آراء

العولمة وسلبياتها

ليلى قمر
/ ديرك/

صدق من قال بأنّ العالم ليس سوى قرية صغيرة، وسأضيف عليها وبكلّ بساطة : لكننا فقدنا فيها حميميتها الروحانية ، وأصبحنا في الواقع بأمس الحاجة أن نعود بين الفينة والفينة إلى الذات أولاً، ومن خلالها إلى المحيط وبرؤية نقدية ، ونجهد بكلّ السبل الممكنة ايضاً بإجراء عملية مقاربة حقيقية لكثيرٍ من القضايا الموضوعة، كما والمتغيرات والسلوكيات الطارئة منها، وخاصةً المستجدة كنتاج لمآلات التحولات المرئية المحدثة منها والمبتكرة ، ومن ثم مقارنتها بالأقدم والتي قد يكون الزمن – ربما – قد أفقدها الكثير من ركائز استمراريتها، وأوجد بدائل أفضل موائمة لزمنها المستجد ، وذلك بمقارنتها بين ماضٍ بسيط بمحدودية فرصه وحاضر اكتظّ بتقنيات مبهرة مدعومة بما هبّ ودبّ من وسائط ببرمجيات مفتوحة قد تتيح لأي كان ( صالحاً أو طالحاً) وبكبسة زر أن ينتشلك من واقعك ويطوف بك وكمخيال في أصقاع الأرض ،كما الطير المحلّق في السماوات.

وهنا ! وفي لحظة مقاربة وتأمل لواقع عصرنا الحالي وحتى الماضي القريب ، وفي نطاق جغرافيتنا ذاتها : فبالتأكيد سنلاحظ كيف تهاوت حواجز عديدة ، وانهارت معها قلاع حصينة، وباتت الحدود أشبه بظواهر هلامية، كما السموات وقد باتت منفتحة نطاقياً وبالكامل ، والتكنولوجيا هي الحاكمة الأصيلة، وكل جيل يسلّم صولجان التحكم بسلاسة إلى البرمجية الأطور ..

وفي الواقع وكانعكاس عملي للمنجزات الهائلة والتي لم تكن البشرية بالمطلق تحلم بسرعة هذا الإنكشاف التقني على العقلية البشرية ، هذه العقلية التي انطلقت مغادرةً جمودها وأخذت تنطلق من اختراعٍ إلى آخر ومعها تتراكم الخبرات والتجارب ، وكلّ هذه الإحداثيات بمبتكراتها استطاعت وببراعة مرنة ومسلحة بوسائط سهلة لاختراق الجغرافيات المحدودة بجدرانها كما أسوار قلاعها الحصينة ، وبات العالم كله منفتحاً على بعضه ، وقد ساهم لا بل ساعدت ظاهرة التحول السريع وبقفزات متسارعة أكثر ذلك الكم الهائل من المنجزات في وسائط التواصل الحضاري وسهولة التعاطي كما واستخدامها مما يسرّ ظاهرة ابتكار وتسخير أدوات اتصال وتواصل كما ومواصلات حديثة، مما سهّل في كثيرٍ من الجوانب بإزالة المصاعب من جهة ، وسرعة الإنجاز أيضاً ، وبتوفير كلّ هذه الأدوات ومستلزماتها كما وعواملها المساعدة ، فقد كانت كفيلة بأن تدفع بالمجتمعات إلى التحول ولتنتقل البشرية من واقعٍ إلى عصر أقل توصيف يمكن إضفاؤه عليه أنه عصر تكنولوجيا المعلوماتية.

