آراء

القضية الكوردية في تركيا: الحل المطلوب المفقود

عبد الباسط سيدا
تواجه تركيا اليوم تحديات جدية على المستويين الداخلي والخارجي. تحديات سيكون لها تأثير حاسم على أبعاد دورها الإقليمي والدولي، واستقرارها الداخلي.

فعلى الصعيد الداخلي، لم تتمكّن حكومة حزب العدالة والتنمية من تحقيق اختراقات لافتة على صعيد معالجة قضاياها الداخلية، اختراقات كان من شأنها دعم ومساندة النجاحات الاقتصادية الكبرى التي حققتها على مختلف المستويات، وهي النجاحات التي أكسبت الحزب المذكور شعبية غير مسبوقة، ومكّنته من إفشال الإنقلاب العسكري.
وكان لوقوف أحزاب المعارضة إلى جانب حزب العدالة في مواجهة الإنقلاب ورفضه من السابقات النادرة في التاريخ التركي المعاصر. ولهذا انتظر الجميع أن يستثمر حزب العدالة ذلك، وينفتح على الأحزاب المعنية، ليتمكّن معها من معالجة القضايا الوطنية، خاصة القضية الكوردية التي تعد هي المحور في هذا المجال، ومواجهة تحديات الإرهاب.
وما نراه هنا هو أن حزب العدالة كان – وما زال- مؤهلاً للإقدام على خطوة كهذه، وهي خطوة ستكون من دون شك في مصلحة الجميع. وما يدفعنا إلى هذا هو ان الحزب المعني قد امتلك منذ بداية وصوله إلى الحكم برنامجاً لحل القضية الكوردية، ومهّد الطريق أمام جملة من الخطوات النوعية التي أسهمت في توسيع دائرة الثقة، وعززت مواقف الساعين بإخلاص لحل هذه القضية من الترك والكورد وسائر مكونات المجتمع التركي.
ولم تقتصر مقاربة حزب العدالة لهذه القضية على البرنامج وحده، بل امتدت إلى ساحة الممارسة الفعلية، فشملت الإعلام بكل أقسامه، والجامعات، ودور النشر. فضلاً عن الاهتمام بالمناطق الكوردية، والإعتراف بخصوصيتها، ووصول أكثر من مائة نائب كوردي من مختلف الأحزاب إلى البرلمان التركي، إلى جانب تمكّن الكورد من تسلم رئاسة نحو 200 بلدية منها بلديات كبيرة مثل: ديار بكر/آمد، وان، ماردين.
وكان حزب العدالة في طريقه نحو المزيد والحسم. وقد تجلّى ذلك التوجه بوضوح في اللقاء الرمزي المعبر الذي تم بين الرئيسين رجب طيب أردوغان ومسعود البارزاني في ديار بكر في نوفمبر 2013 ، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة التركية عن مفاوضاتها مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكوردستاني المعتقل.
وكان من الواضح أن هناك قوى متنفذة ضمن حزب العمال، تتمثّل خاصة في القيادات العسكرية المتواجدة في قنديل، لا تريد النجاح للعملية السياسية لأسباب عدة، أهمها رفض النظام الإيراني الذي كان يرى في حل القضية الكوردية في تركيا عرقلة لمشاريعه في كل من سورية والعراق، حيث يقوم الحزب المعني عبر وجوهه المحلية بدور فاعل ضمن الاستراتيجية الإيرانية.
ومن ناحية أخرى، يرى النظام الإيراني أن حل القضية الكوردية في تركيا بصورة سلمية وعادلة، يعزّز موقع تركيا الإقليمي والدولي، وسيفتح الأبواب في الداخل الإيراني على ملف القوميات الإيرانية، حيث الحجم الكوردي هو الثاني بعد تركيا وقبل كل من العراق وسورية من جهة الترتيب.
وهكذا أقدم الجناح المتشدد في حزب العمال الكوردستاني على تفجير الأوضاع عبر جملة من العمليات التي استهدفت الشرطة والجيش، وكانت عملية حفر الخنادق في جزيرة ابن عمرو، ونصيبين، وسور دياربكر، ومناطق أخرى، الأمر الذي أدّى كما كان متوقعاً إلى تصادم عنيف مع الجيش التركي، وكانت النتيجة تدمير المدن المشار إليها، وتهجير سكانها.
وقد جاءت هذه التصرفات لتناقض مزاعم حزب العمال بنسخته السورية حزب الاتحاد الديمقراطي الذي سوّغ – وما زال يسوّغ-  تنسيقه مع النظام السوري بأنه لا يريد تدمير المناطق الكوردية السورية وقتل وتشريد ناسها، مع أن النظام السوري لم يعلن عن أي مشروع سياسي يهدف إلى حل القضية الكوردية في سورية، في حين ان الحزب الأم كان قد دخل في مشروع سياسي مع الحكومة التركية، وقد تمكّن الطرفان من اتخاذ خطوات كبرى على صعيد السعي من أجل إيجاد حل سياسي سلمي  للقضية الكوردية في تركيا.
