ملفات و دراسات

بعض السياسات اللغوية في العالم وسياسة إحتواء اللغة الكردية في سوريا نموذجاً

شيار سليمان

تنوع مكونات المجتمعات وطريقة تعايشها مع بعضها من الظواهر السياسية التي يجب دراستها بعناية لكل من يعمل في إدارة المجتمعات، مهما كبرت هذه المجتمعات ام صغرت، لان النجاح في إدارة هذا التنوع يعتبر صمام أمان تلك المجتمعات، فأي مجتمع بشري على سطح الأرض مهما زاد تجانسه لا يخلو من مظهر من مظاهر التنوع والاختلاف، حتى في الأسرة الواحدة كأصغر خلية في المجتمع لا تخلو من التنوع في طباع وميول إفرادها.

للتنوع مظاهر عديدة فهناك مجتمعات ذات اديان متعددة وأخرى ذات مذاهب متعددة واخرى متعددة اثنيا ومجتمعات فسيفسائية تحمل عدة مظاهر من التنوع، و التعدد الاثني يتبعه تنوع في لغات الاثنيات وهو موجود في معظم دول العالم إذ نادرا ما نرى دولة متجانسة لغويا، سواءاً في الدول الاتحادية أو الدول المركزية ، ومنذ أقدم العصور استطاعت المجتمعات البشرية إن تجد القوانين الناظمة لعلاقاتها آخذة التنوع اللغوي وإشكال التنوع الأخرى بعين الاعتبار لبناء مجتمعات مستقرة قائمة على القواسم المشتركة والمصالح المتبادلة، والدول التي تستفيد من هذا التنوع وتديره بالشكل الصحيح تستطيع بناء مجتمعات قوية ومتكاملة ينعم جميع أبناءها بالرضي والشعور بالانتماء القوي الى مجتمعاتها التي تحتضن كل تطلعاتهم وبالتالي هذه المجتمعات تكون رصينة ومنيعة أمام المتربصين بها، وفي المقابل المجتمعات التي تفشل في إدارة التنوع ومنها التنوع اللغوي لا تستطيع أن تنعم بالاستقرار لان هذا التنوع يصبح عامل فرقة وباب لاضطهاد فئة متسلطة لفئات أخرى من المجتمع، فقط لأنها تملك السلطة والقدرة على التلاعب بمصائر الناس، وبالتالي تبقى تلك المجتمعات مفككة ويتفشى فيها الضعف وتصبح الفئات المغبونة ثغرات وبوابات للتدخلات الخارجية للنيل من تلك الدول المتخبطة في إدارة تنوعها.

في هذا البحث سنتناول بعض أشكال إدارة التنوع اللغوي في العالم ونسقطها على واقع التنوع اللغوي في سوريا بالنسبة إلى اللغة الكردية كثاني لغة وطنية في سوريا قياسا لعدد الناطقين بها ، ونسلط الضوء على السياسات الممنهجة التي يتبعها النظام في سوريا لطمس لغة الشعب الكردي كمكون عريق من مكونات الشعب السوري، متناولين الظروف الذاتية والموضوعية والتحديات المعترضة والفرص التي توفرت لمسيرة اللغة الكردية، بعد التعريف باللغة الكردية وتطورها التاريخي وتوزعها الجغرافي في الشرق الأوسط، وسيتطرق البحث الى موضوع السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي والعلاقة بينهما لما لهم من أهمية في دراسة إدارة التنوع اللغوي في المجتمعات، وسنذكر أهم السياسات اللغوية المتبعة في المجتمعات البشرية وعدد من الدول الإقليمية ذات التعدد اللغوي المشابه نوعا ما للوضع في سوريا بالنسبة الى اللغة الكردية، وكذلك سنورد الأمثلة عن بعض دول العالم من حيث ادارة التنوع اللغوي في مجتمعاتها.

لمحة تاريخية عن اللغة الكردية:

اللغة الكردية من لغات الشمال الغربي من الفرع الإيراني من عائلة اللغات الهندو أوروبية، كما يوضحه المخطط التالي الذي يمثل تقسيم لغات العالم إلى خمسة عوائل رئيسية، حيث يبين الشكل القرابة اللغوية بين لغات العالم وموقعها في شجرة اللغات.