ولكن ومع كلّ ذلك بقي وسيبقى ذلك الحنين إلى تلك الحياة البسيطة وحاجياتها المثقلة كانت بعجزها الكبير في توفير مستلزماتها اليومية ، ولكن المرنة بآلياتها التي اكسبتها مع الأيام والعصور سهولة التعاطي مع سبل الحياة بمتغيراتها وتقلباتها ، واكسبت البشرية تجارب جديدة ، كما ومرونة التعاطي مع الظروف، مهما بلغت درجات قساوتها وتقلباتها ، ولتبقى الحياة – بناسها – ومع كل المتغيرات ذي طابع واضح والنفوس البشرية ظلّت هي مرٱة للنفس ، وكأية سلوكية بشرية أصرّت وبتصميم أن تنسجم أولاً مع الذات وأن تتأقلم مع ربوع المحيط وسبل كما وآليات التعامل البيني بشرياً، ومن ثم كيفية التعايش ضمن قوانينه المجتمعية رغم صعوبة تطبيقها في ٱحايين كثيرة ، وذلك كانعكاس حتمي للطبيعة البشرية وسلوكيتها ، سواءً من جموح وتنمر ، أو تصرف غابي غير منضبط و متصقل بعد.

وبصورةٌ أوضح : هو تقمص نزعة العيش الغابي كما حيواتها الأخرى ، أو وهي أيضاً ظاهرة تخضع لها التجمعات التي لم تكن قد تهيّأت بعد ، وهنا سنلاحظ ظاهرة الجموح البشري ، والهرولة كقطعان أو فرادى، والكلّ يبحث عن مخرج مضمون يؤدّي بهم لتحقيق لا مطالبهم واحتياجاتهم فقط ، بل جلّ رغباتهم غير المحسوسة منها حتى ، والتي لربما قد يكون هو منفرداً أو مع مجاميعه قد وفر سبلاً سلسة يستطيع من خلالها الحصول على غالبية مايرنو إليها من أمنيات وأهداف ، ويسخّر لأجل ذلك كلّ مافيه من ملكات حتى يكون سبّاقاً في تحقيق تلك الأمور وتنميتها ، وتوفير سبل الحفاظ عليها واستمرارية بقائها وحمايتها من الإنقراض ، وفي واقع الحال وبهذه النقطة ومع التطور العلمي والتكنولوجي ، ومع مرور الزمن، فقد ساعدت التكنولوجيا وما وفّرته من تسهيلات وادوات سخرت لخدمة البشرية وتسهيل أمور الحياة فاستطاع تأطير ما وصل إليه من تقدم علمي ، ومساعي جمع المنجزات العلمية السابقة أيضاً في برمجيات خاصة يمكن عرضها وبثها عبر شاشة صغيرة سهلة الإقتناء لدى جميع الأعمار ولاستخدامات متعددة أيضاً ، قد تكون في بعضها لغايات غير نبيلة حتى ، ولكن ومع ذلك يبقى العلم هنا بريئاً لا بل ويظلّ هو العماد الأساس لنهضة الشعوب وقوام تقدمها وقوتها.

وفي العودة إلى كثير من الوقائع ، سنرى كيف أنها – الشعوب – استطاعت تأمين الظروف والممكنات المساعدة للتحول والانتقال المجتمعي من حالات الفقر وفقدان بوصلة التحول ومع الجهد المبذول على أرضية الاقتناع الحقيقي بضرورة التحول والانتقال ارتقاءً بالمجتمع وتطويره وتوفير كل سبل بناء أوطان حديثة ومتقدمة ، ولنا في آسيا نماذج رائعة مثل ماليزيا وسنغافورة وتايلاند ، ومؤخراً أخذت اندونيسيا أيضاً تخطو خطوات مهمة ، وهذه التطورات تؤكّد وبلا شك بأنّ المنجزات والتحولات ومسألة الانتقال من حالة الجمود والتقوقع إلى تحديث وتطوير كما وبناء الأوطان ليس حكراً على عرق أو مجتمع محدد بقدر ماهي الإرادة والإدارة التي تستوجب أن تكون في أول ألف بائها شعار بناء الإنسان أولاً وذلك بتحريره من عقلية الخنوع والخضوع والإذلال، وتعويده على احترام القانون الجمعي والتسلح به حمايةً لنفسه أولاً والمجتمع بالتكافل والتضامن ثانياً ..

