د.محمد حبش :سنجار .. اليزيديون وهولوكوست داعش
د. محمد حبش
لا أدري هل سيقرأ القراء الكرام هذا المقال قبل المذبحة أو بعدها فالأنباء تشير إلى وصول داعش إلى جبل سنجار، وهو أحد معاقل الطائفة اليزيدية، ومن أقسى أقدار الحقيقة أنها مرة كالعلقم، وأن القوم ذاهبون بكل تأكيد لتنفيذ لإفكارهم التي تعلموها وعلموها في مدارسنا أن المرتدين لا ينفع معهم إلا التوبة أو السيف، و(قد ينعم أمير المؤمنين عليهم) بالسماح بالخروج من البلاد إظهارا لتسامح الخلافة الإسلامية وعدالتها……
واليزيدية التي يتجاوز أتباعها مليون يزيدي ينتشرون في تركيا وارمينيا وسوريا ويعيش نصفهم في العراق، بواقع يقارب نصف مليون عند كتابة هذه السطور وبالتأكيد فإن هذا العدد يتناقص الآن كل دقيقة بعد وصول قوات دولة الخلافة البغدادية إلى سنجار.
أما اليزيدية فهم في العقل الشعبي العام في سوريا عباد الشيطان، وهي كلمة ظالمة آثمة لا تستند لشيء من الحقيقة، ومن حقنا أن ننصف هذا الجزء العزيز من أهلنا وشعبنا، بعد أن تباهينا لعقود طويلة بأننا في الإسلام متسامحون منطقيون ومع أن الشيطان أكبر أعدائنا ولكننا سمحنا لعباد الشيطان أن يعيشوا بيننا بأمان، وهم مشهورون بكرمهم وحسن ضيافتهم ومسالمتهم واعتكافهم الديني في جبال لالش في الموصل وسنجار.
قبل سنوات اتصل بي الأمير العربي السيد حميدي دهام الهادي الجربا أمير شمر، وقال لي عندي شيخ اليزيدية وأحب أن نتناول العشاء معاً، قلت له: صدق يا طيب.. لو كان عندك شيخ الأزهر فأنا مشغول الليلة، ولكن شيخ اليزيدية فرصة نادرة، ومسافة الطريق ستجدني عندك.
كانت فرصة نادرة للتعرف على ذلك الدين الغامض الغارق في ميثولوجيا الغيب، يرسم ظلاله بيده، وينتج أنبياءه وقديسيه وأحراره وثواره، وفق طبائع الشعب الكردي العظيم الذي يؤمن بالخير والنور والشمس، ويثق بما حباه الله من قيم عظيمة يعيشها ويمارسها في جباله الجميلة الطافحة بالتحدي، وتحتلط فيه آداب الكورد الإسلاميين بآداب الكورد الشيوعيين واليزيديين الذين يغنون معاً في الحقل ويرقصون معاً في النيروز ولكنهم يذهبون إلى معابد مختلفة، وهي أصدق الصور التي علقت قلبي بالكورد ورأيتها بوضوح في شخص عمي الشيخ كفتارو رائد حوار الأديان، وفي إمام الشهداء الشيخ الرائع معشوق الخزنوي شمس كردستان.
من الظلم القول بأن اليزيدية يعبدون الشيطان، فهذه فرية ظالمة أطلقت على القوم في إطار حملات الإبادة التي شنتها عليهم الدول المحيطة بهم والتي رأت فيهم تهديداً لأمنها الذاتي، وأولهم العباسيون الذين راوا فيهم امتداداً للدولة الأموية وانتساباً ليزيد بن معاوية، وقد كان اليزيدية مسلمين يؤدون الشعائر ويذهبون للحج ويمرون ببغداد، وقد جرد الخليفة المعتصم 224 هجرية حملة للقضاء عليهم أيام الأمير اليزيدي مير جعفر الداسني، وانتهت بهروب اليزيديين إلى الجبال، وانقطاعهم عن النسك الإسلامي، وبالتالي دخول عناصر كثيرة من الثقافة الزرداشتية والموروث الآشوري والسرياني في ثقافتهم.
