
تحدّيات الخطاب الكُردي في سوريا ، بين الشعاراتية والواقعية..
أكرم حسين
منذُ نشأة الحركة السياسية الكُردية في سوريا، انحصر خطابُها الكُردي بين الشعارات الكبرى والمقولات العامة ، بحيث لامس العاطفة وغذّى الطموحات القومية، بعيداً عن الواقع أو تقديم حلول عملية قابلة للتنفيذ ، ورغم أنّ هذه الشعارات رفعت سقف المطالب القومية إلى حدود الطموح المشروع ، إلا أنّها عجزِت عن رسم خارطة طريق واضحة لتحقيق هذه المطالب ضمن الإمكانيات السياسية والاجتماعية المتاحة في ذلك الحين .
لم تكن هذه الشعاراتية وليدة الصدفة أو بسبب فراغ فكري، بل نتيجة لبيئةٍ قمعيةٍ مُغلقةٍ فرضها النظام السوري الدكتاتوري الذي حرم الشعب الكُردي من أي اعترافٍ رسمي بوجوده أو ثقافته ، مما جعل الشعار وسيلةً لحماية الهويّة وبثِّ روح الانتماء في ظلّ ظروف سياسية غير مشجّعة .
ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه الشعارات من أداة تعبير عن الهويّة وتعبئة الجماهير إلى غاية في حد ذاتها. بحيث أصبح تكرارها نوعاً من الطقوس السياسية التي لم تُنتج تغييراً حقيقياً، بل ساهمت في “تسوير” الوعي الجمعي ومنحه “وهماً” بالقدرة على خلق المستحيل. وهكذا أصبح الشعار بديلاً عن الفعل، وتحوّل من وسيلة تعبئة إلى أداة تثبيت موقف سياسي دون تقديم أية حلول ملموسة ؟.
ومع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، ظهرت فرصة كبيرة لتجّديد الخطاب الكُردي والابتعاد عن الشعارات التي لطالما سيطرت عليه ،ومع ذلك، لم تُستَغَلْ هذه الفرصة بالشكل المطلوب، إذ سرعان ما انقسمت الساحة الكُردية إلى تيارين: الأول سار في نفس الخطاب القومي التقليدي الذي أعاد إنتاج ذاته، والثاني قدّم خطاباً أيديولوجياً جديداً حملَ مفاهيم مثل “الأمة الديمقراطية” و”الكونفدرالية الديمقراطية”، متأثراً بأدبيات حزب العمال الكُردستاني ، وفي كليهما ، بقيت الشعارات هي السائدة، ولم يقترب أي منهما من رسم سياسات عملية تلتقي مع الواقع المعقد والظروف المتغيرة. فظلّ الأول يتبنّى شعار “الحقوق القومية” دون آليات واضحة لتحقيقها في دولة منهارة، بينما تحدّث الثاني عن “اللامركزية الديمقراطية ” رغم ممارسته الاستئثار والتفرد في السلطة …!
لقد خلقت هذه المواقف تناقضاً حاداً في الشارع الكُردي ، بين خطابين يتنازعان الشرعية ، و رغم اختلاف لغتيهما، فقد تشابها في التفوق في الشعارات والعجز عن تحويلها إلى سياسات تقدّم حلول واقعية وعملية لحل قضية الشعب الكُردي في سوريا.
وقد أنتج هذا الخطاب الشعاراتي مجموعة من الظواهر السلبية داخل الحياة السياسية الكُردية. فقد، أدّى إلى انفصالها عن الواقع السوري المعقّد والمتغير، ما جعل القوى الكُردية تفقد قدرتها على التأثير والتعامل مع التحولات الجارية في البلاد ، و تجاهل الظروف المحلية والإقليمية المتاحة في التمسك بشعارات بعيدة عن متطلبات الواقع ، حيث تحوّل الشعار نفسه إلى بديل عن الفعل السياسي السلمي . كما تميّز الخطاب الكُردي بإغراقه في العاطفة القومية على حساب العقل السياسي ، وهو ما أدّى إلى انفصاله عن المسار السياسي العقلاني ، بحيث سادت حالة من التناحر السياسي والاتهامات المتبادلة بين القوى الكُردية، التي تحوّلت إلى ميدان صراع “لفظي” عقيم بدلاً من أن تكون ساحة للتفاهم والتعاون.
لقد أدّى هذا الوضع إلى تراجع الثقة بين الشارع الكُردي والأحزاب السياسية التي لم تتمكّن من تقديم إنجاز ملموس يوازي حجم الشعارات التي ترفعها والنتيجة كانت فقدان الخطاب الكُردي لمصداقيته أمام القوى الوطنية السورية والدولية، حيث بدا هذا الخطاب متناقضاً ومتقلباً، ويعتمد على ردود فعل ظرفية ومزايدات إعلامية، بدلاً من أن يكون مدفوعاً برؤية استراتيجية واضحة ،وعلى مدى السنوات، تحوّلت القضية الكُردية من مشروع سياسي قابل للتفاوض إلى مادة للاستعراض الشعاراتي ، ما أدّى إلى استغلالها من قبل القوى الإقليمية تاركة الكُرد في دوامة من الخطابات والبيانات الفارغة.
إنّ تجاوز هذه المشكلة يتطلّب شجاعة فكرية للاعتراف بأنّ زمن الشعارات قد ولّى. بعد عقدٍ من الحرب بحيث أصبح من الواضح أنّ الوضع السوري المعقد لا يحتمل الشعارات، بل يتطلّب خطاباً عقلانياً و براغماتياً قادراً على تحديد أهدافه بوضوح ضمن الحدود المتاحة ، و”الواقعية” هنا لا تعني التنازل عن الحقوق القومية للكُرد، بل ترتيب الأولويات والسير نحو الممكن خطوة بخطوة. مثلاً أن تبدأ المرحلة الأولى بتثبيت الحقوق الثقافية والسياسية والإدارية للكُرد ضمن الدستور الانتقالي، وصولاً إلى شراكة حقيقية في الدولة السورية الجديدة التي يجب أن تُبنى على أسس من الديمقراطية والتعددية والمواطنة المتساوية .
يحتاج الخطاب الكُردي ، إلى التجديد والانتقال من مرحلة الأمنيات إلى مرحلة من التخطيط الواقعي، العقلاني ، وصولاً إلى شراكة حقيقية ، فمن الضروري أن تُدرك القوى الكُردية أنّ مستقبلها مرهون بقدرتها على الاندماج في المشروع الوطني السوري، و لن تجد القضية الكُردية حلاً خارج سياق بناء دولة ديمقراطية تعددية تضمن المساواة والحقوق لجميع مكوناتها.
لسنا بحاجة للمزيد من الشعارات الحماسية من جديد ، تلك التي تثير العواطف، بل إلى رؤية واقعية تتخطّى الايديولوجيات الضبابية وتضع مصلحة الشعب العليا فوق أي اعتبار، عبر قراءة اللحظة التاريخية وتحويل الممكن إلى واقع .
باختصار ، لقد حان الوقت لكي يغادر الخطاب الكُردي السوري ساحة الشعارات والأوهام ،إلى ساحة السياسة الفعّالة، وأن يدرك أنّ الواقعية السياسية ليست ضعفاّ بل نضجاً سياسياً والشجاعة الحقيقية ليست في رفع الشعارات الكبرى، بل في مواجهة الواقع كما هو ، والعمل على تغييره بخطوات متدرّجة ومدروسة.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “337”






