الفطنة كردية والفتنة لبنانية
فؤاد مطر
في الوقت الذي ما زال لبنان من دون رئيس جمهورية لأن زعامات الطائفة التي قضى الميثاق الوطني عام 1943 بأن تكون من حصتها ثم ثبَّت «اتفاق الطائف» (أكتوبر/ تشرين الأول 1989) هذه الحصة لكي يهدأ بال أبنائها ولا تكون هنالك منازعات في هذا الشأن، نرى أن الأكراد الذين نالوا حصتهم من «شريعة بريمر» في البلد الذي يعتز أمام العالم بأنه وطن «شريعة حمورابي» تشاوروا بأسلوب راقٍ في ما بينهم وساعدهم على ذلك أن الرئيس جلال طالباني اختصر المدة المتبقية من علاج السنتين في ألمانيا وعاد إلى البلاد لتسهيل أمر التشاور لأن الطريقة الأخرى تطيل مسألة التشاور بدل أن تختصرها. فهو منذ أن لاحت في المشهد السياسي ملامح مؤامرة تستهدف حياته غادر لبنان ومنذ تلك المغادرة وأقطاب العمل السياسي يسافرون إليه في الرياض أو جدة أو باريس للتشاور معه من أجل تشكيل الحكومة التي ساعد موقفه في تشكيلها ثم بعد ذلك وحتى إشعار آخر من أجل انتخاب رئيس للجمهورية وضع برسْم العلاج مبادرة لا تلقى التجاوب الكافي لأن أصحاب الحصة زعماء الطائفة المارونية لا يتصرفون على نحو التصرف المسؤول الذي تصرَّفه الأكراد، مع ملاحظة أن الصراع بين أقطاب الموارنة في لبنان هو مثل الصراع بين أقطاب الأكراد في العراق، مع فارق أن الجناح البارزاني والجناح الطالباني في هذا الصراع اختصرا المشاحنات كي لا تذوب الحصة الكردية في بحر صراع عرب العراق الذي بسببه يكاد الوطن يتبعثر، خصوصًا بعد اقتباس الأسلوب البشَّاري في العلاج الذي يتبين أنه يتسبب بالاندثار البطيء المتدرج للكيانات ويعمِّق العداوات في نفوس الناس.
ولقد ارتأى أقطاب الأكراد في العراق أن يكون الرئيس الخلَف للعراق مثل الرئيس السلَف في بعض تخريجاته لحل الأزمات، وأن يكون في الوقت نفسه أحد رموز الاعتدال والسمعة الطيبة والعقل المستنير ويخاف رب العالمين، وذلك لأن المرحلة تتطلب ذلك، بل إنها تتطلب أن يكون من سيمثِّل الأكراد في محاصصة الحُكْم صنو عدلي منصور في مصر الذي أمضى الفترة الانتقالية على خير ما يكون عليه المسؤول، ومن دون أن يخدش كبرياء أحد. ومن هنا وقع الاختيار على الدكتور فؤاد معصوم الذي، كعدلي منصور، سعى المنصب إليه بدل أن يكون هو الساعي والمشاكس والمُكْثر من الوعود التي لا قدرة له على الإيفاء بها. كذلك هو من النسيج نفسه الذي حيكت به شخصية عدلي منصور. كلاهما أمضى العمر بعيدًا عن ميادين المنازلات الميليشياوية والحزبية الضيقة واختار ساحة الفكر والقانون والفلسفة، كل وفق خياراته.