قبل الإسلام كان الكرد يستعملون الحروف البهلوية في كتابة لغتهم، وبعد دخولهم الإسلام تأثروا باللغة العربية لأنها كانت لغة القرآن الكريم والتعاليم والشعائر الدينية، وأصبح رجال الدين هم المصدر الأساسي لتعليم اللغة العربية، في حلقات الكتاتيب، وبما أن معظم الكرد لم يكن يفهمون اللغة العربية، كانت شروحات وحواشي الآيات والأحاديث والشرائع الدينية تكتب باللغة الكردية ولكن بالأحرف العربية حتى يفهمها طالب العلم الذي كان يسمى “الفقيه” اذ كانت فترة دراسة احدهم تتراوح بين الست حتى الثمانية عشر عاما، حسب نبوغ واجتهاد كل شخص، وبعدها يصبح “ملا ” أي إماما يخطب في الجوامع ويستطيع تدريس تعاليم الدين بالإضافة إلى العلوم الأخرى التي تعلمها لطلاب العلم، وقد نبغ الكثير من علماء اللغة الكردية من رجال الدين نتيجة المنهجية اللغوية التي كانوا يكتسبونها أثناء تعلُّم وتعليم اللغة العربية.

التوزع الجغرافي للكُرد:

الكُرد موزعون في الشرق الأوسط كأغلبية في أربعة مناطق رئيسية، في الشمال الغربي من إيران وشمال العراق والجنوب الشرقي من تركيا وشمال والشمال الشرقي من سوريا، بالإضافة اإلى تواجدهم في مدن وعواصم تلك البلدان كأقليات مهاجرة مثل دمشق وبغداد واسطنبول والمدن الأخرى.

قسمت الجغرافيا الكردية أول مرة بعد معركة جالديران 1514 بين الصفويين والعثمانيين، وتلاها تقسيم أراضي كردستان التابعة للدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى في اتفاقية سايكس بيكو 1916، حيث توزع الكرد بعدها على سوريا وتركيا والعراق وإيران، وعاشوا في تلك البلدان في ظروف سياسية متفاوتة حسب سياسات كل دولة من الدول التي يتواجدون فيها، واتبعت في حق اللغة الكردية سياسات متنوعة بحسب السياسة اللغوية لكل بلد من تلك البلدان.

وقبل الخوض في السياسات اللغوية المتبعة بحق اللغة الكردية في سوريا، سنحاول ان نستعرض بشيء من الإيجاز أنواع السياسات اللغوية المتبعة في المجتمعات الإنسانية.

بعض السياسات اللغوية في العالم:

تتطلع الدول دائماً إلى أن تكون في مصاف الدول المتقدمة؛ فترسم لنفسها خطة مستقبلية غالبا ما ترتبط بالذاتية الثقافية والفائدة الاقتصادية، وهذه الرؤية السياسية تتطلب تدخلاً على جميع الأصعدة لا سيما السياسة اللغوية؛ ذلك لوجود علاقة بين قوة الأمم وقوة لغاتها منذ الأزل، فالدول الأوروبية اليوم تتصدر قائمة الدول المتقدمة، ولغاتها قويت بقوتها داخل حدودها وخارجها؛ ذلك لأن اللغة عملة ورأس مال كلما استعملت ارتفعت فوائدها وضعفت كلفتها.

1-1 سياسة الاحتواء:

يطلق مصطلح سياسة الاحتواء (Assimilation policy) تحديدا على الاستعمال الممنهج لمجموعة من الوسائل، التي تكون غايتها التسريع من إيقاع تهميش أقلية لغوية، أو تصفيتها نهائياً.

تلجأ سياسة الاحتواء إلى وسائل تد خًل غير ناعمة أو عنيفة نحو الإقصاء والتهميش الاجتماعي، والأمرً يصل في بعض الحالات المتطرفة إلى الاضطهاد الشامل والإبادة الجماعية… في بعض الأًحيان قد تتخذ مظاهر أكثر مقبولية، كأن تنصً الدولة في نصوصها الأساسية على مبدأ المساواة في الحقوق اللغوية، مع اللجوء في الواقع إلى ممارسات تتعارض كليا ومنهجيا مع هذه الحقوق شكلا ومضمونا. ومن أشهر الدول التي تنحو بسياستها اللغوية منحى “الاحتواء” سوريا وتركيا والبرازيل وأفغانستان وباكستان وإيران.

