من الصحافة العالمية

الكونغرس يهدد “الرومانس الأوتوقراطي” بين ترامب وأردوغان

هشام ملحم

يلتقي الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الأربعاء نظيره التركي رجب طيب أردوغان للمرة الأولى منذ الاجتياح التركي لشمالي سوريا، وهو الاجتياح الذي أثار عاصفة من الانتقادات القاسية في أوساط الحزبين في الكونغرس وفي وسائل الإعلام بسبب الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات التركية والميليشيات السورية التي تعمل لصالح تركيا في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

من المتوقع أن تستقبل أردوغان تظاهرات عدائية مماثلة لتلك التي استقبلته في 2017 وأدت إلى اعتداء حراس أردوغان على المتظاهرين وإصابتهم مع عدد من أفراد الشرطة الأميركية بالجراح.

وعلى الرغم من تصريحات ترامب وأردوغان الودية تجاه بعضهما البعض، إلا أن الزيارة تأتي على خلفية وصول العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوياتها، حيث من المتوقع أن يصوت مجلس الشيوخ، بعد انتهاء زيارة أردوغان، على مشروع قرار يفرض العقوبات على عدد من المسؤولين الأتراك البارزين ومنع وصول السلاح الأميركي إلى القوات التركية التي تشارك في احتلال شمالي سوريا.

وكان مجلس النواب قد صوّت بأغلبية ساحقة خلال شهر أكتوبر على مشروع قرار مماثل. وكان يفترض أن يصوت مجلس الشيوخ هذا الأسبوع على مشروع القرار، ولكن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور الجمهوري جيم ريش قال إنه لا يريد التصويت على مشروع القرار خلال وجود أردوغان في واشنطن، لأنه لا يريد إحراج الرئيس ترامب.

وكان مجلس النواب الأميركي في خطوة تاريخية، قد صوت في نهاية أكتوبر وبأغلبية ساحقة (405 ضد 11) على مشروع قرار يعترف بأن أعمال القتل الجماعي التي استهدفت الأرمن في شرقي الأناضول وشمالي سوريا في سنتي 1915/16 هي مثابة حرب إبادة، وهو موقف ترفضه تركيا بشدة. وسارع أردوغان إلى اعتبار التصويت “لا قيمة له” واعتبر إقراره الذي تزامن مع اليوم الوطني التركي بمثابة “إهانة للشعب التركي”. ومن المتوقع أن يكرر أردوغان موقفه هذا في المؤتمر الصحفي المشترك الذي سيعقده مع الرئيس ترامب بعد ظهر الأربعاء.

وللتدليل على مدى تدهور العلاقات، حذّر مستشار الأمن القومي روبرت أوبرايان قبل ثلاثة أيام من لقاء ترامب ـ أردوغان أن واشنطن “مستاءة للغاية” من شراء تركيا لمنظومة الصواريخ المضادة للطائرات من طراز S-400 الروسية الصنع، وأنه إذا لم تتخل أنقرة عن هذه المنظومة “من المرجح أن تفرض العقوبات” على تركيا.

وشدد أوبرايان في مقابلة مع شبكة التلفزيون “سي بي أس” يوم الأحد على أن “لا مكان في حلف “الناتو” لهذه الصواريخ، أو لأي صفقات عسكرية روسية كبيرة، وهذه هي الرسالة التي سيسلمها الرئيس (ترامب) إلى أردوغان بكل وضوح عندما يصل إلى واشنطن”.

وأعرب أوبرايان عن “القلق العميق” لحكومته لاحتمال حدوث جرائم حرب تركية في شمال سوريا قائلا “بعض الأشياء التي رأيناها مقلقة للغاية.. نحن نراقبهم ونرصد ما يجري عن كثب. لا مجال للإبادة، لا مجال للتطهير العرقي ولجرائم الحرب في القرن الحادي والعشرين”، مشددا على أن الولايات المتحدة أوضحت موقفها هذا إلى تركيا.

وكان أوبرايان يعلق على تقارير صحفية تحدثت عن انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ترتكبها الميليشيا التي تسمى “الجيش الوطني السوري” التي تنشط تحت مظلة الاحتلال التركي، بما فيها الإعدامات والاعتداءات ضد المدنيين وأعمال الخطف والاعتقال التعسفي ونهب الممتلكات الخاصة للسكان المحليين، وإرغام أكثر من 200 ألف مدني على مغادرة ديارهم.

ويقول المراقبون إن هذه الممارسات تخدم سياسة تركيا في إرغام السكان الأكراد على مغادرة مناطقهم التاريخية ومحاولة جلب لاجئين سوريين عرب من تركيا إلى المنطقة الكردية التي تحتلها تركيا ووكلائها المحليين.

الاجتياح التركي لشمالي سوريا والذي الحق نكسة كبيرة بـ”قوات سوريا الديمقراطية” التي يشكل الأكراد عمودها الفقري والتي قاتلت إلى جنب القوات الأميركية ضد قوات تنظيم الدولة الإسلامية، هو آخر حلقة في سلسلة طويلة من القرارات التركية السلبية وحتى العدائية للغرب وللولايات المتحدة خلال حقبة أردوغان الطويلة في الحكم، وخاصة في السنوات الأخيرة.

هذه التطورات والمواقف التركية أثارت ولا تزال تثير الجدل الحاد في عواصم حلف شمال الأطلسي، حول جدوى بقاء تركيا في الحلف. هذه الأصوات ارتفعت في أعقاب صفقة الصواريخ الروسية لتركيا، التي تملك ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، الذي نشر منذ سنوات عديدة أكثر من خمسين رأس حربي نووي في قاعدة أنجرليك الجوية الكبيرة في شرقي تركيا. ولكن اتفاقية حلف الناتو لا تشمل أي آلية بشأن طرد أي عضو من الحلف، كما لا تزال هناك مخاوف في أوروبا وفي واشنطن، من أن تؤدي أي قطيعة بين حلف الناتو وتركيا إلى جنوح أردوغان أكثر إلى أحضان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

محاور الخلافات الأميركية ـ التركية التي أدت إلى الانهيار التدريجي للعلاقات عديدة، وهي داخلية وإقليمية ودولية. ازداد ميل أردوغان إلى الممارسات الأوتوقراطية والتعسفية في السنوات الأخيرة وخاصة بعد انتخابه رئيسا في 2014. وبدأ بترجمة ما اعتبره انتدابا شعبيا إلى إساءة استخدامه لصلاحياته، وفي أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 بدأ أردوغان يحكم كرجل قوي يحتكر معظم مقومات السلطة في البلاد.

وكلما ازدادت المعارضة السياسية الداخلية لحكمه، كلما ازداد شراسة في قمعها، حيث حوّل تركيا في السنوات الماضية إلى أكبر سجن في العالم للصحفيين والمثقفين والكتاب. وفي رده العنيف على المحاولة الانقلابية اعتقل أردوغان عشرات الآلاف من الموظفين المدنيين، وأغلق أكثر من مئة وسيلة إعلامية، وألغى جوازات سفر لأكثر من خمسين ألف مواطن تركي مشتبه بأن لهم علاقات مع حركة الداعي الإسلامي فتح الله غولن المقيم في منفاه الطوعي في ولاية بنسلفانيا الأميركية، والذي يطالب أردوغان باسترداده لمحاكمته بتهمة محاولة الانقلاب ضده.

مصير فتح الله غولن أصبح آخر نقطة خلافية في العلاقات الثنائية بين البلدين. ومع أن الرئيس ترامب، وفقا لتقارير صحفية عديدة كان ميالا لتسليم غولن إلى أردوغان، إلا أن غولن لا يزال يتمتع بحماية القانون الأميركي، خاصة وأن تركيا لم تقدم أي أدلة مقنعة تؤيد التهم الموجهة ضده.

