القوة وفلسفتها
محمد زكي أوسي
ساسة الأمم صنفان, الأول لا يعرف غير القوة, والقوة عندهم فوق القانون, أما الثاني فمَن يحتمي بالمعاني الإنسانية لضعفه, فإنسان هذه الأرض, إمّا آكلٌ وإمّا مأكولٌ, والكُرد هم تساورهم الذئاب من كلّ صوب, فهل هم مستقيقظون؟
يُحكى أن ضابطاً خدم في الجيش الأمريكي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر, خاض حروباً كثيرة, لا يخاف الموت, ذاع صيته, ولا تحول دون وصوله إلى غاياته عقبات, اشترك جورج ارممسترونغ كستر وهذا اسم الضابط الحقيقي في الحرب الأهلية الأمريكية أيام أحد أعظم رؤساء أمريكا (ابراهام لنكولن), وتمّ توجيه هذا الضابط لمحاربة قبائل الهنود الحمر إبان قوتهم ومنعتهم, وكان اسم القبيلة التي وجّهوه إليها (قبيلة شاين) حيث كستر هذا فاجأ القبيلة وهزمها شرّ هزيمةٍ في شهر نوفمبر عام 1868م, فما كان من رئيس القبيلة المهزوم إلا أن قَدِمَ إلى مقر الضابط القائد, يريد التحدث إليه ملتمساً شيئاً من السلام وإعادة أرض الآباء والأجداد, ودخل عليه مستقيم العود, مرفوع الرأس, شهماً رغم الهزيمة حكيماً, بادر القائد الأمريكي سائلاً: هل تتقن الانكليزية؟ فردّ عليه الرئيس الهندي الأحمر: نعم, عندها بدأ القائد الأمريكي موعظته دون مقدمات وسمعها الهندي الأحمر واقفاً ساكتاً فقال:
استمع إليَّ أنا رجلٌ عسكري لا أعرف غير السلاح والقوة, وقد كُلفت بواجب عليَّ القيام به, ولا يعنيني ما يترتّب على ذلك من أعمالٍ, إذا هي قيست بمقاييس أخرى, أنا غالبٌ وأنت مغلوبٌ, ولا تحدّثني في الأخلاق ولا في الحقوق, فليست هي من شأن العسكري, أما عن أرضكم التي سلبناكم إياها, فاذكر أن قبيلتك كانت تغير على القبائل الأخرى فتأخذ منها الأرض, دون أن تسأل: كم سنةً كانت بقيت تعيش فوق هذه الأرض, وما أن فرغ القائد من موعظته, حتى خرج الرئيس الهندي الأحمر ولم ينطق بكلمة, وعاد إلى قبيلته التي بدأت تتجّمع من جديد وتتقوّى وتتحصّن, وأعاد القائد الأمريكي الذي لم يعرف إلا القوة حكماً في الحياة يطلب قبيلة (الشاين) ليحظى بنصر ٍماحقٍ جديد, ولكنها قتلته وهزمته شرّ هزيمةٍ, وهذا مصير كلّ مَن يستخدم الشجاعة والإقدام في غير موضعهما.
والحقّ ليس في هذه الموعظة شيء جديد, فالقائد الفارس وصف نفسه بأنه يقوم بتنفيذ واجبٍ عسكري, جاءه على شكل أمرٍ من مصدرٍ سياسي كلّفه ببلوغ هدف سياسي بقوة السلاح, وهو أراد القول: إنّ سياسة القوة متى بدأت تقطع ما بينها وبين الإنسانية كلّ رباط, وتزيل ما بينها وبين القواعد الأخلاقية المرعية من صلاتٍ, إنه لا يتريّث لينظر صحّ ذلك العمل أم لا, فهو قد نحى القواعد والدساتير جانباً.
إنّ ساسة الأمم يعلمون كلّ العلم كم تسهم القوة عند أمةٍ, حتى إذا هي لم تستخدمها, في تحقيق مطالبها العادلة وغير العادلة على السواء, وكلّ دولةٍ ترضى للدولة الصديقة استخدام قوتها لدى الضرورة لنيل مطالبها, شرط ألا تورّطها في الاعتراف بأنّ القوة وسيلةٌ معترفٌ بها لنيل المطالب, بل هي قد تزيد فتمدّها بالسلاح.
والدولة التي تستخدم القوة لنيل مطالبها, عادلة أو فاجرة, تمهّد دائماً بنشر أسبابٍ يظنّ الناس أنها في صميم العدالة ولقانون, فإذا ظهرت القوة وراء هذا الضباب ، فما أسهل ما يعتذر عنها بأنّ صبر الساسة قد نفد, وما نلاحظه أنّ الأمم التي تتحدّث في خصوماتها بذكر القوانين الدولية, وبالمبادئ الإنسانية, وتستنجد بالهيئات الدولية, إنما هي الأمم التي افتقدت القوة.
تُرى ماذا تستفيد الأمم الضعيفة إن استنجدت بالهيئات الدولية, وفيها تقبع الدول القوية الآمرة والناهية؟, ما نفع الكُرد والدول الآسيوية والافريقية وجميع الشعوب والأمم صاحبة القضايا العادلة, استنجادها بهيئة الأمم التي تشفي الغليل, فتصدر القرارات بالذي تريده هذه الأمم, وتبقى القرارات حبراً على ورق, لأنّ القوى الكبيرة لم تشترك في صنعها وإنما وضعها أهل التقوى الضعفاء, أولئك الذين يؤمنون بسيادة القانون, وسيادة العقل وسيادة المنطق وبمعانٍ تتصل بالإنسانية صاغها الشعراء أدباً رفيعاً, لها شميمٌ رائع, ولذةٌ، ولكن قصيرة العمر, فهي كزهور هذه الأرض ، لاتكاد تقطفها عن شجرها حتى يسرع إليها الذبول.
المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 297