1-2- سياسة عدم التدخل:

سياسة عدم التدخل (Policy of non-intervention) تقوم على مبدأ اللامبالاة بحقيقة التنوع اللغوي في المجتمع أي التنكر لحقيقة وجود مجموعات لغوية مختلفة، حيث تقوم سياسة التنكر واللامبالاة هذه على ترك قضية تعدد المجموعات اللغوية لتفاعلات ميزان القوى بحكم الواقع، وًيتعلق الأمر في مثل هذه الحالة باختبار حقيقي وتخطيط استراتيجي ضمني يميل فيه ميزان القوة “بقوة الواقع” إلى فائدة اللغة المهيمنة، ومن الدول التي تمارس هذه السياسة: النمسا وألمانيا وساحل العاج وكوبا والسنغال واليابان، وغيرها.

1-3- سياسة إعلاء اللغة الرسمية:

تحيل سياسة إعلاء اللغة الرسمية (Development policies of the official language) إلى سياسة الأحادية اللغوية. وتتمثل في تنامي لغة واحدة وتعاظمها على الصعيد السياسي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي. ويمكن تطبيق معايير هذه السياسة على لغة الأغلبية، وبالتحديد على اللغة الوطنية، التي قد تصبح اللغة الرسمية وفق تلك المقتضيات. وليس بالضرورة أن تكون اللغة الرسمية التي تستفيد من هذه السياسة هي اللغة الوطنية، فقد يتعلق الأمر بلغة المستعمر أو لغة أجنبية ذا انتشار واسع النطاق، أو حتى اللغة الرسمية لدولة مركزية (كورسيكا أو سردينيا أو صقلية).

1-4- السياسات اللغوية القطاعية:

بحكم تعريفها (Language Policy Sector) تقتصر السياسة القطاعية على مظهر لغوي وحيد، وأحيانا على مظهرين أو بالأكثر على ثلاثة مظاهر. وتتمثل في اعتماد تدابير تشريعية خاصة في مجال واحد أو مجالين أو ثلاثة مجالات، تستخدم لغة الأقليات أو لغة المهاجرين. ويطبق هذا ً المبدأ خاصة في مجال التعليم. وقد تتعلق بعض السياسات بجوانب أخرى كالإعلام العام والرعاية الصحية أو مسميات المواقع الجغرافية. ويتم تطبيق السياسة القطاعية أيضا عندما يكون القصد تذليلً صعاب كل إشكالية فور ظهورها.

ويهدف التطور النهائي للنهج القطاعي إلى تحقيق وضع قانوني تفضيلي مميز. ومن القطاعات التي تمارس هذه السياسة: الدنمارك واليونان والنمسا وبولندا وميشيغان، وغيرها.

1-5- سياسات الوضع القانوني التفضيلي:

تفترض سياسة الوضع القانوني التفضيلي (Policies differentiated) السائد من ناحيةٍ ما أن الأغلبية تمتلك كل الحقوق اللغوية(legal status)، ومن ناحية أخرى تكون الأقليات ذات حقوق أقل. ولكنها تعترف بهذه الأقليات قانونيا ورسميا؛ مما يعني أن هذه الحقوق التي تدعمها التشريعات أو الأحكام الدستورية تكون واسعة النطاق، موسعة بالنسبة إلى الأغلبية ومحددة بالنسبة إلى الأقليات. وهذه الحماية تعادل الوضع الخاص الذي يتضمنه الإطار العالمي للسياسة اللغوية.

1-6 – سياسة الثنائية أو الثلاثية اللغوية:

تعترف سياسة الثنائية اللغوية الرسمية(Bilingualism policies or trilingual) دستوريًا أو قانونيًا بالمساواة بين لغتين أو أكثر، وتكون هذه المساواة عمومًا مساواة قانونية، ولكنها ليست بالضرورة مساواة حقيقية تنعكس على الواقع. يمنح هذا التنوع المواطنين -على الأقل -من حيث المبدأ حرية اختيار واستخدام أي لغة رسمية في تعاملهم مع الدولة. وحرية اختيار اللغة المستخدمة عادة ما تكون حقًا بالنسبة إلى الأفراد، وواجبًا بالنسبة إلى الدولة. وقد تكون الثنائية اللغوية في دولة ما فقط رمزية غير متوازنة وغير متساوية.