وجاء الانقلاب الفاشل المشار إليه ليؤكد وجود قوى مؤثرة ضمن المؤسسة العسكرية التركية، لم تكن موافقة على الحل المعني بل كانت تتحيّن الفرص، وتعمل باستمرار من أجل دفع الأمور نحو التصعيد والتوتر وزعزعة الثقة بين الطرفين التركي والكوردي.
وما أسهم في تعقيد الوضع أكثر هو الحرص الأمريكي على تحجيم الدور التركي في المنطقة بناء على حسابات أخرى تخص إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وذلك في أجواء ما جرى ويجري  في سورية والعراق ومصر واليمن وليبيا. وجاء التدخل الروسي في سورية ليضفي المزيد من المحدودية على الدور التركي هناك، بعد أن استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية القوات العسكرية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في محاربة داعش في العديد من المناطق.
وفي مواجهة كل هذه التعقيدات، قررت حكومة العدالة البحث عن بدائل أخرى تحررها من الضغوطات المتعددة الاتجاهات والتوجهات. فباشرت بتطبيع علاقاتها مع روسيا، وأعادت العلاقات مع اسرائيل بصورة كاملة. ومارست الضغط على الجانب الأمريكي عبر توجيه اتهامات مبطنة وصريحة لها، تتصل بالعلاقة مع محاولة الانقلاب من جهة، ودعم حزب العمال الكوردستاني عبر الـ ب. ي. د. من جهة ثانية. كما لجأت إلى فرض المزيد من القيود على الإعلام والأعلاميين والرأي العام.
القضية الكوردية في تركيا هي في المقام الأول قضية وطنية داخلية. ولكنها تمتلك أبعاداً إقليمية نتيجة التقسيم الذي طال المنطقة خاصة بعد الحرب العالمية الأولى.
ويبدو أن الجهود التي بذلها حزب العدالة في سبيل إيجاد حل للقضية الكوردية كانت تصطدم بعوائق داخلية تركية، وأخرى داخلية تخص حزب العمال الكوردستاني نفسه، وحلفائه بطبيعة الحال.
وقد كانت هناك مؤشرات عدة قبل توقف العملية السياسية بين الحكومة التركية والحزب المعني تبين بأن الوضع سينفجر. ويبدو انه في الجانبين كان هناك من يراهن على مثل هذا التفجير، ويمهد له، لانسجامه مع توجهاته.
لقد وصلت الأمور في يومنا هذا إلى مرحلة انسداد الآفاق على الأقل انطلاقاً من تشابكات الوضعية الراهنة. ولكن مع ذلك ما زال هناك من يراهن على أهمية حل هذه القضية، وامكانية هذا الحل إذا تمكّن حزب العدالة من جانبه من الإقدام على جملة خطوات جرئية واضحة، في مقدمتها تقديم تصور واقعي مقنع انطلاقاً من المباحثات التي كانت، ومن الخبرات المتراكمة حول مستقبل القضية الكوردية في تركيا، وآلية الوصول إلى حل عادل مبدئي يكون لمصلحة الجميع من دون استثناء.
وتصور من هذا القبيل يسحب البساط من تحت أقدام حزب العمال الكوردستاني ويحرجه، ويمكن أن يكون في الوقت ذاته أساساً لعملية تفاوضية جدية، تشارك فيه القيادات السياسية المعتدلة ضمن حزب العمال الكوردستاني من الساعين فعلاً إلى حل سلمي عادل للقضية الكوردية في تركيا، إلى جانب قيادات كوردية من الأحزاب الأخرى، والشخصيات المجتمعية الاعتبارية، ونشطاء المجتمع المدني فضلاً عن الأكاديميين الكورد.
أما أن يختزل الجانب الكوردي بحزب العمال الكوردستاني، ويختزل هذا الأخير في قيادته العسكرية بجناحها المتشدد التابع لإيران، فهذا فحواه استمرارية الصراع الذي يرهق الجميع.
الموضوع يحتاج إلى جرأة في طرح تصور واضح، يكون أساساً لحوار وطني عام بين مختلف القوى السياسية التركية، يتمحور حول أهمية وضرورة حل المسألة الكوردية في تركيا على قاعدة احترام الخصوصية والحقوق ضمن إطار وحدة الوطن.
وحل من هذا القبيل سيقطع الطريق أمام المخططات الإيرانية في العراق وسورية، وسيفتح المجال  واسعاً أمام تركيا لتستعيد دورها التواصلي الواعد في المنطقة على مستوى الشعوب والدول.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى