكثر من تلك القومية أو الوطنية .
لذا ، على اعتبار أن الآفة مزمنة وتمتلك أسباب البقاء ، فان أحزاب الحركة الكردية بحاجة إلى تدخل واع في نظام الانتخاب داخل الحزب ، وإكساب هذا الجانب من العملية الديمقراطية خصوصية كردية ، لإحداث القطيعة مع الإرث القبلي ، بقوننة هذا النظام ، مثلما تدخلت الأمم المتحدة حيال تحديد نسبة عدد النساء – الكوتا – في المجالس المحلية والبرلمانات ، ذلك بأن يتم تحديد مدة صلاحية الأمانة العامة للأحزاب بداية ، و العمل على توفير سبل و مستلزمات التجديد بما يضمن نسبة معينة للشباب ضمن الطاقم الحزبي القيادي بشكل دوري ، دون تعارض مع روح الديمقراطية ، الأمر الذي يطمئن ديمقراطيين من نموذج الأستاذ كامل إبراهيم عباس – اللاذقية – الذي كتب في رسالة إلى مؤتمر حزب الوحدة الديمقراطي الكردي السادس : ( إن قوى عديدة في المنطقة ما تزال ترتبط برجلها الأول ولا تستطيع التخلي عنه …….. يشذ عن ذلك في سورية حزب الشعب الديمقراطي السوري الذي أنتخب أمينا عاما جديدا في مؤتمره الأخير ، وفي لبنان لم يتم التجديد للمرحوم الشهيد جورج حاوي في الحزب الشيوعي اللبناني أيضا ، لا أعرف أين يقف حزب الوحدة في هذه المعركة ، هل أنتخب أمينا عاما ، أم تم التجديد للأمين العام السابق ؟ أتمنى أن تضعوني بالصورة ) ، سيتفاءل الأستاذ عباس أكثر عندما يسمع بأن حزبا سوريا آخر هو حزب يكيتي الكردي قد انتخب سكرتيراً جديداً له في كل مؤتمر من مؤتمراته الخمسة منذ انطلاقته في ربيع عام 2000.
المفارقة الكبرى أن أجهزة المخابرات الغربية تفرج عن ملفاتها السرية بما تنطوي على أخطاء وفضائح بعد نحو كل ربع قرن رغم خطورتها ، أما عند أحزابنا الكردية فقد تراكم الكثير من الأخطاء السياسية والتنظيمية والملفات السرية التي تحمل في طياتها حقيقة لقاءات وصفقات ومواقف وممارسات تقشعر لها الأبدان ، يجب الإفراج عنها ، لتأخذ الحلقات المفقودة أمكنتها في سلسلة تاريخ حركتنا السياسية ، فتصبح في متناول الجميع وتتمكن الأجيال من الاستفادة من دروس ذلك التاريخ ، فقد ظلت – تلك الأسرار – بعيدة عن أضواء الإعلام الحزبي المنحاز، الذي ما زال ينبذ الانتقاد والتقييم ، أسيرة التفكير الجمعي الحزبي ، تحت يافطة سرية العمل السياسي تارة و نبذ المهاترات تارة أخرى ، ( المهاترات )هذا المصطلح الذي طالما وقف حاجزا عائقا أمام حرية الرأي والتعبير والنقد في الحزب الكردي ، ظل مبهماً ، دون تعريف وتحديد لمعناه ، ليكون صالحاً للاستخدام بكل الاتجاهات ، ضد مساعي التجديد التي قد تطال الفئات المتنفذة في الحزب الكردي وخاصة تلك التي آلت على نفسها البقاء في موقعها إلى ما شاء الله .
إن العقل الحزبي الكردي لم يسع – بشكل جدي – لتهيئة البيئة السياسية الخصبة المتناسبة مع برنامج سياسي مستقبلي استراتيجي ، وجل اهتمام قادة الكثير من الأحزاب الكردية منصب حول الراهن الحزبي المحاصر بنزعة المقارنة مع ما هو موجود حولك الآن وفقط الآن , دون محاولة استشراف المستقبل الذي يدور حوله كل الدوائر, ويتم تسويغ هذه النزعة بمقولات تسوّق كمسلمات من قبيل ( إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب ) ، هذه النزعة دفعت بعض الأحزاب للسعي إلى الكم على حساب النوع لإنتاج أعضاء تبسيطيين مبرمجين للعمل في ظروف سياسية واجتماعية محددة وخلف شخصيات محددة ، ومن شأن أي تغيير في هذه المحددات أن يقذف بهم خارج التنظيم ويدفعهم لإعلان الانشقاق عن الحزب .
إن من شأن نظرة فاحصة إلى الأوضاع التنظيمية المضطربة التي أتينا على ذكرها ، إيفادنا بأن البطالة السياسية السائدة في الكثير من أطراف حركتنا السياسية ، هي أحد أهم أسباب هذه الأوضاع ، هذه البطالة التي استمدت استمراريتها من إرعاب الجماهير من ردود أفعال النظام والإقدام على أي شيء جديد، وكان طرح ” الموضوعية السياسية ” غطاءا سياسياً لحالة اللاممارسة في السياسة والاكتفاء بالحديث عن السياسة.