إنّ المجتمعات التي تربي أجيالها وتوعيهم على قاعدة إدراك ما له وما عليه، وذلك من خلال القوننة كضبط مجتمعي لا كفرض جبري، وبالتالي تتوازى وتتساوى القوانين النصية الموضوعة منها والممارسة مجتمعياً كعرف ، قبل أن تكون قد تغلّفت وأصبحت سائدة وملزمة بحكم القانون .. هذه الممارسات التطبيقية والتي يخضع لها الجميع دون استثناء هي الضامن الحقيقي لنمو وتطور الممالك بدولها والعيش الكريم أيضاً لشعوبها ..

إنّ العلم وبعلمائه – الغالبية منها – وبالرغم من التقدم المذهل رضخت للقانون، فكانت خير مسلك لشعوبها واستطاعت بذلك مجابهة كثير من الصعوبات، وباختصار هنا ، علينا أن نذكر أيضاً بأنّ الأمر لم يقتصر على هذه القضايا الحميدة ، بل رافقتها ظواهر سيئة وصلت إلى حالات تدميرية أيضاً ، كما واستجلبت معها أموراً لم تكن موجودة ، وظهرت حزم عديدة وكحالات مرضية نتجت في الأصل من الاستخدامات السيئة لهذه التقنيات الحديثة من جهة ، وكذلك عدم توعية البيئات إن من مخاطر هكذا أمور على البنية المجتمعية مستقبلاً ، ناهيك عن حجم المشاكل والقضايا الخلافية التي تنتجها ، فلا غرو أن نرى أو نسمع عن قضايا وصور مختلفة وامثلة لضحايا عديدين كنتاج للاستخدام السيء والمسيء لهذه التكنولوجيا ، كحالات القتل أو الانتحار كما السجن ، ولم تنج أبداً من الاستخدام السيء كما ظاهرة استدراج الصغار والمراهقين إلى التكنولوجيا السوداء ( مثلما الصدمة التي أصابت العالم مما حدث في لبنان وواقعة الاستغلال الفظيعة للطفولة واستدراجهم وليتحولوا إلى مصدر قذر في جمع الثروات استغلالاً لبراءة الطفولة ، وفي الواقع ، هناك حالات عديدة وبأساليب متنوعة ، وكلها خلت من أية روح إنسانية بل تملّكتها نزعة إجرامية شريرة استهدفت البراءة والقيم الإنسانية في الصميم ، وتزايدت جرائمها التي صنّفها المشرعون تحت بند – تهمة الاغتصاب تحت التهديد وكثيرة منها انتهت بالقتل أيضاً.

وبكلّ أسف ! ورغم كلّ ما يتصف به هذا العصر من سبل ووسائل التوعية الفردية والمجتمعية ، والضوابط الاخلاقية والشرعية ولكن ! علينا ألا ننسى ذلك السيل الجارف من الامور الحاضة على ما يمكن تسميته بالإنفلات وتحت بند الإنفتاح بكل ّمعرفاته ، ومن ثم الإستخدام السيء للبرمجيات وأفلامها المتنوعة وبدون ضوابط ، وجيل عرف طريق التمرد على غالبية تلك الشرائع يستسهلة مخالفتها ، وكلّ ذلك أمام ما يراه من الافلام المخلة بالآداب والسلوكيات الأخلاقية السائدة والمتعارف عليها في المجتمعات ، ولكن ؟ كيف للجيل الشاب أن يصمد أمام سيل جارف من السلوكيات المستجدة إن كأفلام أو حتى في الواقع كنساء – مثلاً- تتسابقن في عرض مفاتنهن بقصد الإثارة والتباهي لا أكثر ، وايضاً ظهور برمجيات تتفنن في جذب المراهقين والمراهقات إلى قنواتها تجارياً وبذات الفحوى والأهداف ، حيث كلما زاد عدد المتابعين ! إزدادت معها عائداتها ! وأمام هذا السيل الجارف من البرمجيات الحاضة على الإباحية ، ومخاطرها المزمنة ، أما حان وقت ضبطها، وذلك بمعالجتها كأي مرض مزمن مهلك ومعدٍ أيضاً ؟!

