بوكتشين، أوجلان وجدلية الديمقراطية 2/3
جانيت بيل
ترجمة: عدنان بدرالدين
كان بوكتشين غالبا مايقول أن أفضل الفوضويين ماركسيون سابقون. فهم يعرفون كيفية التفكير، وكيفية إستخلاص منطق الأفكار، كما أنهم يفهمون الديالكتيك. وكان سيعترف لأوجلان بالتأكيد هذه القابلية لو قيض لهما أن يلتقيا، إذ أن الرجلين يتشاركان في ميزة العقل الدياليكتيكي، الموروثة من ماضيهما الماركسي. ذلك لايعني أنهما يستنيران بالمادية الديالكتيكية إذ كانا يعتبرانها ناقصة، من منطلق أن السببية التاريخية متعددة الأوجة، ولايمكن حصرها بالعامل الإقتصادي وحده، لكنهما ظلا، مع ذلك، متمسكين بالديالكتيك لحبهما (سبر أغوار) تطورات العملية التاريخية. الديالكتيك هو وسيلة لتوصيف التغيير، لكن ليس الحركي منه، فهذا شأن الفيزياء، بل وصف التغيير الذي يمس المادة العضوية، والتاريخ الإجتماعي على حد سواء. والتغيير قائم على التناقض، حيث أنه خلال أية عملية تطورية، يتم الإحتفاظ ببعض القديم مع إضافة بعض ماهو جديد، الأمر الذي يؤدي إما إلى الزوال “”Aufhebung أو إلى الإرتقاء.
الرجلان، كلاهما، كانا أيضا ميالين للتفيكر في كنه التطور التاريخي، وقد كتبا في الواقع سرديات تاريخية شاملة عن الحضارة، فككت لأكثرمن مرة، جدلية الهيمنة والمقاومة. فالدول والطغاة جوبهوا دوما بنضال عنيد من أجل الحرية. وبعكس الماركسيين، تجنبا إستخدام الديالكتيك، للتنبؤ بثورة حتمية يخبئها المستقبل، فهذا، برأيهما، عصي على التنبؤ، لكنهما لجئا إليه، لرفع سقف الإحتمالات، وتحديد الإمكانات، لما إعتقدوا أنها يجب أن تكون الخطوة السياسية التالية. كما أنهما لجئا، بوعي أو بدون وعي، إلى الأخلاق ليستمدا مما حدث في الماضي لما يجب أن يأتي في المستقبل.
لقد كتب كل منهما، على حدة، عن أصل الحضارة، عن المجتمعات البدائية في العصر الحجري، عن صعود الزراعة والملكية الخاصة والمجتمع الطبقي، عن ظهورالدين، عن الإدارة والدول والجيوش، عن الملوك والنبلاء والإقطاع، وخاضا النقاش في قضايا الحداثة وإرتقاء التنوير والعلم والتكنولوجيا والصناعة والرأسمالية. وبقصد التيسير فقط، سأسمي هذه التقصيات التاريخية سرديات عن الحضارة.
كتب بوكتشين سرديتيين أساسييتين عن الحضارة هما: آيكولوجيا الحرية (1982)، وتمدن بدون مدن (1986) (6). أوجلان، من جانبه، كتب العديد من هذه السرديات، مثل: جذور الحضارة، وأجزاء من: حزب العمال الكردستاني والقضية الكردية، بما في ذلك أحدثها: خريطة الطريق (7).
لقد سخر الرجلان سردياتهما عن الحضارة من أجل خدمة الإشكاليات السياسية الراهنة. آيكولوجيا الحرية هي، من بين أمور أخرى، حجة ضد التيار العام في حركة حماية االبيئة المتسم بالإصلاحية، لصالح آيكولوجيا إجتماعية راديكالية. بوكتشين، أراد بذلك، أن يثبت لأولئك الليبراليين الحذرين بأن في إمكانهم أن يرموا إلى أكثرمن مجرد إصلاح الدولة، وأن عليهم، وفي مقدورهم، التفكير في (بناء) مجتمع آيكولوجي.
سلط بوكتشين الضوء على التجمعات البدائية المعروفة في التاريخ الإنساني، وأطلق تسمية “المجتمع العضوي” على القبائل والكومونات غير الهرمية التي عاشت متعاونة مع بعضها البعض، مبينا السمات المحددة التي جعلتها تقبل على هذا التعاون والمتمثلة، برأيه، في توزيع وسائل العيش بمقتضى عادة الإنتفاع (إستخدام الموارد المتوفرة حسب الحاجة)، ومبدأ التكامل (التبادلية الأخلاقية)، و مبدأ الحد الأدنى الغير قابل للإختزال (حق الجميع في الغذاء والمأوى والملبس) (8). “من هذا الشعور بالوحدة بين الفرد والجماعة يظهر شعور الوحدة بين الجماعة وبيئتها” وكان يردد بأن هذه المجتمعات العضوية عاشت في تناغم مع العالم الطبيعي. (9).
إثر ذلك، تتبع بوكتشين مسار التطور الجدلي: صعود منظومات التسلسل الهرمي مباشرة من المجتمع العضوي: المجتمع الأبوي ومن ثم هيمنة المرأة، تلتها سلطة الشيوخ (الرجال المسنون)، ثم تلك العائدة للشامان (الأطباء السحرة)، ثم الكهنة، فالمحاربين، فالقادة، وصولا إلى المجتمع الطبقي. (10). بعد ذلك، برزت فكرة السيطرة على الطبيعة، إذ تم إعادة إكتشاف هذه الأخيرة كأداة قابلة للإستغلال.
إعتبر بوكتشين أن إرث الهرمية المتأسس على الهيمنة تم مواجهته على الدوام بميراث طويل من الحرية – حركات مقاومة على مر التاريخ جسدت مبادئ المجتمع العضوي في الإنتفاعية ، والتكامل والحد الأدنى الغير قابل للإختزال. لاتزال هناك، برأيه، إحتمالية للتجاوز الجدلي للهيمنة من خلال مجتمعات تعاونية حرة تجعل من الممكن إقامة علاقات تعاونية مع الطبيعة. مجموعة الأفكار هذه أطلق عليها بوكتشين تسمية المجتمع الآيكولوجي.
كان ذلك في عام 1982، في سرديته الثانية عن الحضارة: “تمدن بدون مدن”، حيث سعى إلى إقامة الأسس التاريخية لديمقراطية المجالس. تقليد ديمقراطية المجالس عثر عليه بوكتشين في إكليزيا الأثينية القديمة، وفي المدن الأولى القائمة في إيطاليا وألمانيا ودول المنخفض (هولندا وبلجيكا)، في فيتشي بسكوف الروسية ونوفوغورد، في كومونات المجالس في إسبانيا في القرن السادس عشر، في مجالس الأحياء الباريسية في عام 1793، وفي لجان ومجالس الثورة الأمريكية، في نوادي باريس في عام 1848، وفي كومونة باريس في عام 1871، في سوفيتتات عامي 1905 و 1917، في تعاونيات أسبانيا الثورية 1936-1937، في إجتماعات بلدات بريطانيا الجديدة هذه الأيام على سبيل المثال لاالحصر. وقد لاحظ بأن الطريق إلى الثورة، وخلافا للماركسية، يمر عبر البلدية، لا عبر المصنع. فالتحضر (التمدن) يضع الأسس الجدلية للإنتفاضة البلدياتية (من البلدية) من أجل الحرية وضد الدولة القومية.
معزولا في سجنه النائي، كرس أوجلان نفسه غالبا للدراسة وكتابة السرديات عن الحضارة. إحدى الإشكاليات التي تناولها في كتابه “جذور الحضارة الصادر عام 2001 كان الإشارة إلى حاجة تركيا الديمقراطية إلى إستيعاب الكرد. وقد أسهب في وصف عملية التطور الإجتماعي والعمليات التاريخية الشاملة للحضارة التي تعود بجذورها إلى ميزوبوتاميا (بلاد مابين النهرين) أثناء العهد السومري.
في سرديته زيگوارت (zigguart)* المعبد الذي كان مركزا إدارريا وموقع إنتاج على حد سواء، يشير أوجلان إلى أنه يمثل “رحم مؤسسات الدولة” (11) حيث كان طابقه العلوي منزلا للألهة، فيما كان الطابق السفلي يستخدم في الإنتاج وتخزين البضائع، الأمر الذي يعني أن المعبد كان مركزا للإنتاج الإقتصادي. لقد تم رفع الحكام إلى منزلة الآلهة، فيما كان على عامة الناس أن تكدح في خدمتهم كعمال في إقتصاد يتمركز حول المعبد. لقد شكلت الزيگورتات “مختبرات لترميز العقليات البشرية، والملجئ الأول للمخلوق المنقاد”، كما أنها كانت “الأسرالأولى القائمة على النظام الأبوي، وأول بيوت الدعارة”. وقد أصبح الكهنة السومريون الذين أشرفوا على بنائها “أول مهندسي السلطة السياسية المركزية”. من معابدهم هذه نمت المدن، ثم تحولت المدن إلى دول وإمبراطوريات منتجة للحضارة. لكن طبيعة الظاهرة ظلت هي نفسها إذ أن “تاريخ الحضارة ليس أكثر من مجرد إستمرار للمجتمع السومري الذي نمى طولا، ثم تفرع وتنوع، ولكنه حافظ على ذات صورته الأساسية” (12). مازلنا نعيش في سومر، لازلنا نعيش في (أجواء) هذا “الإختراع الفكري المدهش” الذي مافتئ “يضبط تاريخنا كله منذ ذلك الحين” (13).
إذا كانت الحضارة السومرية هي الإطروحة (thesis)، قالها أوجلان في تساءل جدلي، فنحن بحاجة إلى نقيضها (antithesis)، وهو مايمكن أن نعثر عليه في أماكن أخرى ، في المسألة الكردية مثلا. المقاومة العرقية (الإثنية) للمدينة السومرية قديمة قدم المدينة ذاتها. لكننا نسطيع اليوم أن نتجاوز الدولة السومرية من خلال بناء جمهورية ديمقراطية حقيقية تكون بيتا (مشتركا) للكرد والترك معا.
