تورغوت أوزال الذي تناساه الأتراك والأكراد
هوشنك أوسي
قبل 22 سنة، وفي 17 نيسان (أبريل)، استيقظت أنقرة، ومعها العالم، على خبر وفاة الرئيس الثامن لتركيا، تورغوت أوزال (1927-1993). وقتذاك، كان أوزال يجري مفاوضات مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، أثناء وجود الأخير في دمشق، حيث كلّف أوزال زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، والرئيس العراقي السابق جلال طالباني، بالوساطة بين الطرفين، تماماً كما يجري الآن من مفاوضات بين حكومة حزب العدالة والتنمية، وزعيم الكردستاني المعتقل في سجن جزيرة إيمرالي منذ 1999، مع فارق عدم وجود وسيط.
وبحسب التقارير الطبيّة الصادرة عن لجنة التحقيق بخصوص فحص رفات أوزال عام 2012، بأمر من الرئيس التركي السابق عبدالله غل، إن أوزال قتل مسموماً. وعليه، اعتقل الجنرال السابق لاوند أرسوز، بتهمة اغتياله، بالإضافة إلى تهم أخرى تتعلّق بالاشتراك في محاولة انقلاب على حكومة العدالة والتنمية. ولكن، برّأ القضاء التركي أرسوز من التهمتين السالفتين، وأفرج عنه في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي!.
أوزال الذي تولّى رئاسة الوزارة في 13/12/1983، في فترة حكم الانقلابيين برئاسة قائد الانقلاب العسكري والرئيس التركي السابق الجنرال كنعان إيفرين، استمرّ في رئاسة الوزارة لغاية 31/11/1989، قام خلالها بإصلاحات مهمّة، من شأنها إعادة الحياة السياسيّة والمدنيّة إلى البلاد. ومضى في إصلاحاته، على رغم محاولة اغتياله عام 1988 أثناء إلقائه خطاباً في مؤتمر حزبه (حزب الوطن الأم)، وأبرز تلك الإصلاحات، إصداره العفو عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين الأكراد والأتراك عام 1989، ضمنهم قيادات بارزة في العمال الكردستاني، وأحزاب كرديّة ويساريّة تركيّة أخرى.
بادرة حسن النيّة تلك لم يلتقطها الكردستاني وزعيمه وقتئذ، بل زادا وتيرة كفاحهما المسلّح ضد تركيا.
وواصل أوزال انفتاحه على مكوّنات المجتمع التركي، خصوصاً الكرد، عام 1990، وألغى حظراً جزئيّاً عن اللغة الكرديّة، وكشف عن أصوله الكرديّة، وأفسح المجال لنشاط حركة الطباعة والنشر بالكرديّة، فصدرت صحيفتا «ولات» و»أوزغر كوندام» المواليتان للكردستاني، وتأسس المعهد الكردي في إسطنبول، ودخل مجموعة من البرلمانيين الكرد إلى البرلمان التركي كمستقلين عام 1991. ولم يلتقط الكردستاني وزعيمه هذه الإشارة الإيجابيّة أيضاً!.
بالتوازي مع مساعي أوزال السلميّة والوطنيّة، كانت هنالك مساع محمومة وموتورة من أطراف «الدولة الخفيّة» في تركيا تسعى إلى تسميم جهود أوزال وتفخيخها، عبر زيادة العنف الممارس ضد الكرد والحراك السياسي والمدني الموالي للكردستاني، ودفاع الأخير عن النفس، وانزلاقه نحو العنف المضاد، ما كان يزيد من ضغوط الجيش على أوزال وبرنامجه الإصلاحي السلمي لحلّ القضيّة الكرديّة. وتحت وطأة هذه الضغوط، سمح أوزال للجيش التركي بالاجتياح العسكري لكردستان العراق في خريف 1992، بغية تصفية الكردستاني. هذه الحملة التي شارك فيها عشرات الآلاف من الجنود المعززين بالطيران والمدفعيّة والمدرّعات، ومشاركة مقاتلي الحزبين الكرديين الرئيسيين في كردستان العراق، باءت بالفشل الذريع. حينئذ، تيقّن أوزال من استحالة حسم الملّف الكردي عسكريّاً. لذا، كلّف طالباني بالتوسّط بينه وبين أوجلان، كما ذكرنا آنفاً. واستجاب أوجلان معلناً عن هدنة في 20/3/1993. وصلت المفاوضات إلى مرحلة متقدّمة، بحسب أوجلان، حيث ذكر الأخير في أماكن عدّة أنه كان «ينتظر اتصالاً هاتفيّاً مباشراً من أوزال يوم 17/4/1993، لوضع اللمسات النهائيّة على الاتفاق وإعلانه في بيان مشترك للرأي العام، لكن خبر وفاة أوزال المفاجئة في نفس اليوم، أطاح بكل شيء». لذا، أوّل من طرح فرضية اغتيال أوزال هو أوجلان. وفي ما بعد، بدأت عائلته تثير الشك والشبهة على ظروف موته. وأنه لم يتم إجراء تشريح للجثة في حينه، لمعرفة الأسباب الحقيقيّة لوفاته. واكتفاء الدولة بذكر أن الوفاة ناجمة عن أزمة قلبيّة حادّة!