وذلك باستحداث وسائل وسبل تتواءم مع عقلية الأجيال الحالية من جهة ، وتتواءم مع البيئة المجتمعية السائدة وبناها الاخلاقية ، وبتصوري : إنّ معالجة هكئا ظواهر تحتاج الى تضافر عوامل عديدة ، والتي كانت حتى فترات قريبة للواعز الديني والمسلكية الأخلاقية دور مهم في ضبطها ، إلا أنّ المتغيرات المجتمعية وحتى النمط الفكري والذي وتحت بند الحرية الشخصية والتحرر ، وكذلك المتغيرات المسلكية والسلوكية أيضاً وتخطي الضوابط الدينية والمجتمعية المتراكمة بحجة أنها موروثات متخلفة وبالية ، كلّ هذه التصرفات أدّت إلى – بتصوري – بروز ظاهرتين – صورتين لنمطين غير متشابهتين : إن في إستحضارٌ لبعض من العادات والمشاهد الإجتماعية التي سادت طويلاً وكانت موائمة نسبياً مع وجود بعض التجاوزات في بنى المجتمعات المختلفة.

وهي هنا – هذه التجاوزات – التي استطاعت التسلل من جهة ومن ثم النمو والتضخم والانتشار ، وتناسي لابل تجاهل غالبية مفاهبم القيم والأخلاقيات المتعارف عليها وكبناء قيمي للمجتمعات في مواجهة هكذا أخلاقيات والتي تنمو كسرطان فتنخر في البنى المجتمعية وتدفعها إلى هدم البناء الأخلاقي وسبل الانتحار والموت الاخلاقي، ولمواجهة حقيقية وعملية
لهكذا نوع من الأمراض : لابدّ من تضافر وتشارك كلّ الجهات والشرائح المجتمعية ، وإيجاد قواعد وأسس معرفية كما وضوابط مرنة لا كبتية ، ومن ثم منهجة بعض مظاهر هذه الظاهرة مدرسياً، وذلك بالبدء في تدريس أوليات تشكل ونمو كما وبدايات الوعي والإحساس بها ! وفي الواقع فإنّ عصرنا الحالي محظوظ جداً بتوفر منصات عديدة ومتابعون كثيرون جداً، ويمكن وبكل بساطة جعلها نوافذ حقيقية للتوعية والتثقيف وإماطة اللثام عن كثير من – المخاوف المزعومة – بالكشف عن الأسرار – المدمرة للأخلاق حسب بعض المنغلقين – لمجرد فتح بوابة هذه الأسرار الشريرة ! .

وسأختصر للأسف الشديد لأسباب عديدة قد تكون أهمها كي لاتتوه العبارات والمفاهبم وتتداخل فيها ايضاً التعابير وتختلّ موازين المعايير ، مع تأكيدي وبشكل جازم بأن : القادم سيكون أسوأ وعليه : يتوجّب علينا كأفراد ومنظمات ومدارس ومقررات التدريس التركيز وبذل الممكن للتأسيس لوعي منفتح نسبياً ، وعلى أرضية معرفية وكخطوة خطوة.

وهنا لا أقصد فقط الهرم التعليمي رغم اهميته بل أقصد تحديداً – السوشيال ميديا – أي وسائط التواصل الإجتماعية وذلك لما لمنصاتها من دور هام ورئيسي في عصرنا الحالي ، رغم ما تعتريها – غالبية المنصات – من منغصات ، كما ونماذج لشخصيات كان يرى فيها الكثيرون قدوة ولتنكشف حقيقة الكثيرين فإذ بهم مجرد طبول في سيرك وتقرع للضجيج لا أكثر.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “320

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى