آراء

* المخاض العثماني وانهيار الدولة *

القسم ٨
إعداد : وليد حاج عبدالقادر / دبي

في البداية وكلازمة أراها من الضرورة أن تُذكر، وذلك لتوضيحٍ لابدّ منه ، لابل ويفترض بها أن تكون في مقدمة كلّ قسم أنشره في هذه الصفحة من جريدة يكيتي،ضمن هذه السلسلة، وعبر سنين هذه المرحلة التي أزعم بأنني سأحاول وبكلّ جهدٍ تقديم تغطية مكثفة لسنوات أحداثها الطويلة بمتغيراتها وتقلباتها السياسية ، وطبيعي أنني أعني بالمنطقة هذه كُردستان بمفهومها الجغرافي والموثق تاريخياً # ، وبالتأكيد أيضاً – سأحاول – التركيز على أهم ما مرّت بها كما وتعاقبت عليها من مجريات وأحداث وتنوع كما وتغييرات الخرائط الجغرافية بمختلف مخرجاتها ، وإن كنت -قد نويت – في الأساس حصر الجهد بالتركيز معمقاً في البقعة السوداء المغفلة حتى كُردياً لأسباب متعددة من جهة أو لربما قد تكون حتى من – العبط – أو – الاستهبال – المتقصد لتاريخنا من جهة أخرى ، هذا وإن كانوا قد – تلطّفوا بنا أحياناً ! – و ليبدو الخوض فيها والحالة هذه تعطفاً ولكن ومعها ؟ – هات يا بلاوي !! – وعليه وكما أسلفت فإنّ البقعة الرمادية التي – أشكلتها – الدول الغاصبة لكُردستان قد تمّ تحويلها إلى مسلخٍ للبتر لا المعرفي فقط بل وضعت على طاولة التقطيع قصاً ، هذا الامر الذي كان ولايزال وكأمر واجب يفترض بها أن تدفع بمختصينا والمهتمين في العودة ، وكتوكيدٍ لفرض واجبٍ بالسعي لجمع الطاقات والخوض في مجال البحث والتوثيق التاريخي والتصدي علمياً للعبث والفوضى كما وسياسة الاستحواذ حتى منه التاريخي وبالتالي البناء عليها لتاريخٍ مزيف ، وهنا وفي هذا القسم أيضاً سأستعرض الفترة التاريخية للتقسيم الجغرافي والذي تمّ منذ حوالي مائة عام واكثر ، وهذا التشبث والإصرار ومردّه الرئيس هو لعوامل عديدة وإن كان الحافز الأساس سيبقى هو ذاته و كنتاج طبيعي لما تعرّضت لها صفحات التاريخ الذي دوّن وخاصةً منها في وسائلها الممنهجة التي سردت ملء صفحات كثيرة، وللأمانة فقد كان – ولم يزل شعار متبنّيها – تطويع الحقيقة لغايات بعضهم – وقد صرّحوا بها علناً وبأعلى الأصوات – وتحت شعارات باهتة ( إعادة كتابة التاريخ أو تنقيته من الشوائب ) وذلك – وبمهزلة صارخة – وشكّلت لجان لا لتدوين التاريخ بحيثياتها بقدر توضّح الغاية والهدف الرئيس منه في القيام بأشكلة لصياغة تاريخية من بنات منهج وعقيدة الكاتب فرداً أو مؤسسة !
إنّ الحجم الكارثي لما آلت إليه – سخف التدوينات وتشويهها – تستوجب وبالضرورة لا إعادة تدقيق تلك الصياغة مجدداً، بقدر ما يتوجّب وكشرط للعودة الى الصياغات التي بنيت على وثائق مؤرشفة لاتزال غالبيتها في خزائن وأقبية جهات سيادية لدولٍ تحكّمت طويلاً، واستعمرت بقاعنا ومن جملتها كُردستان .. وباختصار ونظراً للكم الهائل الذي تمّ الاستحواذ عليه وتزييفه من قبل سدنة النظم الغاصبة لكُردستان ،وأيضاً وكجانبٍ معرفي بحت واستناداً على إمكانية الوصول إلى المصادر الحقيقة وكل الوثائق التي غطّت الغالبية العظمى لمخرجات الجغرافية السياسية بخرائطها لكُردستان ومحيطها ولكلّ هذا، لابدّ من تجديد رغبة الأستمرار فينا وعلى قاعدة شخصانية بداية ولكن ترتكز على التصميم قدر المستطاع للوصول إلى مكامن الوثائقيات المعنية منذ بداية مرحلة مخاض الحرب الكونية الأولى ومخرجات اتفاقية لوزان التي بتنا قريبين جداً من مئويتها السنوية والتي من المفترض أن تعود إليها – الدول المعنية حينها – والبتّ بها مجدداً ، وباختصار فإنّ عصرنا الحالي هو ليس كما سابقاته ، لابل لقد وفّر له التاريخ وثائق وحقائق مذهلة، وباتت هناك وفي قضايا كثيرة وفرة من الوثائق ، والوصول إلى أصولها ميسر وسهل ، وعليه فقد بات المبحث – أي مبحث – وبتفاصيله الواسعة كما مساحاتها الجغرافية الشاسعة ، وبتنوع كما واختلاف ناسها، وبات من الجائز عملياً أن ينطبق عليها ذات مصطلح الملل والنحل ، نعم .. وهنا : سأظلّ أصرّ – شخصياً – لاسيما أنني بتّ مقتنعاً – بعدما تبيّن وبوضوح وشفافية كيف أنّ المنتصرين هم في الواقع كتبوا تاريخاً يتواءم مع مبتغاهم، فأوجدوا قضايا واستلبوا كثيراً من الحقائق، وزوّروا وشوّهوا ، وفي الواقع باتت المصداقية في كثيرٍ من الأمور هي الغائبة الوحيدة ، وعليه ! بات من الضروري إعادة قراءة ذات التاريخ وبمرحلتها وبالتأكيد من خلال ذات مصادرها ولكن من أرشيفاتها السرية، خاصةً وأنّ مئوية اغلبها تلزم الجهات المعنية بفكّ الحجز وإزالة السرية عنها – وعلى سبيل المثال وبإختصار – ملاحظة ما آلت اليها المناطق في غربي آسيا، لابل والتي جاءت بالتوازي مع مشاريع فكفكة الإمبراطورية العثمانية ، ومن ثم – أيضاً – تطورات طبيعة الصراع بين بريطانيا من جهة وصاحبة الدور الأكبر في تلك المرحلة التاريخية ، و إقحامها لفرنسا فيها ومعها سلة المقترحات وسبل، كما آليات تقطيع الكعكة بأحجام صغرت أو كبرت مساحتها ، وهنا وفي العودة الى الحقائق المستخلصة من عصارة الوثائق التي تمّ أرشفتها في تلك الخزائن المحكمة كانت لدى أرشيف الدولتين المعنيتين بشكلٍ خاص وهما بريطانيا وفرنسا ، ولسعة وضخامة العدد الهائل لها والتي تغطّي مراحل طويلة من الزمن ؛ فسيكون من المفيد جداً أن نسعى لتكثيف واختزال الأهم منها كُردستاتياً ، ولضرورة بحثية مكثفة ، سنعود تحديداً إلى شتاء عام ١٩١٩ حينما وزّع مكتب رئيس الوزراء البريطاني على صحافة دولته مذكرة سرية ضمنها ( … إنّ قوات فيصل ساعدت مادياً الجنرال اللنبي ودخلت المدن الداخلية الأربع الكبرى – دمشق وحمص وحماة وحلب قبل أن تدخلها قوات اللنبي ، وإنّ فيصل عمل ذلك باعتباره أنّ قواته ليست جيش غزو أجنبي قدم من الحجاز بقدر ماهو وقواته من أهل البلاد وللتوكيد على أنّ غالبية القوات المحرّرة هم من الجنود العرب، وأنّ من ساهموا في تحرير سوريا ايضاً كانوا من أهل منطقتها ١ ، وعليه فليس من الغرابة بشيء وبهكذا واقع، أن يدّعي لويد جورج ( .. أنه لايريد أن يأخذ سوريا لبريطانيا.. وفي الحقيقة سيرفض انتداباً بريطانياً عليها ، وإنما هو يؤيّد قضية فيصل العربية ، ولكن وبالتأكيد فإنّ لويد جورج نفسه كان يدرك تماماً بأنّ القضية العربية لم تكن سوى مجرد واجهة تتوقّع بريطانيا من خلالها أن تحكم تلك المناطق ، وكان كليمنصو قد قال للورد ميلر والذي بدوره لم ينكر – إنّ فيصل يفعل ما يطلبه مستشاروه البريطانيون .. ) ٢ .
