القضية الكوردية ومؤتمرات المعارضة السورية
جان كورد
منذ أوّل مؤتمرٍ صاخبٍ في مدينة آنتاليا التركية قبل سنواتٍ عديدة وإلى آخر مؤتمرات المعارضة السورية في القاهرة منذ أيامٍ قلائل، لم تناقش قضية الشعب الكوردي نقاشاً جاداً في كل لقاءات وحوارات هذه المعارضة، ويبدو أن بعض المعارضين “الديموقراطيين!” غير مستعدين نفسياً لتجاوز عقدتهم الشوفينية المستعصية القديمة قدم النظام البعثي العربي تجاه قضية الشعب الكوردي، فقضية هذا الشعب في نظرهم لا تستحق وضعها بين المسائل الهامة في جدول الأعمال والكورد ليسوا سوى “مواطنين” (شَلَفَ) بهم قدرهم من مكانٍ بعيد ليجدوا أنفسهم على الأرض السورية، العربية، الأموية، القحطانية، العدنانية، وليس لهم من حقٍ قومي في هذه الديار سوى المطالبة بأن يكونوا “مواطنين” من الدرجة الأولى بعد أن ظلوا عقوداً من الزمن في ظل يافطات البعث العنصرية “مواطنين من الدرجة الثانية”، فلا حقوق للشعب الكوردي في “فيدرالية قومية” ولا في “حكم ذاتي” ولا في أي صيغة أخرى تقلل من “عروبة سوريا!”، ورغم ذلك فإن هؤلاء يسمون النظام الذي يدعون إليه بالنظام “الديموقراطي”، “الليبرالي”، “التجديدي”… بعد إسقاط نظام العائلة الأسدية “الطائفي!!!”، وهم لا يقلّون عنصرية وتخلّفاً في مجال الحريات السياسية والديموقراطية عن آل الأسد وزبانيته و شبيحته… بل من هؤلاء “التجديديين الديموقراطيين” يرقصون طرباً فرحاً في حال انتصار الإرهابيين من طينة (داعش) على فصيلٍ من الفصائل الوطنية الكوردية في معركةٍ من المعارك.
إن معظم المعارضين المتشبثين ب”عروبة سوريا!” يتجاهلون تماماً أن الوجود الكوردي في شمال سوريا على الأقل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنتائج السلبية بالنسبة للأمة الكوردية التي نجمت عن المؤامرة الاستعمارية (معاهدة سايكس – بيكو) في عام 1916، إذ تم تقسيم وطن الكورد (كوردستان) تقسيماً مريعاً، وهذا الوجود قديم ومحفور في الأرض والصخور والتلال منذ عهد الكورد الميتانيين الذين كانت عاصمتهم (واشوكاني) على ضفاف نهر (خابور) وامتد سلطانهم إلى مدينة (حلب) لسنواتٍ عديدة، كما ينسى المعارضون السوريون الذين يتشدقون جل وقتهم بعبارات “الحريات السياسية” و”الديموقراطية” و”حقوق الأمم والشعوب… والإنسان” أن للكورد الأيوبيين دور سياسي مهم لأكثر من مائة عام في كل سوريا، بمعنى أن الكورد حكوا فترة لا تقل عن فترة حكم الأمويين العرب، ، ورغم التعريب المستمر فلا تزال هناك آثار تدل على الوجود الكوردي في سوريا، ومنها (قلعة الأكراد) التي عرّبت إلى (قلعة الحصن) و(جبل الأكراد) الذي نزح منه قسم من الكورد إلى إقليم لورستان في جنوب شرق كوردستان وكان منهم 13 ملكاً من ملوك اللور، ولاتزال أسماء العديد من القرى في أرياف حماه وإدلب واللاذقية وحلب كوردية أصيلة مثل (مورك) و(صوران) و(سريتل) و(كورداغه) المعرّبة إلى (قرداحة) في عهد الفرنسيين. بل إن كل أسماء الأنهار والجبال والسهول والوديان في منطقة جبل الأكراد التي مركزها مدينة عفرين لم تعرف أي اسمٍ عربي لها قبل البدء بسياسة التعريب البعثية منذ ستينيات القرن الماضي… فهل طرد الكورد “اللاجئون والمهاجرون!” السكان العرب الأصلاء من المنطقة؟ أم أنهم – وهو الواقع والحقيقة – كانوا السكان الأصليين في المنطقة؟
