الموحّدون الدروز… جبين سوريا – قصة حكمة وكرامة
د. محمد حبش
تدفعني اللحظة للكتابة عن شموخ السويداء وأهل السويداء وفيم السويداء، فقد قدّم هذا الجزء الغالي من سوريا وعياً متقدماً في أدب الثورة وقيم الثورة وأخلاق الثورة.
الموحّدون أو بنو معروف، فالأولى وصف لدينهم والثانية وصف لنسبهم، وفي الواقع فقد جمع هذا الجيل الشامخ قمة الفضائل والقيم، وكان أميناً على سوريا في حريتها واستقلالها ومقاومتها للمحتل.
ومن حق هذا الجبل الرائع ورجاله الأبطال أن نتعرّف قليلاً إلى القيم النبيلة التي صنعت تاريخه الثقافي والعرفاني وأسّست لفلسفته الخاصة في مجتمع الإسلام,
نشأ الدروز تاريخياً حوالي عام 1000م في كنف الدولة الفاطمية، أيام الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، والحاكم كان يقود مصر في ذروة مجدها الحضاري، وقد غلا فيه قوم فألهوه، وغلا فيه آخرون فكفروه، وكان كما قال النبي عن علي: يهلك فيك اثنان محب غالٍ ومبغض قالٍ.
بدأ مذهب التوحيد فكرة ارتبطت بنشتكين الدرزي، الذي نجح في جمع الناس على وعي تنويري، ولكنه غالى في أمر الحاكم ودعا لعبادته وقد انقلب الدروز عليه وبايعوا بدلاً منه حمزة بن علي الزوزني وقد حظي حمزة باعتراف الخليفة وبات قائد الحزب التوحيدي الذي مثّل صحوة جديدة في الفكر الإسلامي.
لا يمكن بالطبع تبرير كلّ ما جرى في تلك المرحلة ولكن من المؤكد أنّ مذهب أهل التوحيد كان قائماً على فلسفة عميقة تخيّرت أجود ما في الإسلام عبر قراءة باطنية تتجه إلى تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم ونقص، وهو إرث عرفاني سبق إليه الاسماعيليون الفاطميون من أهل البيت النبوي الكريم.
قدّم الموحدون قراءة جديدة للإسلام، تركّزت في نقطتين ثوريتين: الأولى: تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم وانتقام، وفي سبيل ذلك فقد قالوا بأنّ نصوص الآخرة كلها مجاز، ولا يستقيم قبولها على الظاهر، وأنكروا كلّ ما نسب لله تعالى من ظلم وانتقام، والثانية: المطالبة بتطوير الشريعة بما يناسب الزمان، فلا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
ولم يكن ذلك ليرضي عموم المصريين، فنقموا عليهم بشدة، وحين مات الحاكم مضى خليفته الظاهر في هوى العامة فبطش بالدروز بطشاً شديداً وألجأهم إلى الهرب وطاردهم حتى جبال كسروان والشوف في لبنان حيث استقرّوا هناك وبدؤوا يعيشون التفسير الباطني للقرآن، وقد أضافوا إليه رحيق الحكمة اليونانية الفيثاغورية، وبات حكماؤهم في الجبل رواداً في ثقافة العرفان الإلهي ، يختارون القرآن نوراً يهدي لا قيداً يأسر.
لا يمكن بالطبع الدفاع عن كلّ خيارات الدروز في التاريخ فقد اختار القوم الدين السري بسبب الاضطهاد والتكفير المستمر، ولا شكّ أنّ قدراً غير قليل من الخرافات تسلّل لفكر العامة، الأمر الذي جعل مناقشة أفكارهم أمراً محفوفاً بالمخاطر والريب.
اختار الموحّدون رؤوس الجبال شموخاً واستقلالاً وعزة نفس، وباتوا مختلفين بالفعل عن محيطهم الإسلامي والمسيحي، ولكنهم ظلّوا يحترمون الأديان جميعاً وظلّ القرآن في قلوبهم وعلى ألسنة مشايخهم بعد أن أضافوا إليه كثيراً من الحكمة الإبراهيمية واليونانية والرومية.
وفي القرن العشرين ظهر فيهم أعلام كبار أغنوا المكتبة العربية والإسلامية وعلى رأسهم الأمير شكيب أرسلان وعز الدين التنوخي وعلم الدين التنوخي وقبل ذلك الأمير فخر الدين المعني والأسرة الشهابية وأخيراً قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش، وآخرون كثر.
تاريخياً تعرّض الدروز كغيرهم من المذاهب الإسلامية لحملاتٍ ماحقة من التكفير قادها متشددون قساة ومن أبرز هؤلاء ابن تيمية الذي أصدر سلسلة فتاوى تكفيرية شديدة بل وقاد بنفسه هجوماً مسلحاً على جبالهم وأسس لموقف تكفيري ظالم ودعا إلى البطش بهم حتى يخرجوا من عقائدهم..
وفي موقف لاحق اعتبر الأزهر الشريف أنّ فتوى ابن تيمية باطلة، وأصدر شيخ الأزهر محمود شلتوت فتوى واضحة باعتبارهم مذهباً إسلامياً كريماً، وقدّم الرئيس جمال عبد الناصر مئات المنح التعليمية لأبناء الشوف والسويداء للدراسة في مصر وفي الأزهر تحديداً.
وفي الثورة السورية فإنّ من الواجب الاعتراف أنّ شباب السويداء قدّموا أهم نموذج في الانضباط والوطنية والكرامة، واستطاعوا أن يكفّوا يد الظلم عن شبابهم ونسائهم، وفرضوا وعيهم على النظام العسكري، وألزموه احترامهم، وأظهروا تلاحماً متميزاً بالشعب السوري بكل أطيافه.
لقد حانت اللحظة التي ينبغي أن نملك فيها الشجاعة نحاكم فتاوى التكفير التي استهترت بدماء الناس وأباحت سفك الدم على خلفية الإيديولوجيا المتعصبة، وأن نشير بمرارة إلى ملايين الدولارات التي نشرت طبعات متكررة لهذه الفتاوى الأثيمة لتحريض بعض الناس على بعض، وتسبّبت في فتن كثيرة، وشوّهت وجه هذه الثورة…