1-7- سياسات استراتيجية التعدد اللغوي:

يقوم أساسًا تعدد اللغات الاًستراتيجي على اختيار عملي. فيمكن لدولة ذو لغة رسمية واحدة استخدام لغتين أو أكثر؛ بسبب القيود المتعلقة بمقتضيات ضرورات التواصل، فضلا عن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الراهن دون أن تتبنى إيثار أي لغة أو تمييزًها عن أخرى، أو تفضيل لغة على أختها.

وترى سياسة التعدد اللغوي (strategic policies multilingualism) التي كثيًرا ما يتم خلطها بثنائية اللغة (ثلاث لغات أو أربع)، أن اللغة الأولى مكملة للغة الأخرىً، وتعمل على نحو إيجابي على استغلال كل الموارد اللغوية للدولة واغتنامها. ولا يمكن تطبيق هذا النوع من السياسات إلا في نوعين من الدول: إما دولة متعددة اللغات، حيث العلاقات بين المجموعات المشاركة من شأنها الحد من سيادة لغة مهيمنة أو تقليل حدة سطوتها وذلك بشكل عام، أو حال وجود دولة كانت حدودها التاريخية معرضة إلى ممارسة العديد من اللغات. وتمارس هذه السياسة كل من: السودان والهند وًلبنان وجنوب أفريقيا ونيجيريا وسنغافورة سياسة استراتيجية التعدد اللغوي من الناحية الرسمية المعلنة.

السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي:

أن السياسة اللغوية ينبغي أن تضع في حسبانها عدة أسس عند اختيارها اللغات الرسمية “أساس تاريخي وكمي وثقافي ووظيفي”؛ ومن ثم يأتي القرار الرسمي، وتسن القوانين التشرًيعية التي تحدد موقع اللغات واستعمالاتها، وصولا إلى تعيين المؤسسات المخولة

بالتخطيط والتنفيذ، ويمكننا رؤية السياسة اللغوية منظومة متكاملة من المجهودات الحثيثة؛ بدءًا بالمرحلة الأولى في شكلها النظريً، وانتهاء بتوجيهاتها التنفيذية، وعليه نحدد ما يشمله مفهوم السياسة اللغوية في النقاط الآتية:

-1 القرار السياسي المتخذ من قًبل السلطة العليا في الدولة، الذي يقتضي أن تكون اللغة الوطنية بصفة رسمية في جميع المجالات الحيوية في البلاد (التجارية والتعليمية والمعاملات الشخصية).

-2 التشريع: تمثله القوانين والأنظمة التي تسنها المجالس التشريعية في الدولة، واللوائح التي تفسرها، والقرارات والتعليمات الصادرة من مؤسسات الدولة وإدارتها. فتتخذ التشريعات اللغوية في عدد من الدول المعاصرة عدة أشكال، منها إصدار “قانون اللغات ” في الدولة أو قانون اللغات في إقليم محدد. ويحدد قانون اللغات وضع اللغة الرسمية في عدة حقول:

أً- الحقل الإداري والقضائي: بأن يفرض اللغة الرسمية في معاملات الدوائر الحكومية ومراسلاتها.

بً- حقل الاستهلاك: بأن يخاطب المستهلك باللغة الرسمية، سواء تعلق الأمر بالمعلومات الإرشادية، أم بطرق الإعلان والدعاية.

– تً حقل المعاملات القانونية: بأن تتم جميع العقود والاتفاقيات باللغة الرسمية، سواء عقود العمل أم العقود التجارية.

ثً- حقل التعليم: فيه يحدد موقع اللغة الوطنية ومواقع اللغات الأخرى في المنظومة التعليمية.

وليس ذلك فحسب، وإنما تتولى التشريعات قضية تحديد الحقوق اللغوية للأقليات، وجوانب تنفيذها وتحديد السلطة المختصة بالتخطيط اللغوي ومتابعة التنفيذ.

-3 التطبيق: يكون من خلال هيئة عليا في كل دولة، تكون مرجعا لتنفيذ السياسة اللغوية، تتولى التخطيط لها من استراتيجيات وبرامج ملائمة للأوضاع في الدولة، وتراقب الهيئة تنفيذ السياسة على صعيد الواقع.