من كل رؤساء تركيا، يعتبر تورغوت أوزال المؤسس الثاني للجمهوريّة التركيّة، وواضع حجر الأساس للنهضة الاقتصاديّة التي تشهدها تركيا الآن. بالإضافة إلى كونه الأب الحقيقي لليبراليّة التركيّة، إن جاز التعبير، نتيجة جهوده وإصلاحاته وانفتاحه على التيّار القومي الكردي والإسلامي التركي.
وعلى رغم محاولة البعض تشبيه أوزال برئيس الوزراء التركي السابق عدنان مندريس (1899-1961) الذي أعدم شنقاً، عقب انقلاب 1960 بقيادة الجنرال جمال غورسيل (1895-1966)، إلاّ أن أوزال أهم منه بكثير، لعدّة أسباب، أبرزها:
1- أوزال كان يسعى إلى لبرلة الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وكان علمانيّاً متديّناً، منفتحاً على الكرد والإسلاميين. بينما سعى مندريس نحو أسلمة البلاد. ودخل في صدام مع رفاقه القدامى (حزب الشعب الجمهوري) الذين انشقّ عنهم مؤسساً الحزب الديموقراطي عام 1945. وبعد فوزه في الانتخابات لعدّة دورات، بدأ بتضييق الخناق على رفاقه القدامى (الأتاتوركيين) لدرجة أنه حاول منع زعيم حزب الشعب الجمهوري عصمت إينونو من دخول البرلمان!. زد على ذلك، لا يشير التاريخ إلى أيّة محاولة لمندريس في الانفتاح على الكرد، على رغم تعرّضهم للقمع والمذابح في حقبة حكم مصطفى كمال أتاتورك.
2- لم يدخل أوزال في صدام مع المؤسسة العسكريّة، لا أثناء توليه رئاسة الوزارة، ولا في فترة رئاسته للجمهوريّة. بينما مندريس، اصطدم مع العسكر، لدرجة أنه أقال نحو 40 في المئة من ضباط الجيش، أثناء توليه رئاسة الوزارة في الخمسينات من القرن المنصرم.
وإذا كانت تركيا الآن، لا تعرف شخصاً سوى الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، نتيجة حملات التسويق والتأليه الجارية له، وطغيان اسم أردوغان على تفاصيل التفاصيل في تركيا، وطيّ حزب العدالة والتنمية التحقيق في جريمة اغتيال أوزال وإطلاق سراح المتهم، في صفقة واسعة النطاق مع الجيش ضد جماعة فتح غولن (حليف أردوغان السابق)، فمن المؤسف أن تتناسى المعارضة أيضاً أهميّة الرئيس التركي السابق أوزال!. والأغرب أن يتناسى الأكراد، وفصيلهم الرئيس العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان، أهميّة تورغوت أوزال، الذي دفع حياته ثمناً في مسعى إيجاد حل سلمي للقضيّة الكرديّة.
واستناداً إلى واقع حال الأتراك والأكراد في تركيا، يمكن القول: هنالك ما يشبه التواطؤ المشترك على نسيان أوزال وشطبه من الذاكرة التركيّة والكرديّة، في مقابل توسيع نطاق التركيز على أهميّة أردوغان ودوره في نهضة تركيا، كأتاتورك ثان، بنكهة إسلاميّة!.
الحياة