الكُرد و الجغرافيا – اللعينة
محمد جمعان
تقع كُردستان في منطقة غير مستقرة وغاية في التعقيد، حيث الصراعات كانت ولا زالت هي سيد الموقف بين الكيانات التي تشكلت حولها عبر التاريخ.
قدر الكُرد هو وجوده على جغرافية لها ميزات خاصة من حيث توزيعها بين دول متصارعة و التي تتميز بما يلي:
⁃ا بدية الصراعات والحروب والخلافات والتناقضات بين تلك الدول.
⁃ هذه الكيانات استطاعت ان تستغل الدين لتشكل أمم لنفسها و ترسخ مستقبلها.
⁃ هذه الأمم استفادة من الشعوب المجارة لخدمة اجندتها ومنها أمة الكرد .
ولتحقيق ذلك كان لغة السلاح والقوة والإكراه هو الأسلوب الوحيد الذي تعاملوا به مع جيرانهم الكرد .
اغلب هؤلاء الجيران والذين جاؤوا من بعيد البعيد طمعوا بثروات كردستان ولم يقبلوا بوجود الكرد حرا يعيش على ارضه التاريخية.
في العصر الحديث تبدل كثيرا أسلوب التعامل بين الدول والشعوب عموما ، حيث تشكلت مؤسسات دولية تشرف وتسيطر إلى حد ما على السلم والحرب في العلاقات الدولية.
فقد تبنت تلك المؤسسات الدولية والتي تشكلت في بداية القرن الماضي منذ تأسيس هيئة عصبة الأمم إلى الأمم المتحدة إلى منظمات حقوق الإنسان في العهود الحديثة الكثير من مبادئ حقوق الإنسان و حرية الرأي وما شابه. ولكن دول الجوار الكردي التي بنت أجيالها على منطق القوة والسيطرة والغزو و ” الفتوحات “، حالت دون استقرار كردستان اقتصاديا وديموغرافيا.
فالعروبيون يسمون كل من تكلم العربية فهو عربي وبأن العروبة هي ثقافة ومنهم من ربط اللغة العربية بالدين وبالآخرة و بأن لغة الجنة هي اللغة العربية. وبهذا استطاعوا استقطاب الملايين من الناس من الشعوب الأخرى، ليس فقط ان ينضموا اليهم لا بل ان يخدموا قضاياهم المصيرية.
ففي الجمهورية التركية الحديثة حيث ورثوا الأرض و التاريخ والشعب من الدولة العثمانية والتي كانت مزيج من الشعوب والثقافات المختلفة فإن قادتهم ينكرون دور ووجود تلك الشعوب ويقولون بأن كل من سكن على الأرض التركية فهو تركي.
أما في ايران فإنهم يعيدون الكرد إلى اصولهم التاريخية.
وهكذا نرى ان الكثيرون من جيران الكرد يحاولون ميل جزء كبير من الكرد على انهم اخوة لهم وهم بهذا لا يعنون المساواة في الحقوق لا بل أن الكرد ليسوا أمة بعينها ، بل هم كانوا ولا زالوا جزءا من تلك الدول و ثقافاتها و جيوشها، ولهم بذلك أمثلةً كثيرة ممن ابدعوا في الثقافة التركية كالكاتب الكردي يشار كمال الذي ابدع في خدمة الثقافة التركية . واما بين العرب : فاللائحة طويلة من فنانين و كتاب ومبدعين وعلماء كرد حيث خدموا الثقافة و الحضارة العربية وكذلك الأمر في الثقافة الإيرانية.
ففي سوريا شارك الكثير من الكرد في المجال السياسي و الثقافة و العلم ، من رجال الدين مثل محمد سعيد رمضان البوطي إلى الفنانين الكرد الكبار من أمثال: طلحت حمدي، آلا رشي و الخ من العشرات من المبدعين الكرد ولكن هذا التمازج لم يعطي دورا واضحا لتنوع الثقافات لا بل في صهر كل ما هو كردي، في بوتقة الثقافة العربية فغابت عنهم صفتهم الكردية نتيجة لسيطرة الفكر القومي العربي الاستعلائي. بهذه الأساليب وأساليب أخرى مثل استعمال القوة والبطش والاضطهاد والذي لا زال مستمرا إلى يومنا هذا نرى هذه الدول الحديثة في منطقتنا لم تسيطر فقط على الجغرافيا الكردية لا بل سيطرت على الفكر والإبداع الكردي وسخرته لصالحها .
وبهذه الصورة شكلت تلك الدول التي اقتسمت كردستان احزابا وحركات و تيارات قومية ومنها عنصرية ودينية متطرفة وإرهابية . وما داعش الإرهابي إلا صورة واضحة عن هذا التطور الخطير حيث هجم على شنگال وكردستان وكوباني فدمر قرى ومدن بكاملها وزهق الآلاف من الأرواح.