ومن البديهي ألا نلاحظ بأنّ تلك الأيام كانت هي المسؤولة ولم تزل، سواءً في العبث الخرائطي أو الخلط الديمغرافي ، وقابل الحماسة والجرأة في الإجهار بالخطط والبدء في كشفها وتنفيذها ايضاً علانيةً ، ومع هذا ( … كان ويلسون أينما ذهب يقابل بترحيب صاخب ) الأمر الذي دفع جون منار كينز ليقول : / … عندما غادر الرئيس ويلسون واشنطن كان يتمتّع بمكانةٍ عالية ونفوذ أدبي لامثيل لهما في التاريخ وفي سائر أنحاء العالم ، ولكن لاشيء قدّم لنا وصفاً أفضل لما كان سيحدث في مؤتمر الصلح من خطابات ويلسون التي تحدّث فيها عن الأمور التي لن تحدث في المؤتمر ، حيث كانت الشعوب والولايات موضع مقايضة لتنتقل من سيادة دولة إلى سيادة دولة أخرى وكأنها سلع أو بيادق في لعبة ، بل كان الامر عكس ذلك إذ أنّ هذه التسويات تحقّقت – بالرغم من أنّ ويلسون تحدّث في ذلك وأكّد بأنها لن تحدث – وذلك حتى يهيّىء فرصة التوافق بين الدول المتنافسة والتي تسعى لاستحواذ النفوذ الخارجي والسيطرة ايضاً مستفيدةً من عدم سلوك بلد ويلسون عين ذات المسلك الذي رسمه .. ٣
وفي العودة إلى ويلسون والملف السوري تحديداً، سنرى بأنه كان ميّالاً إلى تأييد حقهم في تقرير مصيرهم واختيار حكومتهم وكانت لرغبة واستعداد فيصل في التعاون لإيجاد تسوية، وعليه فقد اجتمع مع فليكس فرانكفورتر الذي كان يمثّل الزعيم الصهيوني الأمريكي لويز برانديز وأبلغه بصراحةٍ واضحة ( .. أنّ المسألة العربية لم تعد قائمة باعتبارها صعوبة – معرقلة على طريق تحقيق برنامجنا قبل مؤتمر الصلح ) وفي الواقع لابل وللحقيقة هي أنّ فيصل بصفته ممثلاً عن العرب في المؤتمر إياه فقد قال لأعضاء المؤتمر بأنه – استبعد فلسطين من المنطقة التي يطالب هو بأن تكون منطقة الاستقلال العربي ، إذن ! فقد كان التباين واضحاً وبحدية بين عقلانية فيصل الواضحة في تعامله مع المطلب اليهودي وتصلب كليمنصو بالمقابل في تعامله مع مطالبة العرب بالاستقلال والذي وصفه كليمنصو – الاستقلال – واعتبره مجرد نفاق بريطاني .. وبناءً عليه فقد أدرك الفرنسيون بأنه ولمجرد قبول فيصل كناطق باسم سوريا فهو في الواقع تنازل عنها لبريطانيا ، خاصةً وأنهم مَن جاؤوا بقادة سوريين اختاروهم هم لسوريا وابرزهم كان مقيماً في سوريا منذ فترة طويلة تحت رعاية وزارة الخارجية الفرنسية ، ومما لوحظ من تمايز الموقفين البريطاني والفرنسي حول عروبة السوريين حيث اعتبروا ،هم عكس البريطانيين، بأنه وبالرغم من أوجه الشبه في اللغة والدين بين السوريين العرب ؛ ولكن السوريين هم ليسوا منهم ، وعليه فهم جديرون – ببلدٍ يحميهم ويحصّنهم على أن يتمّ توجيهها في ذات الوقت من قبل الفرنسيين – ٤ .
ومع الأيام وتزايد الخيبة في الآمال الكبرى التي أثارتها مبادئ ويلسون، والتي يمكن تصوّرها تماماً حسب ما ذكره فيلكس فرانكفورتر فيما بعد وتأكيده بأنّ الشهور التي قضاها في – مؤتمر الصلح بباريس ربما كانت الأتعس في حياتي حيث تزايد خيبة الامل في الآمال الكبرى التي ولّدها كلام ويلسون المفعم نبلاً والتي يولدها موت الأقربين .. وبالفعل فقد رفع ويلسون من خلال بنود مبادئه آمال العالم ، الأمر الذي ساهم في حدوث انتفاضات عدة خاصة في الشرق الأوسط ، الامر الذي حدا بموريس هنكي بإلقاء اللوم على ويلسون ونقاطه الأربعة عشرة وبشكل خاص مبدأ حق تقرير المصير الذي أعلنه ويقابله استحالة التطبيق ٥ .. وهنا علينا أن نتذكّر بأنّ أية قرارٍ محدد كان قد اتخذ في مؤتمر الصلح ترافق معه شعور عام بأنه كان هناك ثمة خطأ جسيم فيها ٦ . وعموماً ووفق تعهدات الحلفاء والمبادىء التي أعلنت أثناء الحرب ، إلا أنّ طريقة اتخاذ القرارات هي بمثابة خيانةٍ كانت تُمارس ، فالقرارات بغالبية مستوياتها كانت تؤخذ من دون توفر حتى القليل من الاهتمام بالأراضي والشعوب التي تتعلّق بها أو تعنيها الإجراءات ، ، وبالتاكيد فإنّ هذا الأمر ينطبق حتى على شروط الصلح التي فرضت في أوروبا ، وبالأخص الشروط التي فرضها الأوروبيون على الشرق الأوسط .. وحتى هذه المرحلة كان بلفور يقتصر اهتمامه على مراقبة ويلسون ولويد جورج وكليمنصو خلال المؤتمر وجلّ اعتماده في ذلك كان على موريس هانكي، حسب الخبرة فقط، وكذلك الصورة الي رسمها لهم بلفور هي ( أنهم ثلاثة رجال جداً أقوياء وجهلة يجلسون في المؤتمر ويتقاسمون قارات، وقد أسلموا قيادتهم لا لأحد سوى ولد صفير ٧ ، وقد وصف واحد من الدبلوماسيين الطليان المشهد قائلاً : ( إنّ المنظر العام في مؤتمر الصلح بباريس هو أنّ واحداً ما ولربما آخر من رجال الدولة في العالم يقف أمام خارطة ويبدا بمخاطبة نفسه ويتساءل ( أين ذلك ؟ .. أو تلك .. اللعين .. بينما يكون هو في الواقع يبحث بسباته عن موقع آخر ولم يسمع به مطلقاً .. ٨ ، ومع الانخراط العملي في الترتيبات النهائية لعقد مؤتمر الصلح وما رافق ذلك من ممارسات خلقت انطباعاً بانّ غالبية الأطراف المعنية بالشرق الأوسط إضافةً إلى مناطق أخرى تتمّ إقصاؤها عن المناقشات ، وكذلك بدل حضور كل الدول الحليفة اجتمعت منها فقط خمسة بدايةً لإعداد خطة مفاوضات ونظراً لأزمة ايطاليا الداخلية انسحبت هي وكذلك أمريكا ولذات الأسباب ، وبعد ذلك بسنة بعد الهدنة وعند مناقشة موضوع الشرق الأوسط قال وزير الخارجية الفرنسية لزميله البريطاني والذي وافقه على كلامه هذا ( إنه لم يبقَ سوى فريقين يجب أن تدرس مصالحهما دراسةً جدية وأن يجري التوفيق بينهما وهما بريطانيا العظمى وفرنسا، وانطلقا معاً في اتخاذ القرارات بشأن الممتلكات العثمانية ٩ ….
………..

الهوامش :
# – من المهم جداً التذكير بأنّ اسم كُردستان هي الأكثر ما كان في التداول وبشكلٍ خاص من قبل وزرارة المستعمرات البريطانية ومقرها كانت الهند
من الضرورة وكملاحظة لابد من التأكيد بأنه وحتى كل الإجراءات التي تمّت أو نوقشت هي كانت في الخاصية العربية ولم تشمل بالمطلق قضية كُردستان والمعني بها صراحةً في الوثائق البريطانية والفرنسية لابل وحتى مخرجات عصبة الأمم والتي أيضاً تمّ تحويرها الى مسمى – أزمة الموصل – عكس المخرجات الأممية والأوروبية وكلنا يتذكّر المساعي ومن ثم استفتاء حق تقرير المصير وكتوكيد للبعد الجغرافي فقد شمل العمق الجغرافي ليصل حتى خليج السويدية في المتوسط ومن ضمنها جبل الأكراد في الساحل السوري .
١ – الصفحة ٤٢٠ من كتاب سلام ما بعده سلام للمؤلف ديفيد ماكدولد
٢ – الصفحة ٤٢١ ذات المصدر
٣ – الصفحة ٤٣٤ ذات المصدر
٤ – الصفحة ٤٤٠ ذات المصدر
٥ – الصفحة ٤٤٤ ذات المصدر
٦ – الصفحة ٤٤٤ ذات المصدر
٧ – الصفحة ٤٤٥ ذات المصدر
٨ – الصفحة ٤٤٥ ذات المصدر
٩ – الصفحة ٤٤٥ ذات المصدر.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “318

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى