حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (4 – 2)
عبدالله تركماني
4 – 2: أهم المخاطر المحدقة بوحدة سورية وكيفيات التعاطي المجدي معها
وهكذا، في ظل صراع الهويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ملحّة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الجامعة، يخلق مساحة لمشاركة قوى سياسية واجتماعية واقتصادية في العملية السياسية الوطنية. وهذا يستدعي أن ” يتناول الحل السياسي القادم المواضيع والمسائل الأساسية كافة التي تهم جميع المكوّنات السورية الرئيسية، من خلال انخراط الجميع في عملية صياغة العقد الوطني الجديد. على أن تواكب هذه العملية السياسية ضمانات دولية وإقليمية في إطار الأمم المتحدة، توفر الضمانات لإنجاحها وتثبيت نتائجها وحماية هذه النتائج (1).
ما ينبغي قوله، هنا، هو أنّ الانطلاق من البعد القومي فقط، لحل هذه القضية، قد يحمل نتائج سلبية قاتلة، لجهة التخندق خلف الأيديولوجيا القومية الضيقة، والاحتراب بين الهويات المكوّنة للدولة، فقضايا الدول ” لم تعد تحلّ بمثل هذه النظريات الضيقة، وإنما من خلال تأسيس دولة عصرية، لا تسخّر السلطة لصالح هوية قومية أو دينية أو طائفية محددة على حساب باقي الهويات والمكوّنات، فنموذج الحكم في الدول ينبغي أن يجسّد كل هذه الهويات والمكوّنات الاجتماعية والسياسية لها ” (2). ومن دون ذلك، يبقى الجدل أو النقاش بشأن الهوية الكردية، أو غيرها من الهويات، عقيمًا، في إطار ما قبل الدولة المعاصرة، بمفاهيمها الدستورية والقانونية والإدارية والاجتماعية.
ولعلَّ مشروع اللامركزية الإدارية الجغرافية سيكون مساهمًا في وقف النزيف السوري، وبناء مستقبل سورية الغد في إطار التعددية والديمقراطية، كما سيساهم في ازدهار البلاد اقتصاديًا، وتماسكها كوحدة جغرافية تقطع السبيل أمام التقسيم والتشتت. وإذا كان للامركزية الإدارية أن تكون صيغة مناسبة لاتحاد سوري، يطوي صفحة التصورات القومية والمركزية لسورية ” يقتضي الأمر أن تكون النخب السياسية جادة في شأنها، وأن تقوم على تفاهم سياسي عريض، وتُراعى مقتضيات قيامها من استشارة السكان وتوفير تمثيل فعّال لهم، ومن توفير بيئة أكثر ملاءمة للاتحاد في البلد ككل، وفي المحافظات والمناطق والنواحي والبلدات ” (3).
إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التقسيم، أو الفيدراليات الطائفية والقومية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تُضمن فيه صلاحيات الحكومة المركزية، في المجالات الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة وإدارة الموارد الاقتصادية الرئيسية، حكومة قادرة على حل القضايا المعلقة والشائكة. إنه أيضًا النظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي.
خاتمة
ليس من شك في أنّ المظلومية الكردية هي مظلومية سورية، وإن لم يستطع السوريون حلّها في إطار الكيان الوطني السوري، وفي سياق إحياء دولة وطنية، فلن يستطيعوا حلها في إطار الإقليم الكردي المقترح. لهذا تبدو الحاجة ملحة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى تنظيم وإطلاق حوار وطني واسع، يقوم به سوريون أحرار، يمتد ليشمل البلد بأكمله، ويفضي إلى عقد اجتماعي جديد. وإنه لأمر بديهي أنّ استعادة الدولة أولًا، وإرساء الدولة الوطنية الحديثة، والمجتمع الديمقراطي التعددي ثانيًا، يشكلان حجر الزاوية في العقد الاجتماعي المأمول.
وتكمن مشكلة الكرد، كما نراها، في أنهم يقيسون حياتهم ومستقبلهم في سورية من خلال معيار وحيد أوحد، هو تجربتهم السيئة مع نظام البعث وحكم الطغمة الأسدية خلال نصف القرن المنصرم، معتبرين أنّ تلك الفترة تعبّر عن تاريخ سورية ومستقبلها، وأنّ شراكتهم مع العرب في وطن واحد ستأخذ دائمًا المنحى نفسه، وستكون حقوقهم مهضومة على طول الخط، ومهما حصل من تغيّرات.
إنّ الأمر يتطلب بلورة عقد وطني جديد، وهذا يستدعي أن يتناول الحل السياسي القادم المسائل الأساسية كافة، التي تهم جميع المكوّنات السورية، من خلال انخراط الجميع في عملية صياغة هذا العقد، مع توفير الضمانات لإنجاحه وتثبيت نتائجه وحماية هذه النتائج. مما يستوجب الانخراط في إنتاج نظرة سورية راهنة إلى سائر القضايا السورية، وما يعنيه هذا من ضرورة الانتقال من الصراع القومي إلى الحوار الوطني، الهادف إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة، دولة كل مواطنيها المتساوين في الحقوق والواجبات.
وفي هذا السياق فإنّ وحدة القوى الديمقراطية العربية والكردية ضرورية، لنيل حقوقهم كاملة في مرحلة ما بعد الاستبداد، بدعم من جميع الأطياف الديمقراطية التي ستشترك في بناء النظام الجديد. بذلك، سيقدم الشعب السوري لمكوّنه الكردي حقوقه، اعترافًا منه بدوره في القضاء على الاستبداد وإقامة الديمقراطية، وسينال الكرد، بنضالهم السياسي وتضحياتهم، ما لن ينالوه بسلاح حزب يضطهدهم وإخوتهم العرب، ويدمّر قضاياهم المشتركة، ويسهم، بالخروج على أولويات الثورة، ومناهضة أهدافها، في بقاء النظام القاتل، متسلطًا عليهم، ويهدد بجرهم من أجواء الإخاء، الذي أوجدته شراكتهم في الثورة، إلى أجواء عداء مدمّر، لا مصلحة لكردي أو عربي فيه. لذلك، لا مفرَّ من إفشال خطط الانفصاليين اليوم قبل الغد، لكيلا يصير من الصعوبة بمكان وقف تدهور علاقاتهم الأخوية، التي يُرجّح أن تشهد تجدّدًا وتعمّقًا غير مسبوقين في العصر الديمقراطي المقبل الذي نصنعه معًا.
وهكذا، يخطئ من يعتقد بأنّ الرفض والإدانة للفيديرالية والعودة للتهديد بأساليب القهر والقسر يمكنها حماية وحدة البلاد، فالطريق المجربة للحفاظ على اللحمة الوطنية هي حين تنظم حياة السوريين قوانين لا تميّز بينهم، ويتلمسون بأنهم بشر متساوون في الحقوق والواجبات، طريق لا يمكن أن تنهض إلا بنقد الماضي المكتظ بكل أنواع الظلم والاضطهاد. ما يعني ضرورة إعادة النظر بأفكارنا القديمة، وبشعاراتنا عن التعايش والتعددية، استنادًا إلى أنّ وحدة الوطن ومعالجة تنوعه القومي والديني، لا يمكنهما أن تتحققا بصيغة صحية وعادلة إلا على قاعدة الديموقراطية ودولة المواطنة واللامركزية الإدارية الموسّعة على أساس جغرافي.
ahewar