وثمة ميزة في اسم فؤاد معصوم كما في اسم عدلي منصور، تحمل التسمية صفات يتطلع الناس وسط الإعصارات التي تعيشها الأمة إلى أن تحل محل الممارسات البشعة. ونعني بهذه الصفات العدل مع احترام القانون والعصمة عن ارتكاب الخطايا السياسية قبل الاجتماعية. فالرئيس المصري الانتقالي اسمه عدلي والرئيس العراقي الآتي إلى رئاسة بلاد الرافدَين من كردستان متباهيًا بتراث والده الذي كان رئيسًا لعلمائها من عائلة معصوم، فضلاً عن أن الاسم المركَّب له هو محمد فؤاد، الأمر الذي يبعث بالمزيد من المشاعر الروحية في نفوس الناس. وإلى ذلك فإن كون فؤاد معصوم أزهري التخرج وأمضى في رحاب جامعة الأزهر وأجواء مصر العروبية أزهى سنوات حياته كطالب عِلْم، من شأنه وهو على قمة الرئاسة الأولى في العراق وفي ضوء المعاركة الهادئة للعمل الحزبي في جناحيه البارزاني ثم الطالباني، أن يهدئ بعض الشيء من روع التوجهات الكردية التي برزت في الأشهر الماضية والمندفعة في اتجاه عدم الأخذ بمبدأ «القناعة كنز لا يفنى»، أي ارتضاء الوضع الكردي الراهن، خصوصًا أن كردستان تعيش منذ ثلاث سنوات حالة من النمو السريع أشبه بالذي عاشته دبي وما زالت، وعاشه لبنان خلال سنوات ترؤس رفيق الحريري للحكومة ثم بدأ الانحدار مع اغتياله. وعندما نقول الارتضاء فإننا نعني بذلك طي صفحة الجنوح نحو الانفصال عن العراق الواحد، ذلك أنه حتى بافتراض تملُّك كركوك الأرض وما تحتها فإن ما سيصيب الأكراد وكردستانهم هو ما أصاب جنوبيي السودان ودولتهم المنكودة الحظ التي بسبب النفط كان انفصال الجنوب عن شماله وبالسبب نفسه يموت الآلاف قتلاً أو جوعًا أو مرضًا.
خلاصة القول أن اختيار فؤاد معصوم رئيسًا للعراق وضع في مشهد العمل السياسي مفردة جديدة، وهي أن الفطنة كردية، وأنها بمذاق لبن أربيل الذي يتوارث العراقيون حوله الطرفة التي فحواها أن أحدهم وضع رسالة بعث بها إلى ابنه الضابط في الجيش العراقي العنوان الآتي (وزارة الدفاع. قرب دكان لبن أربيل)، وهو دكان صغير كان يبيع المرطبات وبالذات لبن أربيل اللذيذ الطعم. ويحدث ذلك في وقت تلوح في الأفق ملامح شر مستطير سببه أن احتمالات الفتنة واردة في لبنان نتيجة تفريغ أقطاب الطائفة المارونية لحصتهم التي هي الرئاسة الأولى، مع ملاحظة أن المحاصصة العراقية كانت صنو المحاصصة اللبنانية تثبيتًا من «اتفاق الطائف» لهذه الأخيرة مع فارق أن حصة الأكراد كانت منصب رئيس الجمهورية بينما المنصب في لبنان من حصة الموارنة. أما الرئاستان التاليتان فإنهما رئاسة البرلمان للسُّنة في العراق ورئاسة الحكومة للشيعة، أي الصيغة معكوسة في لبنان. كما أن ثمة ملاحظة أخرى وهي أن الرصيد النضالي لجلال طالباني ساعده منذ أن تولَّى الرئاسة في عام 2006 على أن يكون المنصب فاعلاً وليس فخريًّا، خصوصًا أنه يشارك في القمم العربية والإسلامية والنشاطات الإقليمية على مستوى الرجل الأول، أي بمعنى آخر يقترب في فاعلية الحصة الكردية من الحالة التي عليها الحصة المارونية بموجب المحاصصة الرئاسية في لبنان، فضلاً عن أن العنف الذي تزايد في العراق والعناد الذي اتسمت به إدارة رئيس الحكومة نوري المالكي وما تخللها من ممارسات كيدية وثأرية جعلت الشقيق الكردي رئيسًا وأرضًا بين أربيل والسليمانية ملاذًا لأطياف كثيرة من عرب العراق بغرض السكن والأعمال شركاء مع إخوانهم الأكراد ومع مستثمرين عرب وأجانب.
ومع ترؤس محمد فؤاد معصوم ستطمئن – على ما يجوز الاعتقاد – نفوس هؤلاء في انتظار أن يستعاد العراق وطنًا لأهله عربًا وكردًا وصاحب قرار مستقل وقيادة تنبذ المكايدة والمزايدة والإلغاء والثأر. ومن هنا يجوز الافتراض أن الدكتور محمد فؤاد معصوم لن يكون فقط رئيسًا للجمهورية في العراق، وإنما سيكون أيضًا واعظًا لعرب العراق بأن يستعيدوا النخوة والتعايش بأمل أن تُطوى الصفحة السوداء الدموية، ولبني شعبه بأن شراكة عادلة في اليد خير من دولة برسم المجهول.