لا أعرف أي شيئ عن التأثيرات الفكرية على أوجلان. أسماء والترستاين، بروديل وفوكو تذكر غالبا، لكن الواضح أنه إنكب منذ عام 2001 على قراءة بوكتشين بشكل مكثف، وخاصة آيكولوجيا الحرية وتمدن بدون مدن.
بعد ذلك، وعبر محاميه، أوصى رؤساء جميع بلديات كردستان تركيا بقراءة كتاب “تمدن بدون مدن”، وجميع المقاتلين بقراءة “آيكولوجيا الحرية”. (15).
في ربيع عام 2004 إتصل محاموا أوجلان، عبر وسيط، مع بوكتشين وأخبروه بأن أوجلان يعتبر نفسه تلميذا له، وبأنه فهم أفكاره جيدا، وهو مصمم على تطبيقها في المجتمع الشرقي، كما طالب بفرصة للحوار معه، وأرسل إليه إحدى مخطوطاته.
كان هذا الحوار، لو قيض له أن يتم، سيكون أمرا مدهشا، لكن موراي، إبن الثالثة والثمانين كان مريضا لدرجة جعلته يرفض هذه الدعوة، على مضض وبإحترام.
كتابات أوجلان اللاحقة تظهر تأثيرات قراءته لبوكتتشين عليه. بحثه “في الدفاع عن الشعب” هو بمثابة سردية عن الحضارة تتضمن وصفا لأشكال التجمعات البدائية الشبيهة بالمجتمع العضوي الذي قدمه بوكتشين، أشكال من الحياة الجماعية سماها أوجلان “المجتمع الطبيعي”. في مثل هكذا مجتمعات، كتب أوجلان، عاش الناس “كجزء من الطبيعة” وكانت “المجتمعات البشرية جزءا من البيئة الطبيعية”. وقد قدم وصفا لتنامي نظام التسلسل الهرمي الذي يشبه كثيرا ذلك الذي طرحه بوكتشين. فالدولة، برأيه، “عملت على الدوام من أجل فرض الهرمية الإجتماعية، وشرعنت لتراكم القيم والسلع”. أكثر من هذا، قال أوجلان، بأن تنامي الهرمية الإجتماعية أصبحت مقدمة لفكرة إخضاع الطبيعة. و “بدلا عن أن تكون جزءا من الطبيعة”، بات المجتمع الهرمي يرى “الطبيعة، بصورة متزايدة، مجرد مصدر للموارد” ليستخلص من كل ذلك بأن المجتمع الطبيعي، شكل منذ فجر الإنسانية، النقيض لفكرة المجتمع القائم على الهرمية والدولة. (16).
للبحث صلة
[6] Murray Bookchin, The Ecology of Freedom: The Rise and Dissolution of Hierarchy (Palo Alto, Calif.: Cheshire Books, 1982); and The Rise of Urbanization and the Decline of Citizenship [later retitled Urbanization Against Cities] (San
Francisco: Sierra Club, 1986).
[7] Abdullah Öcalan, Prison Writings: The Roots of Civilization, trans. Klaus Happel (London: Pluto Press, 2007); and Prison Writings: The PKK and the Kurdish Question in the 21st Century, trans. Klaus Happel (London: Transmedia, 2011). Neither Bookchin nor Öcalan was an archaeologist or anthropologist; rather, in their accounts of prehistory and early history, they use such professionals’ published findings.
8] Bookchin, Ecology of Freedom, chap. 2.
[9] Ibid., pp. 46, 43.
[10] Ibid., Ecology of Freedom, chap. 3.
[11] Öcalan, Roots, p. 6.
[12] Ibid., p. 53, 25, 98.
[13] Öcalan, PKK and Kurdish Question, p. 96
[14] Unlike Öcalan, Bookchin chose not to use the terms thesis, antithesis, and synthesis, considering them an oversimplification of Hegel’s triad an sich, für sich, and an und für sich.
[15] So I was told by the intermediary between Öcalan’s lawyers and Bookchin, who wishes to remain anonymous here.
[16] Abdullah Öcalan, In Defense of the People (unpublished), chap. 1.2, “The Natural Society,” English translation manuscript courtesy of the International Initiative Freedom for Öcalan, Peace in Kurdistan. This book was published in German as Jenseits von Staat, Macht, und Gewalt (Neuss: Mesopotamien Verlag, 2010).
* يعرف قاموس أكسفورد كلمة (zigguart) كما يلي: “برج مستطيل متطاول في السماء، يعلوه أحيانا معبد في ميزوبوتاميا القديمة. وقد تم إثبات وجوده أول مرة في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وربما تكون زيگوارت قد ألهمت قصة برج بابل الواردة في الكتاب المقدس” – المترجم.