مما سبق يتبين إن السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي من اجل تشريع تلك السياسة وتطبيقها على ارض الواقع، أسلوب مبتكر من اجل التعامل مع اللغات في المجتمعات متعددة اللغات، سواء في التعامل السلبي مع بعض اللغات من اجل التضييق عليها واحتوائها وصهرها في بوتقة اللغة الرسمية أو لغة الأكثرية، مثل السياسات التي تمارس تجاه اللغة الامازيغية في المغرب والجزائر وتونس، وان كان هناك بعض الانفتاح عليها في الآونة الأخيرة، أو في التعامل الايجابي مع لغات الأقليات مثل ما هو في بلجيكا وسويسرا التي تعتبر نموذجاً يحتذى به من حيث احترام الدولة لشعوبها ، ففي سويسرا تعتبر اللغة الرومانسية التي لا يتجاوز نسبة الناطقين بها 0.5% من مجموع السكان لغة قومية للدولة إلى جانب الألمانية التي تصل نسبتها إلى 63% والفرنسية التي تبلغ نسبتها 24% والايطالية التي تصل نسبتها إلى 8%.

وإذا نظرنا إلى وضع اللغة الكردية في البلدان التي يتواجد فيها الكرد، نجد أن السياسة اللغوية المتبعة في كل هذه البلدان كانت سياسة الاحتواء أي محاولة صهر المجتمع الكردي لغويا في مجتمعات تلك البلدان، لصالح اللغة الفارسية والعربية والتركية، بفارق بسيط في كردستان العراق حيث تم الاعتراف دستوريا باللغة الكردية وفق الإعلان «الأنكلوعراقي» الذي صدر عام 1924 الذي كان بمثابة الاعتراف الرسمي الأول من قِبل الدولة العراقية الحديثة بأكراد العراق، إذ نصَّ هذا الإعلان على حق الكُرد بتنمية وتدريس اللُغة الكُردية في مناطقهم، وأن يكون التعيين في المؤسسات الحكومية في المناطق الكُردية من حق سكان تلك المناطق.

واقع اللغة الكردية في سوريا

يعيش الكرد كأغلبية في سوريا في ثلاثة مناطق رئيسية هي منطقة الجزيرة في محافظة الحسكة والمناطق والنواحي التابعة لها، وكذلك في منطقة كوباني ومنطقة عفرين، إضافة إلى التواجد الكردي في دمشق والمدن الأخرى التي قدموا إليها من المناطق الكردية.

لا يوجد إحصاء دقيق للكرد في سوريا وتختلف الآراء حول نسبتهم حسب المقياس المتبع وشمل الكُرد الغير ناطقين بالكردية في هذه النسبة أم لا، وأيضاً تختلف وفق كل مرحلة تاريخية، ومعظم التقديرات تشير إلى أن نسبة الكرد الناطقين بالكردية في سوريا تتفاوت بين %11 وحتى 14% .

رغم أن نسبة الكرد في سوريا نسبة كبيرة مقارنة بنسبة الأقليات اللغوية في الكثير من الدول التي ذكرناها في الأمثلة السابقة، إلا أن الحكومات السورية المتعاقبة مارست سياسة الإنكار في حق الشعب الكردي، منذ إعلان سوريا كمملكة للملك فيصل ابن الشريف حسين 1918 أثناء دخول القوات العربية إلى دمشق وإنهاء وجود الدولة العثمانية هناك، ولا في عهد أول حكومة تحت الانتداب الفرنسي الذي أقرته عصبة الأمم عام 1932 وحتى الآن.

هذا الإهمال المقصود للغة الكردية كان بهدف الاحتواء وصهر اللغة الكردية في بوتقة لغة الأكثرية خدمة لسياسة إدماج المكون الكردي وإنكار وجوده كمكون أصيل من مكونات المجتمع السوري، فاتُبعت الكثير من السياسات العنصرية بحقه كتغيير أسماء المدن والبلدات والقرى من أسماء كردية إلى أسماء عربية، وكذلك ملاحقة كل من يعمل على ترويج اللغة الكردية في المجتمع الكردي في سوريا.

والجدير بالذكر انه أثناء الانتداب الفرنسي على سوريا خفت القبضة الأمنية على اللغة الكردية واستطاع اللغوي الكردي جلادت بدرخان في 15 أيار 1932 أن يصدر أول مدونة دورية كردية في دمشق باسم مجلة هاوار، التي تعني الصرخة باللغة العربية، بالأحرف اللاتينية التي عكف على أقلمتها مع اللغة الكردية بمساعدة عالم اللغات الفرنسي روجيه ليسكو، وهذه الحروف تشبه إلى حد ما الحروف اللاتينية التركية الحالية ، حيث يكون الكتابة بها كتابة لفظية، أي كل ما يكتب يقرأ، هذا التحول خلق نوعا من النشاط الثقافي باللغة الكردية في المجتمع الكردي، وصدرت دواوين الشعر والقصص والمجلات بتلك الحروف واستطاع بعض المتنورون الكرد في عهد الانتداب استحصال الرخص لبناء جمعيات تعني بالثقافة وتعليم اللغة الكردية إلا أنها كانت ذات نطاق محدود وتخضع لمزاجيات السلطات المحلية .

ومنذ ذلك الوقت والى يومنا الحالي لم يصدر اي قرار سياسي في سوريا حول تعليم اللغة الكردية في سوريا بشكل دستوري وقانوني ووضع الخطط التنفيذية له، بالعكس من ذلك تماما، هناك العديد من الوثائق الأمنية التي تمنع التحدث باللغة الكردية في اي دائرة رسمية للدولة، ناهيك عن آلاف حالات الاعتقال التي طالت الناشطين الذين يعملون على نشر اللغة الكردية ويقاومون سياسة التعريب الممنهج الذي تنتهجه الحكومات السورية المتعاقبة بحق المجتمع الكردي.

تعليم اللغة الكردية بعد الثورة السورية 2011 :

كانت للثورة في تونس وقعها في كافة البلاد العربية اذ نهضت الشعوب في معظم الدول العربية نتيجة الاحتقان الموجود من تراكمات استبداد الحكام، ونتيجة التظاهرات في سوريا التي انتهت إلى صراع مسلح عم معظم الأراضي السورية، خرجت الكثير من المناطق السورية من القبضة الأمنية للنظام، ظهرت معطيات جديدة من حيث إدارة المناطق وصار هناك شبه حكومات محلية في كل منطقة، هذا التغيّر اثر في واقع العملية التربوية والتعليمية ، حسب الجهة التي تسيطر على كل منطقة، فالحكومة السورية المؤقتة التابعة للمعارضة السورية أنشأت مناهجها الخاصة وتمنح شهاداتها للمتخرجين من مؤسساتها التعليمية، وفي المناطق التي يسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية أنشئت المدارس التابعة لها في المرحل الدراسية الأولى وتوسعت بها حتى وصلت للمرحلة الإعدادية والثانوية، بواسطة مناهج مختلفة اللغة لكل مكون حسب اللغة الأم، بالإضافة إلى وجود قسم من المدارس التي تدرّس مناهج النظام .

هذا الواقع خلق حالة عدم استقرار تعليمية في المنطقة نتيجة تنوع المناهج واللغات وعدم وجود الكوادر المؤهلة لتدريس المناهج باللغات الجديدة التي أدخلت إلى النظام التعليمي كاللغة السريانية والارمنية والكردية من جهة، ومن جهة أخرى غياب الغطاء القانوني والاعتراف الدستوري بالحالة التعليمية الجديدة في المناطق الخارجة من سيطرة القبضة الأمنية للنظام .

ولكن هذا التغيير كان له الأثر الأكبر على التلاميذ الكرد، لان اللغة الكردية كانت تتعرض للقمع الممنهج بقصد صهرها وامحائها من المجتمع، بخلاف لغات الأقليات الأخرى التي كانت لديها مدارس خاصة تابعة للكنائس يتم فيها تدريس لغاتهم ومهما يكن فإنهم يملكون الحد الأدنى من الكوادر التي تغطي أعداد التلاميذ الذين يدرسون لغاتهم الأم في المدارس الجديدة .

ومن اجل حل هذه الإشكالات وإنقاذ التلاميذ الكرد من شبح الأمية والفشل الدراسي، لا بد من الوقوف على هذا الواقع والنظر إليه من جميع الجوانب، واستحضار التجارب والحالات المشابهة من مجتمعات أخرى مرت بظروف قريبة من هذه الظروف، والوصول إلى الحلول التي تستطيع أن تغير حالة الفوضى في النظام الدراسي على اسس قانونية دستورية وشرعية من خلال السياسات والخطط التعليمية الناجحة واعتماد مناهج اليونسكو المعترف بها وترجمتها إلى اللغة الكردية ولغات المكونات الأخرى للحفاظ على السوية العلمية وابعاد هذه المناهج عن الايديولوجيات السياسية المفرقة للشعب السوري والحصول على الغطاء قانوني للدارسين بهذه المناهج من المنظمات الدولية دون العودة إلى حالة القهر التي يريد النظام إرجاع المجتمع السوري إليها، ليس في مجال التعليم فقط، بل في جميع نواحي الحياة.

اليونسكو توصي بتعليم ثلاث لغات انطلاقا من اللغة الأم

اللغة الأم هي اللغة التي يتعلمها الإنسان في البدايات الأولى من حياته والأداة التي يبدأ بها الإنسان تواصله مع محيطه، لذلك يولي علماء النفس أهمية كبرى لهذه اللغة لأنها أساس بناء شخصية الإنسان وتبنى عليها كل حياته، لذلك يجب إيلاء كل الأهمية لهذا الأساس من اجل إعداد الإنسان لمستقبل ناجح.

لماذا تولي شعوب العالم المتحضر والمنظمات الدولية أهمية كبرى للغة الأم؟

أن وجود لغة قومية شرط أساسي لوجود أي امة، لذلك ينظر بعض الناس إلى اللغة الأم بأنها فقط من اجل تثبيت الهوية القومية، ولكن أهمية اللغة الأم أكبر من ذلك بكثير، لذلك أولتها المنظمة الدولية للتربية والعلم والثقافة اليونسكو في العام 1999 اهتماماً كبيرا وخصصت لها يوما وأعطت فيه أهمية خاصة لجميع اللغات الأم في العالم.

حددت اليونسكو يوم 21 شباط من كل عام كيوم للغة الأم احتراما لأحد عشر شهيدا بنغاليا، استشهدوا في 21 شباط 1952 على يد السلطة الباكستانية عندما خرج الطلاب البنغلاديشيون في مظاهرة مطالبين فيها بجعل لغتهم البنغالية لغة رسمية في البلاد ، وأصبح ذلك الحدث سببا في أن تصبح لغتهم البنغالية لغة معترفة بها رسميا الى جانب لغة الاوردو الباكستانية.

تؤكد جميع الأبحاث العلمية على أن التعليم الناجح هو الذي يعتمد على تعلّم لغات مختلفة على أساس اللغة الأم، حتى تخطو المجتمعات البشرية خطوات حثيثة نحو تحقيق خطة التنمية المستدامة حتى العام 2030، تلك الخطة التي تعتمد على توفير فرص التعليم لكل افراد المجتمع في كافة مراحل حياتهم من اجل تحصيل العلم حتى يستطيعوا ان يساهموا بشكل كامل ومفيد في تقدم مجتمعاتهم.

يونسكو تحث المجتمعات البشرية على تعليم لغتين او اكثر انطلاقا من اللغة الام من اجل تمتين العلاقات الاجتماعية ورفع مستوى العملية التعليمية وخطة المنظمة هذه توصي بان يكون التعليم في البلدان متعددة اللغات على الاقل بثلاثة لغات اي ان تكون اللغة الاولى هي اللغة الام واللغة الثانية هي اللغة الوطنية او المحلية واللغة الثالثة لغة عالمية، لان الباحثين توصلوا الى نتيجة من خلال دراسة ظاهرة التعليم للغة الانكليزية لغير الناطقين بها، بأن الذين تلقوا في بداية تعليمهم تعليما منظما باللغة الام استوعبوا اللغة الانكليزية بشكل افضل من اولئك الذين تعلموا الانكليزية بشكل مباشر دون ان يتعلمو لغتهم الام، لان حب التلاميذ للتعلّم يصبح أكبراً عندما يبدؤون التعليم بلغتهم الام المألوفة، وبالتالي سينعكس حب التعلّم الذي تولد لديهم بشكل ايجابي على تعلم اللغات الاخرى .

