الدولة الحديثة وتطوّر مفهوم المواطنة .
* بسام العيسمي *
الدولة بمفهومها الحديث والذي ساهمت أوربا بتطويره وترسيخيه لوصوله الى الحالة التي هي عليه الآن. لازال مفهوم إشكالي وملتبس في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة. وذلك لضعف الثقافة الديمقراطية في البيئات العربية . وافتقارنا لثقافة المواطنة المتساوية. كون البيئة السورية التاريخية والموروث الثقافي هو جزء من هذا الفضاء المعرفي العام في المنطقة. والتي ترزخ شعوبها ولا زالت تحت وطأة سلطات قهرية استبدادية. قد تختلف شدة الاستبداد بالدرجة بين هذه الدولة أو تلك. لكن أي منها لا ترتق في توصيفها لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة.
وثقافة المواطنة وكما تؤكده مسارات تطور الشعوب وتجاربها. والمراحل التاريخية التي مرّت بها لا تكون في أي مجتمع إلّا في إطار الدولة الوطنية الديمقراطية. ولا تترسّخ فكراً وسلوكاً إلّا مع رسوخ النظام الديمقراطي واتساع مطارحه في المجتمع.
كما أن الديمقراطية وتعزيز ثقافة المواطنة. هو السياق الطبيعي الذي يقود للدولة الحيادية. بوصفها دولة الكل الاجتماعي . والمساحة التوافقية الحاضنة لكل أبنائها جميعاً. بغض النظر عن التنوع الديني او الاثني او السياسي. والمطرح السيادي الذي يحقق الإجماع العام لكل المواطنين.
والسلطة هي سلطة الدولة المكلفة بإدارة مؤسساتها والحفاظ على سيادتها. وتحقيق العدالة فيها وحفظ حقوق وحريات المواطنين .وتلبية حاجات المجتمع, وتحقيق التنمية. فهي مخوّلة بالصلاحيات التنفيذية الكاملة في الحدود التي تمكنّها من أداء مهامها في إطار الدستور القائم ومقتضيات العقد الاجتماعي. فالسلطة متبدّلة والدولة ثابتة.
وتخضع السلطة للمسائلة ومراقبة أعمالها وتصرفاتها. وكل سلوكياتها في سياق قيامها بوظيفتها دون شطط وفي حدود القانون الناظم لعملها.
وحين فشلها وتقصيرها. أو تغولها على حقوق الأفراد وتجاوز صلاحياتها ؟ تتعرض للعزل وسحب الثقة منها. فالسلطة هي المطرح السياسي. ولا قدسية في السياسة. والسياسة هي حقل الائتلاف والاختلاف. وواحة للتنافس والصراع والاشتباك السلمي بين الرؤى والأفكار والتصورات والمصالح والميول والبرامج. يجري وفق قواعد وآليات الديمقراطية, وميدانه المجتمع. أما الدولة هي المطرح السيادي. فلا خلاف أو اختلاف على السيادة.
ومكمن الخطر يكون في ابتلاع السلطة للدولة, ولبس عباءتها لتضع نفسها (أي السلطة )بموضع السيادة والقداسة؟
وبالتالي ينعدم الحقل السياسي الذي هو الحقل المفتوح للاختلاف وصراع المصالح والأفكار والرؤى. وتنعدم قدرة الأفراد على الممارسة السياسية, وتقويم السلطة إذا تجاوزت وظيفتها وعسفت بحقوق الناس ؟. ليصبح كل من يعبّر عن أفكاره وقناعاته التي لا تتوافق مع قناعات ومصالح وسياسات السلطة التي تقمّصت الدولة. وكأنه اختلف مع الدولة نفسها. وتُكال له التهم الجاهزة مثل النيل من هيبة الدولة. وإضعاف الشعور الوطني. ووهن نفسية الأمة وو وما إلى ذلك من ترهات.
وفي سياق هذه المعادلة يفقد أفراد المجتمع وقواه الوطنية بمختلف تكويناتها كل الضمانات التي تكفل لهم استخدام حقهم المشروع بالممارسة السياسية. وتدخل في دائرة الممنوع. مما يقود هذا لتعميم القهر والعنف والظلم والفساد وضياع الحقوق في المجتمع. وتتحول هذه السلطة عن وظيفتها الأساسية كأداة بيد الدولة وأحد مكوناتها الثلاث التي تعمل على تسيّر أمور المجتمع , وتلبية احتياجاته, وتعزيز سلطة القانون فيه وحفظ الحقوق. الى سلطة مستبدة فاسدة متسلطة ؟ تحتكر القوة لتعبث بالقانون بدل تعزيزه, وتتنكر لحقوق المجتمع وأفراده بدل حفظها.
وهذا يقود لتغيير العلاقة بين الأفراد والسلطة في سياق هذه المعادلة. حيث تنظر إليهم بكونهم رعايا لا مواطنين ؟. وتتعامل معهم من زاوية اعتراضهم أو قبولهم للرضوخ والعبودية والظلم. ودرجة والولاء لها. ولا تنظر إليهم بوصفهم مواطنين كرماء, وكيانات حرة وأصيلة وسيدة.
فبدل أن تكون السلطة هي سلطة الدولة وذراعها التنفيذي الذي يقود مؤسساتها لتلبية حاجات المجتمع. وفرض سلطة القانون وحماية الحقوق. تصبح دولة السلطة المتسلطة. بدلاً من سلطة الدولة ؟.
وفصل المقال بأن الدولة بمفهومها الحداثي الذي طوره الغرب لم يرَ النور بعد في منطقتنا ؟ . ولم تتجاوز الدولة مرحلتها الجنينية بعد. لغياب وتغييب الدولة وابتلاعها من قبل السلطة, ثم تتقيئها مؤسسات ديكورية وهياكل كرتونية وأحجار شطرنج تحركها وتعيد ترتيبها وتوظيفها من جديد لخدمة مصالحها.
والدولة الحديثة كما يُجمع غالبية الباحثين, وعلماء الاجتماع والسياسية. هي كيان سياسي وإطار تنظيمي لوحدة المجتمع وتنوعاته. ضمن مساحة جغرافية محددة.
وهي الوعاء الذي ينصهر فيه جميع أفراد المجتمع, بمختلف تنوعاتهم وانتماءاتهم الدينية والقومية والجهوية والعصبوية بمختلف اشكالها.
هذا الخليط المتنوع ينتج عنه مكون جديد وبمواصفات جديدة, لا يشبه أي من مكوناته التي صنعته. وإن كان لا يناقضها, ولا هو في تضاد معها. فهو منها جميعاً .. هذا الخليط يدخل الى الدولة عبر بوابة المواطنة التي تعيد تعريف جميع الأفراد كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات والمكانة. وتكافئ الفرص. لمجرد انتمائهم الى الدولة وحمل جنسيتها كرابط وحيد غير متوقف على إي شرط آخر.
فعروبتي ليست شرطاً لسوريتي, ولا كرديتي,ولا إنتمائي الديني أو الطائفي شرطاً لازماً لها.
بسام العيسمي في سطور :
( محامي وسياسي سوري. عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير في سورية. صدرت له مجموعة من الأبحاث والدراسات القانونية. إضافة الى مجموعة من الدراسات والأبحاث التي تتعلق بالشأن العام المجتمعي والسياسي في طبيعة الدولة والسلطة والديمقراطية. عضو مكتب تنفيذي سابق بهيئة التنسيق الوطنية. صدر له مؤخرا في العام الماضي كتاب ( ألم المخاض السوري لثورة لم تكتمل.)