هذه الجغرافيا اللعينة التي ربطت قسما من الامة الكردية بالترك والعرب والفرس وحتى ان قسما منهم من ربط اصل الكرد بالجن، ما كان هذا التوصيف إلا لتشويه صورة وتاريخ الكُرد. لقد وصفت تلك الدول أي تحرك أو نضال كردي نحو الحرية او الاستقلال ” بالانفصال ” وليس ” بالحرية ” او حقه في تقرير مصيره بنفسه ،لا بل انه ارتباط وخدمة للأجنبي .
وفي هذا السياق يقول السياسي الكردي المخضرم د. محمود عثمان ان الجغرافيا جلبت الويلات للكُرد، واضطر الكرد للتعامل مع بعض الجيران وقدموا لهم خدمات هامة على حساب أخيه الكردي، لا بل محاربة أخيه أيضا.
وهكذا نرى أن هذه الجغرافيا اللعينة جلبت الويلات للكرد من جيرانهم، هؤلاء الجيران المختلفين دائما فيما بينهم ولكنهم يتفقون على الكرد ان وصل الكرد إلى درجة ” الخطر عليهم ” أي ان وصلوا إلى درجة تحقيق حلمهم في الحرية او استطاعوا بناء قواه من التنظيم والإرادة والقرار ، فيتفقوا هؤلاء الجيران على سحقهم، ولنا من التاريخ القديم والحديث أمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى.
نذكر بعض الأمثلة البارزة الحديثة وليس في سبيل الحصر: اتفاقية الجزائر بين الشاه الإيراني وصدام حسين في 6 آذار عام 1975 . وما الهجمات التي تحصل في هذه الأيام على إقليم كُردستان العراق – الفيدرالي من قبل ايران و تركيا وجماعات عراقية في نفس الوقت و كذلك الهجمات المتواصلة على كردستان سوريا من قبل تركيا لتدمير البنية التحتية لها . هذا الوضع الصعب للشعب الكردي ما هو إلا نتاج لهذه الجغرافيا اللعينة وحدودها وتقسيماتها.
ولا ننسى ان علاقات حسن الجوار والاتفاقات الكثيرة التي وقعت بين تلك الدول عادة تبنى على أساس مبدأين اثنين :
أولا ؛ للحفاظ على المصالح العليا لتلك الدول والأنظمة والحكومات للشؤون الأمنية “حفظ الحدود”.
و ثانيا ؛ لمحاربة الكُرد وتمزيقهم.
استفاد الكرد من جغرافيتهم الصعبة فقط عندما هربوا و اختبؤا في جبالهم الوعرة من بطش جيرانهم.
فالصراع الدائر بين اليهود والمسلمين يتضرر الكردي و يعاقب نظرا لموقعه الجغرافي . و كذلك حينما يتنافس حزب معارض في تركيا على السلطة مع السلطة ، فيعاقب الكردي في جبال كردستان.
والسلطات في بغداد ودمشق وطهران وأنقرة ان ارادت تمكين سلطتها فهي تهاجم الكرد في قراهم ومدنهم.
وحتى الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل البعيدين جغرافيا بآلاف الكيلو مترات يسقط الكردي ضحية لهم. والمثال الأقرب هو الهجوم الصاروخي من قبل ايران ضد هولير في 15.01.2024 بحجة ضرب مركز موساد الإسرائيلي، حيث
يقصفون عاصمة كردستان مع علمهم ان مركز موساد في تل ابيب و لهم سفاراتهم ومراكزهم في عمان والقاهرة ودول الخليج و ليس في هولير.
لقد صرح احد السياسيين الإسرائيليين حول هذا الهجوم : لو كان لإسرائيل مركزا في هولير لما تجرأت ايران على الهجوم عليه.
فالنتيجة نلاحظ أن الكرد وجغرافيته وثقافته تحارب ليس لأن الكردي يعاديهم او يتعامل مع إسرائيل لا بل لأن الكرد يستطيعون ان يبنوا حضارة وثقافة ومدن متطورة.
تخاف تلك الدول من حصول الكرد في جزء ما من كردستان على حريته، فالعاقبة ستكون على الكرد في دولته.
لعنة الجغرافيا تلاحق الكرد منذ أجيال فيقول المرحوم مام جلال : لو كانت كردستان في بلجيكا لكانت حرة و متطورة.
وفي الختام ، كردستان هو اسم يزعج الكثيرين في المنطقة و لا يستساغ حرية هذه
الجغرافيا.
وانهي موضوعي بجملة معبرة قالها كاكا مسعود لإحدى القنوات التلفزيونية العربية: ان الجغرافيا ظلمتنا ظلما كبيرا.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “316“