
الكُرد في سوريا بين الطموح القومي وصعوبات الواقع
فرحان مرعي
لم يتوانَ الكُرد لحظةً في الدفاع عن هويتهم ووجودهم، والدعوة لتحقيق مطالبهم القومية المشروعة منذ بدايات تأسيس الكيان السوري عام 1920، وفي كلّ المراحل والأنظمة المتعاقبة على سدة الحكم في سوريا. ففي ظلّ الانتداب الفرنسي، شارك الكُرد السوريون في تأسيس أول جمعية سياسية، مع زعماء من كُردستان تركيا، وهي جمعية خويبون، خاصةً بعد انهيار ثورة الشيخ سعيد، مطالبين بحقوق الكُرد، ومتابعة الثورة، ودعم ثورة إحسان نوري باشا في جبال آرارات أو ما سُمِّي بثورة آكري عام١٩٢٨، كانت جمعية خويبون أساساً لبلورة فكرة القومية الكُردية في سوريا وعموم كُردستان.
فيما بعد، طالب زعماء ووجهاء الكُرد عام 1932، عبر مذكرة رسمية، دولة الانتداب الفرنسي بإقليم ذاتي، وفيلق عسكري، والتعليم باللغة الكُردية، وإدارة المناطق الكُردية من قِبل سكانها. إلا أنّ هذه المحاولات لم تُكلّل بالنجاح نتيجة تقاطع المصالح الفرنسية والتركية آنذاك، لكنها لم تتوقّف أيضاً، حيث استمرّت الحركات السياسية والمنتديات والنشاطات الثقافية الكُردية في ظلّ الانتداب الفرنسي. وتُوجت هذه المحاولات – ومع نمو الوعي القومي – بإنشاء أول حزب سياسي كُردي عام 1957، وهو الحزب الديمقراطي الكُردي – الكُردستاني، الذي طالب بتوحيد وتحرير كُردستان.
وعلى إثر ذلك، اعتُُقِل قادة الحزب لسنوات عديدة، وتعرّض أعضاؤه للملاحقة والقمع، كما تعرّض الشعب الكُردي فيما بعد لحملة من المشاريع السياسية العنصرية ضد الكُرد السوريين، مثل سحب الجنسية من المواطنين الكُرد، والاستيلاء على أراضيهم الزراعية، وتوزيعها على الفلاحين من عرب الغمر القادمين من محافظتي الرقة وحلب، وتعريب المناطق الكُردية، وإهمالها من ناحية الخدمات والإعمار والتطوير، نتيجة تنفيذ قوانين استثنائية ذات طابع سياسي، خاصةً خلال فترة حكم البعث والأسد.
ورغم ذلك، لم يتوقّف العمل السياسي والثقافي الكُردي، الذي عبَّر دائماً عن الهوية القومية الكُردية والحقوق السياسية المشروعة. وتخلّلت هذه الفترة انتفاضة قامشلو في آذار 2004، تعبيراً عن رفض سياسات الظلم والقمع والإقصاء ضد الكُرد، وكانت 12 آذار 2004 الأساس في اندلاع الثورة السورية الشعبية في آذار 2011. ورغم انضمام الكُرد إلى الثورة وائتلاف المعارضة السورية والمشاركة السلمية فيها، ورغم توقيع وثائق رسمية تضمن الحقوق الدستورية للشعب الكُردي مع الائتلاف ومن خلال المؤتمرات الخاصة بالحلّ السياسي في سوريا، فإنه عند سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، وتفاؤل الناس بانتهاء حقبة الاستبداد ورفع المظالم، لم يتمّ الإشارة إلى الكُرد نهائياً، وكأنهم ليسوا ثاني أكبر قومية في سوريا، ولم يتمّ التطرق إلى الحقوق القومية الكُردية أو المكونات الأخرى عند كتابة الإعلان الدستوري (الدستور المؤقت) في 13 آذار 2025. كذلك، لم تُشِر الاتفاقية الأخيرة – بين قائد قوات سوريا الديمقراطية وسلطة أحمد الشرع، رغم كونها أحد حلفاء التحالف الدولي الأساسيين في محاربة الإرهاب ومكافحة داعش، وتقديم آلاف الشهداء-إلى الشعب الكُردي كشعبٍ أصيل يعيش على أرضه التاريخية، أو إلى إمكانية تثبيت مطالبه في الدستور.
إنّ هذا الطموح الكُردي المشروع – التعبير عن خصوصية الكُرد الثقافية وهويتهم القومية، وحقهم في الوجود مثل سائر شعوب العالم – يصطدم بوقائع وعوامل كثيرة، منها ذاتية تتعلّق بطبيعة الشعب الكُردي وظروفه الجيو – سياسية في المنطقة، ومنها موضوعية تتعلّق بالظروف الإقليمية والدولية المعقدة. وقد أثَّر تقسيم جغرافية كُردستان وتقاسمها بين قوى إقليمية ودولية عديدة على توافق الكُرد ووحدتهم الداخلية، إلى درجة أنه خلال العقود الأخيرة تمّ تمييع القضية الكُردية من مشروع قومي إلى فانتازيا سياسية، من قبيل رفع شعارات أخوة الشعوب الديمقراطية والأمة الديمقراطية، والقول بأنّ فكرة القومية أصبحت متخلفة عن العصر، بما ينسجم مع عقلية وسياسات الدول الغاصبة لكُردستان. فكلما طُرِح مشروع قومي كُردي في جزء من كُردستان، رفعت تلك الدول شعارات الأخوة والأمة كحقٍّ يُراد به باطل، وهو صهر الكُرد في بوتقة القوميات العربية والتركية والفارسية.
إنّ العقلية العربية الإسلامية، كنموذج، ذي ثقافة سلفية أصولية تدّعي مصدرها الإلهي، وتدّعي أنها خير امة أخرجت للناس ، لا تقبل النقاش، ولا التعدد، ولا التمايز، فالشعوب المختلفة عنها هم مجرد موالٍ ورعايا للدولة الإسلامية، أي مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة، يُفرض عليهم الجزية وهم صاغرون. وأمام هذا الواقع والصعوبات المختلفة، لا بدّ من إعادة النظر في الفكر السياسي ونقد الخطاب الكلاسيكي الكُردي، بحيث تنتقل الحركة السياسية الكُردية من التركيز على مطالب قومية فقط إلى الانخراط في بناء دولة المواطنة والديمقراطية التي تحقّق حقوق الأفراد و الجماعات و منها الكُرد لأنه لا يمكن اختزال القضية الكُردية في بعدها الإثني فقط.
تعاني الحركة السياسية الكُردية من صعوبات كثيرة، أبرزها الترهل، والتشرذم، وعدم التوافق والتمثيل الموحد، كما فشلت في آلياتها التنظيمية الحالية.
إنّ نقد السياسة الكلاسيكية الكُردية يبدأ بإعادة الهيكليات التنظيمية على أسس جديدة تتناسب مع التطور على المستوى العالمي، وخاصةً في مجالات الإعلام، واللغات، وتقنيات الاتصال، والذكاء الاصطناعي، واستغلال الطاقات الشبابية، بحيث يمكن تحقيق التوازن بين الحفاظ على الهوية القومية الكُردية من جهة، والمشاركة في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية القائمة على أساس المواطنة المتساوية من جهة أخرى.
إنّ العزلة عن المشاركة في الدولة بدعوى عدم تحقيق المطالب القومية دفعة واحدة تضرّ بالكُرد ومصالحهم اليومية الضرورية.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “330”