الثورة السورية والمفارقات السياسية في غرب كوردستان
جان كورد
18 كانون الأول، 2014
قال حكيم لا أتذكر اسمه الآن: ” إذا قاد الأعمى اعمى مثله فقد يقع الاثنان في حفرةٍ لا خروج لهما منها.”
أعتقد أن هذا ينطبق كثيراً على واقع حركتنا السياسية في غرب كوردستان… لماذا؟
منذ اندلاع الثورة السورية، والسياسيون الكورد باتجاهاتهم السياسية وأسماء أحزابهم المختلفة يرسمون لنا صورةً غير واقعية عما يحدث في هذه البلاد التي يعيش الكورد فيها كمكونٍ هامٍ من مكوناته القومية والدينية، وهذه الصورة غير الصحيحة تظهر غرب كوردستان وكأنه عالم لا علاقة له بما يجري في هذه البلاد. فمنهم من لايزال يتحدث عن ضرورة استمرار الثورة السلمية منذ الوقت الذي بدأ النظام بحملات اعتقالات واسعة وعذّب الأطفال حتى الموت بصورة وحشية وسلّط شبيحته المجرمة على الشعب السوري لتقوم بالنهب والسلب والدفن حياً والتعذيب الذي لا مثيل واغتصاب حرائر السوريين ودك المدن والأرياف بالمدافع والهاون وجواً بالطائرات المقاتلة والحوامات والبراميل المتفجرة، من دون أن يدافع عن البلاد في وجه الطائرات الإسرائيلية التي كانت تقصف ما تشاء في أطراف العاصمة وتحلّق في سماء القصور الرئاسية.
بعض هذه القوى الكوردية السورية رفضت المساهمة في أي عملٍ وطني سوري مشترك يهدف إلى تغيير النظام جذرياً وتحصنت هذه القوى وراء جدران “الخط الثالث!”، وخلف يافطات أخرى، بمعنى “لا مع الثورة المسلحة” و “لا مع النظام”، وسارعت بتفويضٍ من النظام أو برضاءٍ منه إلى إقامة “إدارة ذاتية ديموقراطية” لا تصرّح في أي من أشكالها وأسمائها عن حقيقة أن هذه “الإدارة” قد أقيمت في مناطق تسكنها أغلبية كوردية من دون المناطق الأخرى في سوريا، وراحت تبني قواتٍ قتالية بذريعة الدفاع عن هذه الإدارة التي أطلقت عليها اسم “الثورة الديموقراطية!” لما سموه ب”الأمة الديموقراطية!”، ولم تشارك إلا في أضعف حلقات المعارضة الداخلية التي من هيئاتها “هيئة التنسيق الوطني” التي كانت ولا تزال تلقى قبولاً حسناً من الدول الداعمة لنظام الأسد، وفي مقدمتها روسيا وإيران المشاركتين في الحرب على الشعب السوري، وتذرعت هذه القوى لدى تشكيلها قوات مسلحة “مليشيات شعبية” بأنها تسعى لإبقاء المناطق الكوردية في سوريا بعيداً عن الصراع الدموي الجاري، في حين أن كثيرين من منتقدي هذه السياسة قد أكدّوا على أن “انتقام القوى الإسلامية السورية” من الشعب الكوردي سيكون قاسياً لأن هذه القوى ترى في التصرّف الذي عليه هذه الأطراف الكوردية دعماً للنظام وعداءاً للثورة، بل إن هذه الأطراف “الكوردية!” تمادت في سياستها الخاطئة بأن فرضت هيبتها على المناطق الكوردية ورفضت مشاركة الأحزاب الكوردية الأخرى من العمل سوى في ظل مبتكراتها الفانتازية وقواها المسلحة، وتاريخ هذه المرحلة الداكنة من العلاقات الكوردية الداخلية تثبت ما نقول، مما أضّر بالشعب الكوردي وقضيته القومية العادلة، وبهجوم تنظيم الدولة الإسلامية على كري سبي (تل أبيض) وسه رى كانيي (رأس العين) و تل عران وتل حاصل والحارات ذات الأغلبية الكوردية في حلب، ومن ثم القرى الكوردية جميعها في منطقة كوباني، وتحقيقه انتصارات هامة على “قوات الحماية الشعبية” وأخيراً هجومها الواسع على مدينة كوباني (عين العرب) تأكّد لشعبنا أن سياسة “الخط الثالث!” لم تكن ناجحة، ولم تنقذ الكورد من أتون الحرب، وأن النظام لا يساعد بجدية من يقف على الحياد في حربه على شعب سوريا برمته، وأن تصرّف حزبٍ واحد وكأنه الحاكم بأمر الله في الشارع الكوردي لم يكن منتجاً، فهرع سادة هذا الخط الفاشل إلى إقليم جنوب كوردستان وهم غير مقتنعين أصلاً بخطوتهم تلك، حيث قال أحد زعمائهم في مدنية دهوك بأنهم جاؤوا إلى الإقليم “مضطرين!” أي ليس عن قناعة بالعمل المشترك مع الأحزاب الكوردية وإنما لوقوعهم في مأزق لن يخرجوا منه دون مساعدة من “إخوتهم الكورد!”. وتناسوا تماماً حربهم الشعواء الإعلامية على قادة الإقليم ورئاسته، بل طلبوا من أتباعهم التظاهر في ألمانيا مطالبين بمنع السلاح عن البيشمركه التي احتاجوا لمساندتها فيما بعد… إلى آخر ما هنالك من صفحاتٍ سوداء يعتبر البعض الحديث عنها الآن “خطوة سلبية في مجال الوحدة الوطنية!” وهذا تفكير سطحي لأن الوحدة الوطنية –إن كانت عن إيمانٍ وثقةٍ متبادلة – فإنها لا تتمزّق بالحديث عن الأخطاء التاريخية الخطيرة على أمل تفادي أمثالها مستقبلاً.
بعض القوى الأخرى التي تمكنت من إثبات وجودها الفعلي في الشارع السوري من خلال المظاهرات الشعبية الواسعة، لم تكن تملك قوى مقاتلة، لا باسم الشعب الكوردي ولا كفصائل للثورة السورية وتأرجحت بين جبهة “الخط الثالث” الرافضة لها وبين المعارضة السورية التي لم تفكر يوماً بجدية في وجود مكوّن قومي غير عربي في سوريا يمتلك إمكانات ضخ الثورة بعشرات الألوف من المقاتلين، وهذه القوى الكوردية نفسها كانت منقسمة على بعضها البعض، فمن زعمائها من ظل خطابه أقرب إلى خطاب النظام الأسدي وتركيزه المستمر على أن “الأولوية في تصفية الإرهاب” وليس في شيءٍ آخر، بل لم ولا يستخدم مصطلح “إسقاط النظام” في أدبياته الحزبية، و ظل رغم كل مذابح النظام وحملات التعذيب وقصف البنى التحتية للبلاد وتشريد الملايين من الشعب السوري مطالباً ب”الثورة السلمية” التي دفنتها الدبابات والمروحيات والهاونات والطائرات والصواريخ الأسدية منذ زمنٍ بعيد. فلم يعد لدينا إلا قلائل من المعارضين السوريين، وحتى الديمقراطيين منهم، يثقون بالحركة السياسية الكوردية.
لا نريد التطويل في موضوع “مجلس شعب غرب كوردستان” والمجلس الوطني الكوردي” اللذين يعتبران ذاتهما شرعية، ممثلتين لشعبنا المشرّد، رغم أن المجلسين مختلفان سياساتٍ ومطالبَ واستراتيجيات، إذ لا أعتقد أن شعباً من الشعوب متناقض استراتيجياً مع نفسه إلى هذه الدرجة التي عليها هذان المجلسان، ونعلم كلّنا أن العديد من الناقدين قالوا منذ البداية: ” الهيئة الكوردية العليا” ستفشل لأن الأساس الذي تقوم عليه غير متماسك وحبوب التسكين لا تفيد في هكذا قضايا هامة، بل تغييرات جذرية وحاسمة في الاستراتيجية القومية عامةً. ومع الأسف ذهبت تنبيهات وتوصيات وملاحظات هؤلاء الناقدين الملتزمين حزبياً والمستقلين أدراج الرياح ولقت العنَتَ من زعماء الحركة الذين ظنوا بأن كل ما يفعلونه هو انعكاس لإرادة الشعب ويعبّر عن مطالبه وأنهم يحظون بتأييده.
واليوم، بعد تجربة كوباني “طروادة كوردستان” المريرة التي نقلت القضية الكوردية السورية إلى محافل المجتمع الدولي، بل أثّرت إيجابياً في الوضع الكوردستاني عامةً، إلى جانب بسالة وتضحيات البيشمركه، تولّدت “المرجعية السياسية” التي لا يرى لها السياسيون والقانونيون مثيلاً على المستويين الإقليمي والعالمي، فالمرجعية تعني “إرجاع القرارات والخلافات” لها، وهذا يفترض أن تكون أعلى من اللجان المركزية التي تقرر من ينتسب إليها ومن لا يحق له الانتساب، ولا أدري كيف يمكن القبول من قبل قواعد أحزابنا بهذه المرجعية ومناهج الأحزاب على اختلاف كبير في مختلف المسائل القومية والوطنية، أو على الأقل هناك تياران شبه متعاكسين على مسارات مختلفة، منها موضوع التعامل مع المعارضة المطالبة بإسقاط النظام ورفع الراية القومية الكوردية وتسمية الإدارة الذاتية وجيش الدفاع عنها والشروع في القتال المسلّح ودمقرطة الحركة الكوردية… و… و…
وطالما هناك اتفاق بين تيارين على إيجاد “مرجعية” فستظهر مشاكل أخرى بظهور قوى وأحزاب ترفض المرجعية أو تعارضها، فكيف سيتصرّف المرجعيون حيال هذه المشاكل؟
ديموقراطياً لا توجد مرجعيات سياسية ولا يحق لأي تيارٍ أو طرفٍ فرض نفسه وأفكاره على سواه من التيارات والأطراف، فالتصادم هنا بين أسس النظام الديموقراطي وبين فكرة “المرجعية” التي ليست إلاّ جسماً غير مختلف عن “الهيئة الكوردية العليا” الفاشلة أو المدفونة بأيادي هذه الأحزاب ذاتها. وأعتقد أن مجرّد دعم قيادة إقليم جنوب كوردستان وبعض الأحزاب الكوردستانية الأخرى لقيام هذه المرجعية لن يغيّر من حقيقة وجود صراعٍ سياسي شديد في الشارع الكوردي السوري، وهذا قد يتسبب في “وأد المرجعية” كما تم وأد الهية الكوردية العليا، مما سيعمّق الجرح النازف في غرب كوردستان. وأرى أن القادرين على تأسيس هذه المرجعية كانوا قادرين أيضاً على حل المجلسين أو دمجهما في مجلسٍ واحد، فلماذا لم يقوموا بذلك العمل المأمول أولا؟
غرب كوردستان في خطر دائم لأن المجاميع المتطرّفة والإرهابيين المتحالفين مع العنصريين الشوفينيين لن يدعوا شعبنا الكوردي يعيش في أمانٍ ويبني مستقبله بنفسه على أرض وطنه كوردستان. ولذا أقول:
“إن غرب كوردستان ليس حقل تجارب لأحزابنا التي فشلت حتى الآن في إيقاف الهجرة الطوعية منها وحتى في تخفيف “التعريب الطوعي” لقطاعاتٍ واسعة من شعبنا، ولن تصمد في حربٍ قد يشنها الإرهابيون طويلاً لأنهم حالياً في حربٍ مع النظام وفيما بينهم وضد الجيش العراقي وبيشمركة كوردستان أيضاً، فإذا غيّر التحالف الدولي موقفه تجاههم، وترك لهم مناطق النفوذ كما فعل مع “طالبان” أفغانستان، فإن أوّل المتضررين الذين سيدفعون ثمناً غالياً لسياساتٍ خاطئة لزعمائهم هم الكورد. وكما حذرنا من قبل أولئك الذين اعتبروا أنفسهم “خطاً ثالثاُ” في الثورة السورية، وطارت مناطق كوردية واسعة من أياديهم في أيامٍ قلائل، فإننا ندعو قادة الأحزاب الميامين إلى الاستفادة من تجارب السنوات القليلة الماضية، وعدم اعتبار “المرجعية السياسية” انتصاراً عظيماً لهم، ما لم يضعوا لها أساساً ديموقراطياً وقومياً وسورياً صلباً وحيوياً. وأعتقد أن من يشاركنا هذا الرأي من حزبيين ومستقلين يزدادون يوماً بعد ولا ينقصون.”