وكان من أشهر علماء الإسلام الذين أدركوا مظلومية اليزيديين الإمام عدي بن مسافر 467-557 هجرية وهو فقيه شافعي شهير، اختار سبيل الصوفية في التربية والإرشاد والسلوك حتى قال عنه الشيخ عبد القادر الجيلاني لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها عدي بن مسافر.
انتقل من بعلبك إلى الموصل وأقام هناك في جبال الهكارية بين اليزيديين ووجدوا فيه إمامهم ومعلمهم نظراً لميوله الأموية الواضحة ولنسبه الى مروان بن الحكم، وطريقه الصوفي الناظر في المقاصد والتجليات أكثر من النصوص الظاهرة.
لم يتهم أحد من الفقهاء عدي بن مسافر في علمه ودينه، وهو في الفقه الشافعي أحد أعلام الفقهاء، وفي التصوف أحد أئمة السالكين، ومع وصوله إلى لالش اتخذه اليزيديون مرجعاً وإماماً وأصبحت كلماته زاداً روحياً وعرفانياً لليزيديين، ولا نشك أنه اجتهد أن يعود باليزيدية إلى نسك الإسلام الأولى، ولكن كان يصده في محاولاته المحيط السياسي العباسي الذي كان لا يزال يعيش عقدة الخوف من عودة الأمويين.
بعد رحيل عدي بن مسافر الذي عاش تسعين عاماً صار قبره كعبة لليزيدية يحجون إليها، وضمت إليه قبور خلفائه من بعده، واشتهر أيضاً كهف شكفتا هنديا الذي كان يزوره هنود يؤمنون بالأفكار إياها، وقام ناشطون يزيديون بالدعوة لإقامة نسك ديني خاص بهم في جبال لالش بالموصل حيث تجد فيها الطواف والسعي ورمي الجمار في إشارة واضحة إلى إنشاء حج محلي بديل عن الحج الذي انقطع السبيل للوصول إليه.
وربما يشكل ذلك تناغماً مع ما تشهده قونيه التركية كل عام في ذكرى مولد جلال الدين الرومي حيث يحتشد عند ضريحه عدد من المؤمنين بوحدة الأديان من سائر الأمم.
وقصة عبادتهم للشيطان فرية افتراها عليهم أعداؤهم، وغاية الأمر أن اليزيدية لديهم تأول لما صنعه إبليس الذي يسمونه عزازيل، فقد أظهر عزازيل وفق الفهم اليزيدي صلابة ويقينا في تحريم السجود لغير الله، ونجح في امتحان التوحيد الذي أقامه الله في مهرجان السماء، واستحق أن يكون طاوس الملائكة لتوحيده وعبادته وصلابته، وهم يعجبون من الفقهاء في اعتبارهم عزازيل خارجاً عن طاعة الله مع أنه كان أعظم الموحدين.
ولليزيدية طقوس خاصة في حجهم إلى قبر عدي بن مسافر الذي يكون بين 23-30 من سبتمبر كل عام حيث يخلع الحاج نعليه في الجبل المقدس كما أجروا على الجبل أحكام البلد الحرام من تحريم الصيد وقطع الشجر وسموا ماء النبع عند قبر عدي ماء زمزم، وقد تطورت اليزيدية فيما بعد ورغم تحريمهم للكتابة والقراءة في شأن الدين اعتمادا على علم الصدر وهو ما زاد من انتشار الأمية في تلك الجبال، ولكنهم ظفروا فيما بعد بكتابين اثنين اعتبرا مرجعهم الديني وهما كتاب الجلوة ومصحف رش.
ولكن هل سيفيد توكيدنا على إيمان اليزيدية بالله خالقاً ورازقاً ومعبوداً بحق، هل سينفع في شيء في وقف توجه داعش لتدمير هذه المراكز الدينية وارتكاب المجازر بحق أتباعها؟
وهل نستطيع أن نقول لدولة الخلافة البغدادية إن على ولي الأمر محاسبة الظاهر وأن الله وحده يتولى السرائر، وأن ندعوهم للعمل بواضح النص القرآني: قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.