أما الآن فإن قرية (نازان) مثلاً قد تحولّت بالتعريب القسري إلى (المدللة)، وكثيرون من أبناء المنطقة الكورد لا يعلمون كيف يلفظون الاسم العربي الجديد للقرية، بل إن عفرين الكوردية بنسبة (95%) من السكان صارت مدينة (العروبة!!!)، وتم تعريب أسماء مئات القرى ظلماً وعدواناً في حين بقيت أسماء غير عربية في معظم المحافظات السورية، ومنها (بانياس وطرطوس) مثلاً… وهؤلاء المعارضين “الديموكراتيك!!” لا يريدون الحديث عن ملكة حلب (ضيفة خاتون) التي حاربت 6 سنوات عن المدينة على أثر موت زوجها ضد الصليبيين والغزاة القادمين من آسيا على حدٍ سواء، في حين كان العرب يدينون لها بالولاء لأنها كانت عادلة ولم تكن عنصرية كهؤلاء الديموقراطيين اليوم، الذين لا يريدون الاعتراف بأن مدينة حلب وحتى طرابلس في لبنان كانتا تدفعان الضرائب للإمارة الكوردية البدرخانية في القرن التاسع عشر الميلادي، بل يشطبون التاريخ الكوردي في سوريا، ويعيدون التواجد الكوردي فيها اليوم إلى أواخر العهد العثماني والمجازر التي ارتكبها الطورانيون بحق الشعب الكوردي فقط، ويزعمون أن الكورد في سوريا ليسوا إلاّ أولئك اللاجئين الهاربين من قمع السلطات التركية ف”أَوَتهُم” سوريا العربية الكريمة ومنحتهم حق البقاء والمواطنة، ثم شعر العنصريون بأنهم أخطأوا فسحبوا الجنسية السورية من مئات الألوف منهم وتركوا عشرات الألوف منهم “مكتومين!”، ثم صار من المنبوذين الكورد بقدرة قادر أول رئيس للدولة السورية (العابد بن هولو الكوردي) وأول وزير دفاع مقاتل وشجاع وشهيد (يوسف العظمة)، وحكم سوريا بعض رجالهم المشهورين، في حين أن “سوريا الكريمة” هذه لم تمنح الفلسطينيين اللاجئين إليها منذ 1948 حق المواطنة، وهم يعتبرون أنفسهم، كرهاً أو طوعاً، عربا !!!
والفصل الأشد كآبةً في هذه الدراما هو أن المعارضة “الكوردية” بعد مضي ما يقارب الستة عقودٍ من الزمن على تأسيس أول حزب ديموقراطي كوردستاني سوري تلحق بهذه المعارضة السورية غير القادرة على تخطي عقدتها “الكوردية”، بل ومن فصائل الحراك السياسي – الثقافي الكوردي من يجد نفسه أو حزبه من مكونات هذه المعارضة الضعيفة والمريضة حقاً، بل والتي يراها بعض المراقبين المحايدين معادية للوجود القومي الكوردي وحق شعبنا في إدارة ذاته ضمن سوريا حرة وديموقراطية، هذه المعارضة التي تعتبر منح الكورد أي حقٍ قومي، مهما كان متواضعاً، انتهاكاً لسيادة ووحدة سوريا، على الرغم من أن كل المفكرين السياسيين في العالم المتحضّر يرون في الفيدرالية والحكم الذاتي عنصرين هامين لتثبيت السيادة والوحدة الوطنية للبلد الذي يطبقهما، وهذا ما ثبت فعلياً في العديد من دول العالم المتمدن.
ومن الحركات “الكوردية!”من تخلّى مع الأسف كلياً عن مشروعه القومي وشرع يحلم بالأمة الديموقراطية والإيكولوجية والأممية الشعبية، تماماً مثلما كان البعض في الماضي يدعو شعبنا إلى “الأممية البروليتارية” الكوسموبوليتية التي أثبتت فشلها الذريع على أرض الواقع العالمي.
وبهذا الانقسام الداخلي في البيت الكوردي المنهار تُستنزَفُ طاقات شعبنا وتُهدَرُ حقوقه، ولا يتحقق شيءٌ من أهداف حركته السياسية. وعلى العكس من ذلك يأمل البعض من زعماء السياسة الكوردية إعادة عجلة الحياة نحو الوراء لعقد الصفقات الحزبية مع رأس النظام المترنح والحوار معه، مثلما فعلوا مع أجهزة النظام الأمنية في مراحل سابقاً بذرائع تافهة حقاً، ويدعو هذا البعض إلى “ثورة سلمية” وحل سياسي!!!، على الرغم من أن هذا الرأس الحاكم، المكابر المعاند، والعميل بكل صفاقة لدولة إقليمية معروفة، لم يدع أي مجالٍ للحوار مع شعبه، وأن الحرب التي شنها عليه تطحن سوريا بأكملها وأن أكثر من نصف أراضيها في أيادي المنظمات الإرهابية أو تحت السيطرة الإيرانية بإشراف قاسم سليماني وخبراء الروس، فأي حوار ٍ وأي ثورةٍ سلمية يدعو إليها هؤلاء؟
ويقيناً، لن يحقق أي حزبٍ كوردي لوحده شيئاً للشعب الكوردي وما نراه على أرض الواقع من رشاشات ومدافع، بل ودبابات وقوات قتالية “كوردية” لن تتمكن من تحويل أي نصرٍ عسكري إلى انتصارٍ سياسي، من دون اتفاق قومي واسع وشامل على الخطوط الرئيسة لمجمل المطالب القومية الخاصة بشعبنا، ومن دون تعامل جيد مع المجتمع الدولي، فها هي مدينة (كوباني) تئن بسبب جرحها العميق والعالم يتفرّج من دون أن يقدّم لأهلها المنكوبين مساعدة هامة، وسيبين لنا المستقبل القريب أن المؤامرات التي يتم حبكها وراء الكواليس ستأتي لشعبنا بكارثةٍ لا تقل تدميراً من كارثة (كوباني)، مالم تسارع الأحزاب الكوردية، بل كل الحراك السياسي – الثقافي لشعبنا إلى عقد مؤتمر قومي لغرب كوردستان، تنجم عنه استراتيجية قومية محددة المعالم ويلتزم بها كل الذين يناضلون من أجل قضية شعبنا، فالمؤتمرات التي تعقدها المعارضة السورية ليست مهتمة بوضعنا ومآسينا ومطالبنا، بقدر ما هي مهتمة بوسائل الحصول على أكبر قدرٍ من أموال ملوك وأمراء العرب وتسلّق ظهر الثورة المسلحة في الداخل السوري من دون أن يتكبّد هؤلاء المعارضون مشقة المساهمة في الثورة ولو ليومٍ واحد.
يعلم الكورد تماماً أن قوتهم في وحدتهم ووحدتهم تعطيهم القوة للدخول في الحوار مع قوى الثورة السورية المتواجدة على الأرض ومع المعارضة السياسية في الخارج، بل مع قوى الحرية والديموقراطية في العالم من موقف قوي متماسك ومحدد المطالب والمواقف.
لقد أصاب مؤتمر القاهرة الكثيرين من الناشطين الكورد بالإحباط في ذكرى تأسيس أول حزب سياسي ديموقراطي كوردستاني – سوري … فلنسارع جميعاً لزرع الأمل مجدداً في صدور الكورد قبل أن يفقدوا الثقة في حركتهم الوطنية التحررية وقياداتها التي لها تاريخ لا يُنكَر في النضال…
وعليه، برأيي:
أن تمتنع الشخصيات الكوردية وأحزابنا السياسية، بل كل حراكنا السياسي – الثقافي عن حضور أي مؤتمر للمعارضة أو لحلفاء النظام، مالم يكن موضوع “القضية الكوردية” و”الأقليات القومية والدينية” في سوريا من بين النقاط الأساسية للمناقشة في برنامج المؤتمر. فالحضور غير ملائم وغير مثمر بدون ذلك، وكل المزاعم عن ضرورة الحضور وطرح القضية أثناء الحوار لا تقنع شعبنا الذي يريد حضوراً منتجاً لشريحته السياسية، وليس مجرّد سماع “شقشقة لسان” لا طائل تحتها من شخصيات وفصائل المعارضة السورية التي تسعى على الدوام إلى تقليص الدور الكوردي وإقصائه وإهماله.