حروب وشيكة في هذه الصحراء الهائلة
حازم الامين
لبنان قرر أن يواجه أزمته الاقتصادية الداهمة والانهيار الوشيك لاقتصاده وأن يستبق إفلاس دولته، بإجراءات تقشف الأرجح أن تشمل تخفيضاً غير مسبوق لرواتب الموظفين والجنود وربما المدراء والوزراء. سوريا مفلسة أيضاً وحكومة نظامها عاجزة عن الاتيان بأي خطوة حيال استحقاقات اقتصادية، و”انتصارات” النظام تطرح عليه السؤال الخانق: وماذا بعد؟ الدول المنتصرة في سوريا (إيران وروسيا والعراق) لا تستطيع أن تفعل شيئاً حيال استحقاق الاقتصاد. الأردن بدوره ليس بعيداً عن هذا القدر، ومحاولات حصاره اقتصادياً لدفعه لتنازلات في ملف القدس بدأت تثقل عليه. حجبت عنه المساعدات الخليجية، وها هو اليوم يسعى للاستعاضة عنها بعلاقات مع قطر. العراق مفلس أيضاً وفي بغداد ثمة من يقول إن لا علاج للواقع الاقتصادي الثقيل لهذا البلد، على رغم احتياط النفط الهائل لديه.
لا تبدو الحلول التي تفكر بها الدول الأربع جدية. في سوريا مثلاً النظام لا يريد تلبية الشرط السياسي الذي وضعه المجتمع الدولي لمشاركته في “إعادة إعمار سوريا”، وهو محق في تمنعه، ذاك أن إشراك السوريين “المهزومين”، وهم غالبية السوريين، في صياغة النظام السياسي يعني خسارته دفة السلطة حكماً، ولهذا قرر بشار الأسد أن يمضي في الحرب. الأزمة الاقتصادية في العراق لا تقل فداحة. فالمطلوب من النفط يفوق طاقته. تمويل دولة هائلة وجيوش هائلة وميليشيات وطبقة سياسية فاسدة وطوائف ومذاهب، وإعانة إيران على كسر الحصار وجزء من الحرب في سوريا. نفط العالم كله لا يكفي لهذه المهام!
لبنان الدولة الصغيرة والمحدودة الموارد، تريد مواجهة الحقائق الاقتصادية الثقيلة بتخفيض رواتب هي خفيضة أصلاً. لبنان هذا، قرر أن حزب الله شريك في الاقتصاد كما في السياسة. موارده اليوم خاضعة لهذا الشرط. لا يمكن له أن يقدم تنازلاً في السياسة لينال مقابله في الاقتصاد. و”لثباته” في السياسة أثمان اقتصادية موازية أيضاً، إذ إن طبقته السياسية الفاسدة هي جزء من معادلة “الثبات” هذه. الرشى المقدمة لأطراف السلطة هي ثمن لاندراج هذه الأطراف في تلك المعادلة. الفساد الهائل هو جزء من توازن طائفي سمح لحزب الله بالتحصن داخل الدولة وداخل مواردها. أي “إصلاح” سيعني إخلالاً في معادلة الثبات في الموقع. أبواب الفساد الحقيقي تحمي القوى التي يتحصن فيها الحزب. خصوم الحزب المذهبيون ليسوا بعيدين عن هذا التوازن، ولا يرغبون بالمس به. ومن هنا انبثقت نكتة “تخفيض الرواتب” كحلٍ لأزمة جوهرية ولإفلاس وشيك.
أما الأردن، فتردّنا أزمته إلى موقعه الأصلي في المنطقة، فالدولة هناك كانت حصيلة أدوار أدتها، وهذه الأدوار في طور الأفول. مجتمع النازحين الممول من الخليج ومن الغرب هو اليوم في طور التحول إلى مجتمع المواطنين. على الأردن أن يقبل بتوطين الفلسطينيين، عليه أن يقبل بضم القدس. هذا القبول يعني زلزالاً أهلياً في ذلك البلد، وعدم القبول يعني اختناقاً. تردّنا هذه المعادلة المأساوية إلى حقيقة أن الدولة هناك لم تؤسس في خيارات موازية، ولم تضع نفسها في موقع بناء قاعدة مواجهة لهذا النوع من الاحتمالات. “تنويع الخيارات” قد يفضي إلى بعض العلاج، لكن الدوحة لا يمكن أن تحل مكان العالم كله. الأردن كان جزءاً من قناعة العالم بأنه ضرورة لإدارة عدد من المآسي أهمها مأساة الفلسطينيين. اليوم ثمة انعطافة دولية هائلة على هذا الصعيد.
أنظمة الحكم تترنح فعلاً في ظل الحقائق الاقتصادية الثقيلة هذه. وإذا كانت الحروب في مرحلة كمون بعد القضاء على “داعش” في العراق وفي سوريا، وبعد “نجاة” النظام في سوريا وبعد تصدر نتانياهو المشهد الإسرائيلي، فإن واقع الانهيار الاقتصادي والإفلاس الزاحف إلى دول الحرب، سيكون مناسبة لاستئناف أنواعٍ جديدة من النزاعات ليست الحروب مستبعدة عنها. فالنخب الحاكمة لن تقوى على تأدية مهامها في التوازن الراهن، والفقر يلتهم مزيداً من الشرائح والجماعات، وهذا الاستعصاء مضافاً إليه أنواع من الاحتقانات الموجودة أصلاً سيفضي إلى انفجارات ربما كانت أكثر فداحة من تلك التي شهدتها بلداننا في المرحلة المنصرمة. “داعش” لم يمت، والحشود المذهبية في العراق ما زالت على سلاحها. إسرائيل لن تضيرها حروب أهلية في بلاد الأغيار، وإيران تعتقد أن هذه الحروب خير وسيلة للتحصن من العقوبات.
إفلاس الدول هذه المرة سيكون بوابة الحروب، والاستقرار المتوهم على وشك أن ينقضي، وثمة مسوخ على وشك أن تولد، وأن تنضم إلى أقرانها في هذه الصحراء الهائلة.
Alhurra
جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media