خلال الحرب الباردة، حين كان للاتحاد السوفياتي حدودا مشتركة مع تركيا توطدت العلاقات العسكرية والسياسية بين البلدين، باستثناء الفترة التي عقبت غزو تركيا لشمال قبرص في 1974، وهي خطوة دفعت بالكونغرس الأميركي لفرض عقوبات عسكرية ضد تركيا. ولكن انهيار الاتحاد السوفياتي أبعد هذا الخطر القديم عن تركيا، وجعلها أقل اعتمادا على الحماية الأميركية وعلى مظلة الناتو.

ويمكن تأريخ بداية تفكك التحالف بين واشنطن وأنقرة إلى الغزو الأميركي للعراق والذي عارضته تركيا حين رفضت السماح للقوات الأميركية باجتياح شمالي العراق من الأراضي التركية. ولأن الغزو عزز من نفوذ منطقة الحكم الذاتي في كردستان العراق، فقد ساهم ذلك في توتير العلاقات بين البلدين. نمو العلاقات الأميركية مع أكراد سوريا وخاصة بعد بداية الحملة الجوية الدولية التي قادتها الولايات المتحدة ضد قوات تنظيم الدولة الإسلامية في 2014، ونجاح أكراد سوريا في حكم أنفسهم في منطقة تقع على الحدود التركية، ساهم أكثر في نظرة تركيا إلى أميركا على أنها قوة سلبية خلقت وضعا أمنيا يمثل تحديا لها في شمالي سوريا.

وقبل بروز “الخلافة” التي أعلنها تنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”) في مناطق واسعة من سوريا والعراق، فتحت تركيا عمليا حدودها لعبور آلاف “الجهاديين” المتطرفين للمشاركة في القتال في سوريا. ولم تنظر تركيا بإيجابية إلى الحرب الجوية ضد مقاتلي “داعش”، وبدا ذلك واضحا من رفضها الأولي السماح للطائرات الأميركية والحليفة بالانطلاق من قاعدة أنجرلينك لقصف مواقع التنظيم، حيث ماطلت لحوالي 8 أشهر قبل أن تسمح باستخدام أنجرلينك.

وأفضل تعبير عن استياء تركيا من أميركا، وتحولها باتجاه روسيا كان في شراء صفقة الصواريخ S-400. في سوريا، بدأ اردوغان في السنوات الأخيرة ينسق سياساته مع روسيا وإيران على حساب الولايات المتحدة وحلفائها السوريين.

منذ أشهر يحذر المسؤولون الأميركيون أردوغان من مغبة شراء ونشر الصواريخ الروسية، التي تهدد الطائرات الأميركية وتسهل على روسيا مهمة التجسس على قوات حلف شمال الأطلسي، ولكن التحذيرات الأميركية لم تغير من حسابات أردوغان، على الرغم من أن وزارة الدفاع الأميركية علّقت دور ومساهمة تركيا في مجموعة دولية مسؤولة عن تمويل برنامج بناء طائرة F-35 المتطورة والذي كان يفترض بأن تشتري تركيا 100 طائرة منها.

مشاعر الاستياء الواسعة في الكونغرس من سياسات أردوغان في سوريا وعلاقاته المتنامية مع روسيا وإيران، وازدياد قمعه للمعارضة التركية في الداخل، كلها تبين أن العلاقة الشخصية الودية بين ترامب وأردوغان لن تكون كافية لمنع حدوث تدهور نوعي في العلاقات في الأشهر والسنوات المقبلة.

من جهته، سوف يحاول أردوغان تمتين علاقاته أكثر مع ترامب بأمل إقناعه بالتصدي لعقوبات الكونغرس ضد تركيا. تجد تركيا اليوم نفسها في حالة بحث مضن عن الأصدقاء في واشنطن. وحتى الخبراء الأميركيون الذين يواصلون تعلقهم ببعض “المسلمات” القديمة من نوع: العلاقات الثنائية مبنية على أرضية قوية وقديمة، يعترفون الآن بأن أردوغان قد تمادى كثيرا في تحدياته لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

الحرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى