الوضع السوري في انتظار ترامب
عبد الباسط سيدا
إذا نظرنا إلى ظاهرة ترامب في سياق جملة التحوّلات الكبرى التي شهدها العالم، ربما وصلنا إلى أحكام أقل حدة من الأحكام التي صدرت حتى الآن بسبب مقاومتها للشعبوية وتمسكها بالديموقراطية في شكلها الأمثل.
فهذه الظاهرة تنامت في أجواء انهيارات الأنظمة الاشتراكية، وتغوّل النزعة الاستهلاكية، واتساع الهوة بين التطور في ميادين العلوم الطبيعية وما يجرى في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وشمولية العولمة بأبعادها المختلفة، واستفحال أخطار التطرّف الإسلاموي في نسخه الجهادية.
وتُضاف عوامل أخرى منها: ترهّل الأنظمة الديموقراطية الغربية، وغياب الزعامات الكاريزمية التي كانت تنطلق من كونها صاحبة رسالة، إلى جانب تشكّل نخب بيروقراطية مهيمنة لم تكن يوماً بعيدة عن الفساد، وأخرى باتت ممارسة السياسة عندها جزءاً من الإرث الأسري، أو صيغة من العمل الشللي المصلحي.
وبتفاعل كل ذلك، تأتي الترامبية لتجسّد مرحلة التحوّل الكبير لعصرنا على صعيد القيم والمبادئ، وأساليب العمل والتعامل والتداخل، وطنياً وكونياً.
ولهذا، نرى أن اعتبار الترامبية كارثة ستعقبها كوارث في بلدان أخرى لا يستقيم وطبيعة الواقع المعاش. ففي النهاية نحن أمام وضعيات مشخّصة تتحكّم فيها آليات جديدة ربما لم نألفها بعد، أو أنها تتناقض مع تلك التي اعتقدنا أنها النموذج والمثال. وضعيات سيتمكّن من يمتلك القدرة على التكيّف الفاعل معها من الاستمرار، والتحوّل إلى جزء من منظومتها. أما من يعجز فسيلتحف بالحنين المضمّخ بالمشاعر إلى الزمن الجميل الذي لم يكن، ولن يكون.
فهو واقع نعيشه بآماله وآلامه، بإخفاقاته ونجاحاته، يلزمنا بالمتابعة والقدرة على التفاعل، إذا كنا نريد دوراً مؤثراً يوقف المزيد من التراجع والانهيارات.
لكن الترامبية بكل ما أُحيط بها من توجّس أو ترحيب، وما قيل حولها، لن تكون الظاهرة السحرية التي تعيد تكوين العالم، وتلوّنه وفق الأمزجة الخاصة بهذه الفئة أو تلك.
فهي ظاهرة اجتماعية- اقتصادية وسياسية ملزمة بأخذ الحسابات والمصالح في اعتبارها، أي أنها ملزمة بإعادة النظر في تقويم أسس الصراعات والتوازنات في مختلف مناطق العالم، اعتماداً على تقارير المؤسسات والمراكز والخبراء المعنيين. وإلا فإنها ستظل ظاهرة فوقية إعلامية تعيد إنتاج المأزوم الذي لم يتمكّن أوباما بوعوده التبشيرية من تجاوزه، بل أسهم بسياساته الانسحابية في تعميقه وتعميمه، بخاصة في منطقتنا.
وعلى رغم كل التحليلات السوداوية المتصلة بترامب، لا نعتقد بأن الأمور ستكون أسوأ مما كانت بالنسبة إلى سورية بخاصة، ومنطقتنا عموماً. وهذا ما بدأت ملامحه تتبلور شيئاً فشيئاً مع إعلان أسماء من سيتسلّمون المواقع الحساسة في الإدارة الجديدة. فهم أصحاب خبرة وكفاءة، ولديهم معرفة بأوضاع المنطقة، وطبيعة صراعاتها وتشعباتها. وهم ليسوا من مناصري توجه أوباما الحالم بإمكان احتواء النظام الإيراني، الذي تؤكد كل الدلائل أنه المخطط والمنفذ والمموّل الأكبر لمجمل كوارث المنطقة، وتالياً لتصاعد التطرف والإرهاب بدرجات غير مسبوقة.
فقد أثبتت الوقائع عقم تصنيف أوباما للإرهاب، كإرهاب «منظّم» يمكن التعامل معه وآخر «منفلت» لا بد من محاربته. وأدت هذه المقاربة السطحية إلى انفلات الأمور في المنطقة بأسرها، وباتت الأبواب مفتوحة على كل الاحتمالات الكارثية.
وإذا أخذنا ما حصل ويحصل في سورية بعامة، وحلب تحديداً، بالاعتبار، وجدنا أن القادم لن يكون أسوأ مما كان. فالرئيس الأميركي الجديد، على رغم كل الغموض الذي يحيط بسياساته، تبعاً لتصريحاته المتعارضة في المرحلتين الانتخابية والانتقالية، سيضيّق على الأرجح الدائرة على النظام الإيراني ومشاريعه الإمبراطورية، ما سيستفيد منه السوريون مباشرة وقبل غيرهم، لأسباب واضحة للقاصي والداني. وما اتخذه الكونغرس حتى الآن من قرارات توحي بالأفضل قياساً بمرحلة أوباما.
بهذا نرى أن نتائج المعركة الميدانية في حلب ستكون مؤثرة من دون شك، لكنها لن تكون الحاسمة، لأنها في نهاية المطاف جزء من صراعات وتنافسات إقليمية ودولية لن تحسم، ولن تجد طريقها إلى التهدئة والتوازن قبل انطلاقة الإدارة الأميركية الجديدة.
وفي انتظار ذلك، يمكن للنخب الوطنية السورية التي لم تتلوّث عقولها بعد بآفات الاستبداد والإرهاب؛ وما زالت مؤمنة بإمكان التعايش المشترك بين المكوّنات السورية على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، أن تتحرّك وتتواصل، لتتوافق على قواسم مشتركة، وهي كثيرة تتجاوز ما يتوقعه المرء.
ويمكن لهذه القواسم أن تكون أرضية لعقد وطني يكون أساساً لدستور يطمئن الجميع، وأن تكون مرجعية لوفد وطني وازن يمثّل السوريين والسوريات ويتواصل مع الإدارة الجديدة ومفاصل القرار والتأثير فيها، بالتنسيق مع الجالية السورية الكبيرة في الولايات المتحدة.
فعمل كهذا قد يسهم في إنقاذ ما قد تبقى من الشعب والوطن. أما انتظار الانتصار العسكري من معارضة مغلوبة على أمرها، محكومة بتفاعل الحسابات الإقليمية والدولية، أو الحسم العسكري من نظام بات مجرد دمية بين أيادي الغزاة، فهذا مؤداه إدامة الصراع والتدمير والقتل في سورية إلى ما شاء الله.
الحياة