بالتأكيد لا، ولا ننتظر منهم ان يقبلوا إيمان اليزيدية وهم لا يعترفون بإيمان الصوفية، ويقاتلون شركاءهم حتى في ثقافة الخلافة والحاكمية، وبكل مرارة وأسى فالخطوة المتوقعة هي تهجير من تبقى والقضاء على معالم الديانة اليزيدية، وغاية ما تأمله أن يتم الأمر بدون مجازر إبادة وهو القدر الذي عاناه اليزيديون خلال تاريخهم الطويل بدءاً من أيام المعتصم ثم حملة حسن باشا واحمد باشا وسليمان باشا 1752 ومن ثم حملة نادر شاه الفارسي التي تواصلت للفترة من 1732-1743 ثم حملات الباشوات العثمانيينمرة أخرى 1560 م بناء على فتوى من مفتي الأستانة أبو السعود العمادي بقتلهم وأخيراً حملات الأنفال في العراق أيام صدام.
يبقى السؤال القديم الحديد الذي نثيره كل مرة، متى ستقوم المدارس الدينية بمحاكمة موروثها الفقهي الذي ينص على وجوب قتال الناس لإدخالهم في الدين، بناء على قاعدة أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إله الا الله، ومتى سنتوقف عن تدريس القاعدة المثلثة الاسلام أو الجزية أو السيف؟ والأشد أسفاً ومراراً أن قاعدة الجزية منة خاصة بأهل الكتاب أما اليزيديون فلا يمكن أن يطمعوا أبداً بنعمة الجزية التي عرضت على نصارى الموصل، بل إن الموقف الفقهي الذي لا زال يدرس في مدارسنا الدينية يوجب على الإمام قتالهم في كل حال حتى يبرؤوا من أديانهم ويدخلوا في الإسلام من جديد ولا يجوز أن يعرض عليهم الجزية… والأمر الأشد رعباً أن هذه القاعدة لا تزال في مناهجنا حتى في حق الدروز والنصيرية والتيامنة وهم جزء عزيز من المجتمع السوري الرائع، وحتى لا نتحدث عن وهم بعيد فأنا أذكر بالنص كتاب كفاية الأخيار الذي تدرسه معاهد الشيخ كفتارو وكتاب حاشية رد المحتار على الدر المختار الذي تدرسه معاهد الفتح الإسلامي، وما منهاج كلية الشريعة عن ذلك ببعيد.
أما نص كفاية الأخيار: أما من لا كتاب له ولا شبه كتاب كعبدة الأوثان والشمس والقمر ومن في معناهم والمرتد فلا يعقد له (عقد الجزية) لأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين إلى أن يسلموا بقوله تعالى: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وخص أهل الكتاب بالآية الآخرى ج2 ص 217
وأما نص رد المحتار: ويدخل في عبدة الاوثان عبدة الشمس والنجوم والصور التي استحسنوها والمعطلة والزنادقة والباطنية والاباحية…… وشمل ذلك الدروز والنصيرية والتيامنة، فلا تحل مناكحتهم، ولا تؤكل ذبيحتهم لانهم ليس لهم كتاب سماوي، ج3 ص49
أما السؤال التقليدي لماذا لم يقم المسلمون بتطبيق هذه التعاليم خلال التاريخ، والجواب أن الوعي الإنساني بمقاصد الإسلام في الحرية والكرامة الإنسانية أقوى لدى الشعب السوري والعراقي من ظاهر النصوص، وكان وجود اليزيدية بالنسبة لنا أوضح دليل على قول الله تعالى لا إكراه في الدين، ومع ذلك فحين كان التطرف الديني يشتد صعوداً كانت هذه الحملات تستأنف من جديد، ولا يزال كثير من طلابنا في المعاهد الدينية يعتبر بقاء هذه الفرق مظهراً من مظاهر التخلي عن ثوابت الدين، وينتظر أن تمكنه الأيام من تحقيق هذا الحلم، وقد وجد كثير منهم أحلامه وأمانيه في دولة الخلافة البغدادية وفي جبهة النصرة.
إنها دعوة للشرفاء والأحرار الذين يرون في الإسلام رسالة حب ونور وهداية أن يبادروا جميعاً لحملات مستمرة من الوعي والتنوير لحماية هذا النسيج الاجتماعي العزيز في بلادنا وفق قيم الحرية في الإسلام، وهي القيم التي جعلت بلادنا عبر التاريخ متحف أديان العالم، ومحجاً لرواد التسامح والمحبة والغفران.