عالم اللغات جون جومسكي يقول” ان ذلك التعليم الذي ينطلق من اللغة الام اثبت فعاليته وجدارته على مستوى العالم سواء من الناحية النفسية او الاجتماعية اوالتربوية، لانه يزيل الخوف الذي يتولد لدى الاطفال عندما يذهبون إلى المدرسة ويرون لغة جديدة، وكذلك ينمي قدراتهم الأكاديمية التي يستخدمونها لتعلم اللغات الأخرى، ويرى علماء آخرون – حسب دراسة في العام 1988 – ان اللغة الجديدة في بداية التعلم تكون لها نتائج سلبية، وأن المرحلة الأنسب لتعلم اللغة الأجنبية هي الصف الرابع الابتدائي، بعد أن يكون التلميذ قد نمى جميع قدراته في تعلم اللغة الأم في المراحل السابقة.

عندما ننظر إلى وضع الشعب الكردي في سوريا وفق هذه النظريات العلمية اللغوية، سوف نجد أن كل الكرد سواء الكبار أو الصغار يمرون بمعاناة كبيرة نتيجة القهر والاضطهاد الذي مورس بحق اللغة الكردية، لذلك هم بحاجة إلى العمل الجاد على جميع المستويات من اجل إزالة أثار تلك السياسات القمعية، وعلى مستوى تعليم الأطفال يجب أن توضع خطط علمية من اجل بناء شخصياتهم عن طريق لغتهم الام، وكذلك تعليم اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية للوطن السوري، بالإضافة إلى اللغة الانكليزية باعتبارها اللغة العالمية في عصرنا الراهن، عن طريق إعداد المعلمين ذوي الخبرات التعليمية والتربوية باللغة الأم، والاستفادة من التقدم التكنولوجي في تامين دروس مرئية ومسجلة من اجل سد النقص في الكوادر الفنية في العملية التعليمية، لان إعداد المعلمين والمدرسين يحتاج إلى عمل تراكمي طويل وشاق لا يمكن أن لأي مجتمع تحصيله بسهولة في وقت قصير .

وكل ذلك يجب أن يكون في الأطر القانونية الدستورية وفق سياسات وخطط وطنية مدروسة بعيدة عن التعصب، لبناء إنسان سوري سوي وفعال وبالتالي نصبح قادرين على تنفيذ شروط اليونسكو ويصبح شعبنا أيضاً جزءاً من برنامجهم التنموي المستدام إلى العام 2030 .

تم تقديم هذا البحث لجامعة صباح الدين الزعيم في تركيا كنشاط بحثي في مادة الظاهرة السياسية

أثناء دراسة الدبلوم المهني في السياسة والأعلام والاقتصاد. 2019

مراجع البحث

– علاقة السياسة اللغوية بالتخطيط اللغوي (دراسة حالات من الوطن العربي)

بحث مقدم لجامعة قطر لاستكمال رسالة الماجستير في اللغة العربية وآدابها.

الطالبة هدى الصيفي للسنة الدراسية 2014- 2015

https://drive.google.com/drive/u/0/folders/1pYrrlNv6H_IL1puvBvSs34op8kjbknX7

– دستور سويسرا لعام1999 شاملا تعديلاته حتى عام 2014

https://drive.google.com/drive/u/0/folders/1pYrrlNv6H_IL1puvBvSs34op8kjbknX7

-الكتيب رقم (11) حماية حقوق الاقليات ومنظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة( اليونسكو)

https://drive.google.com/drive/u/0/folders/1pYrrlNv6H_IL1puvBvSs34op8kjbknX7

كتاب قواعد اللغة الكردية (Samî Tan -Rêzmana Kurmancî)-

https://drive.google.com/drive/u/1/folders/14O51LN5dwk1n21TNsMlu81Vce5Q9skyl

– تجربة الحكم الذاتي للاكراد في العراق .

https://drive.google.com/file/d/1BahzmuY2Q6uBwTcH6zzBpeR67QCasz-y/view?usp=sharing

-http://www.gilgamish.org/?s= – حول+الحركة+الكردية+في+الوثائق+الفرنسية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى