آراء

ردّاً على مغالطات تاريخيّة في مقالٍ للدكتور كمال اللبواني

همبرفان كوسه

يقع المعارض السوريّ، الدكتور كمال اللبواني، في مغالطاتٍ تاريخيّةٍ حول الديموغرافية السكانيّة والتاريخ الحديث والوسيط للجزيرة العليا الكُرديّة في سوريا، في مقال رأيٍ كتبه لموقع صحيفة ليفانت الألكترونيّة بعنوان: رداً على الأخ صلاح بدر الدين حول (الفيدراليّة الثقافيّة وليس الجغرافيّة).

يقول الدكتور كمال اللبواني، في معرض حديثه: “إنّ منطقة الجزيرة كانت خالية من السكن والعمران منذ الغزو المغولي، ولم تُسكَن من أيّ قوميّةٍ قبل الانتداب الفرنسي، ولا يوجد فيها أيّ أثرٍ تاريخي يعود للفترة بين القرن الرابع عشر والقرن التاسع عشر الميلادي، ولا توجد مقابر تحتوي رفات تعود لتلك الحقبة”.

يدوّن الرحّالة التركيّ، أوليا جلبي (1611- 1680) رحلته للجزيرة الكُردستانية عام 1655م، ويذكر من خلالها اسم عشيرتين كُرديّتين كانتا تحكمان المنطقة وقتئذ؛ إذ يقول: “توجّهنا نحو الجنوب، ووصلنا مكاناً يسمّى (كندلي)، وهي نهاية حدود ماردين، وهو مكانٌ غير آمن، إذ يقوم الكُرد من “آشدي” و”شقاقي” بأعمالِ قطع الطريق”. ويضيفُ في سياق حديثه عن بلاد الكُرد: “أمّا عرض كُردستان فليس يقدّر طولها. يحدّها من الشرق حدود العجم، ومن حرير وأردلان وحتى بلاد الشام وحلب”. (د. علي صالح ميراني، كُردستانيّة الجزيرة العليا، ص 16، دار نشر (دار)- قامشلو 2017).

وفي رحلته سنة 1748م، يصف الرحالةُ الفرنسيّ جان أوتر منطقة الجزيرة بالتالي: “يتّصف سهل الجزيرة بثروته الزراعيّة وبمراعيه وبمياهه الغزيرة بوصفه مكان سكن العديد من العشائر الكُرديّة الرحالة وشبه الحضريّة”. ويحدّد حدود بلاد الكُرد: “حدود ديار بكر في الجنوب هي الرقة والموصل”. (المصدر السابق- ص17)

أثناء قدومِه من بغداد والموصل في طريقه إلى ديار بكر وحلب، عام 1764م، يذكر الألماني كارستن نيبور، أسماء خمس عشائر كُرديّة صادفها في رحلته ، وهي: دقوري، كيكي، جاجان، مللي، شيتية، مع اسم قبيلة عربيّة هي قبيلة طي. (المصدر السابق، ص17)

أما الرحالة الفرنسي، غيوم أنطوان أوليفيه (1756-1814)، فيقول في رحلته التي شملت كُردستان وبلاد فارس والدولة العثمانية خلال الأعوام (1792-1798): “بالنسبة لماردين فهي منطقة سهلية تبدأ من أسفل جودي وتمتدّ باتجاه الغرب والجنوب الى أن تصل إلى الصحاري الصغيرة، وفي الشمال هذه المنطقة مسكونة من قبل الكُرد المسلمين واليزيدية والنسطوريين، وفي الجنوب بالقرب من صحراء صغيرة كان يسكنها العرب الرحل”. (المصدر السابق، ص22)

ووثّق رحّالة آخرون أثناء مرورهم بالجزيرة الكُردستانية العليا، طرق عيش سكّان المنطقة والعشائر الّتي كانت تسكن فيها، والموارد الاقتصاديّة الموجودة. وعلى أساس ذلك، فإنّ منطقة الجزيرة العليا كانت بين القرن الرابع عشر والقرن التاسع عشر الميلاديّ، منطقة مأهولة بالسكّان، ومحلّ إقامة عدد من العشائر الكُردية ، وهو عكس ما يحاول الدكتور كمال اللبواني نفي الوجود الكُردي فيها.

يكمل الدكتور كمال اللبواني حديثه بالقول: “سوريا الطبيعية هي بلاد الشام التي عاشت مرحلة طويلة في ظلّ حكم سلطاني، تتمثّل في الخلافة الإسلامية الأموية والعباسية ثم العثمانية، ومرّت بمرحلة من السلطنات الصغيرة، لكن أيّاً منها لم تكن كُردية عبّرت عن نفسها بهذه الهوية، لم تتشكّل سوريا من دول متعدّدة اتّحدت مع بعضها، بل كانت جزءاً اقتُطع من دولة السلطنة العثمانية، والحديث عن سوريا فيدرالية يفترض وجود دول سابقة اتّحدت، وهذا غير موجود، النظام الفيدرالي يعبّر عن وحدة دولٍ، ويحفظ حقّ الانفصال، فهو كعقد الزواج الذي يمكن فصله”.

طالما أنّ الدكتور كمال اللبواني حدّد الفترة الإسلاميّة الأمويّة والعباسيّة ثم العثمانيّة في معرض حديثه عن تاريخ المنطقة، فإنّنا لسنا بحاجة ذكر الأمبراطوريّة الميتانيّة والإمبراطوريّات الكُرديّة القديمة التي حكمت المنطقة، وسنكتفي بالحديث عن تلك الحقبة.

هاجمت القوّات العربيّة الإسلاميّة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، إقليم الجزيرة، فدخل المسلمون نصيبين، حران، رها، سروج، رأس العين، آمد، ميافارقين، طور عابدين، ماردين وبدليس وبذلك تمّ الاستيلاء على جُلّ المناطق الكُردية ، في إقليم الجزيرة وفي أرمينيا أيضاً. (ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الجزري الشيباني، الكامل في التاريخ، تاريخ ابن الأثير، بيت الأفكار الدولية، ص 355- 366 بدون تاريخ).

وفي العصر العبّاسي الثاني والثالث، كانت الجزيرة العليا تحت سلطة الدولة المروانيّة الكُردية ، وكانت سري كانيي أكبر تجمع سكاني في منطقة الجزيرة الحالية، ويذكر المؤرخ الفارقي المنابع المائية في المدينة والتي تمّ استخدامها لمدّ عاصمة الدولة الكُردية بالمياه. (الفارقي، أحمد بن يوسف بن علي بن الأزرق، تاريخ الفارقي، ص 107- 108 الطبعة الثانية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1974)

كان قادة وأمراء منطقة الجزيرة العليا في تلك الحقب التاريخيّة من الكُرد ، وحديث اللبواني عن الهوية الكُردية ليس إلاّ جهلاً بالمسائل الهوياتية في عصرٍ لم يكن عصراً للقوميات، بدليل التحالف الملّي الذي حكم منطقة الجزيرة لقرون في الفترة العثمانيّة وبالرغم أنّه كان بقيادة الكُرد إلا أنّه كان حلفاً عابراً للعصبيات القومية والدينية وضمّ الكُرد و العرب والأرمن. (شيار عيسى، موسوعة الكُرد والديمقراطيّة خلال ألف وخمسمائة عامٍ، سلسلة غير منشورة).

أمّا الجانب الآخر من حديثه، والذي يتحدّث فيه عن النظام الفيدراليّ، فالنظريّة التي تقول أنّ الحديث عن سوريا فيدراليّة يفترض وجود دولٍ سابقة، وأنّ النظام الفيدرالي يعبّّر عن وحدة دولٍ ، فهي نظرية اخترعها اللبواني ولا تحتاج حتّى تعليقاً.

يقول الدكتور كمال اللبواني أيضاً: “معظم الكُرد الذين عاشوا في سوريا تلك الفترة، سكنوا المدن السورية، ولم يحتفظوا بلغتهم بل اندمجوا بالسكان، معظم كُرد الجزيرة قد سكنوها بعد الانتداب الفرنسي، قسم كبير منهم بعد اضطهاد نظام أتاتورك لهم في هضبة أرمينيا والأناضول، وكذلك الآشور والسريان، وقد قام الفرنسي بإقطاع عائلات كُردية وسريانية مهاجرة، وكذلك قبائل عربية من البدو، لتسكن وتستوطن في تلك المنطقة التي كانت ما تزال مهجورة نظراً لقلّة عدد السكان”.

ظلّ الاعتقاد السائد لدى عامّة السوريين أنّ الكُرد سكنوا الجزيرة العليا نتيجة الهجرات الكُردية التي حدثت نتيجة الثورات الكُردية في كُردستان _تركيا، وأنّ سكّان المنطقة كانوا عرباً، وكانت المنطقة قبل ذلك غير مأهولة بالسكان، ويعتبر هذا الحديث وجهة نظر الكثير من الأطراف السوريّة، المعارضة والمؤيّدة للنظام السوريّ.

يقول المستشرق الفرنسيّ، بيير روندو، في كتابه أكراد سوريا: “وعلى النقيض من الفكرة الشائعة، فإنّ الجزيرة العليا السوريّة قد سُكِنت واكتُشِفت من قبل عناصر كُردية هامّة منذ زمن سابق، ولم تستخدم كملجأ للمهاجرين الكُرد في زمن الانتداب الفرنسيّ”. (د. علي صالح ميراني، كُردستانيّة الجزيرة العليا، ص 26 دار نشر (دار)- قامشلو 2017).

ويشير الباحث السوريّ، أحمد وصفي زكريا، في كتابه جولة أثرية في بعض البلاد الشامية: “الأكراد يكثر وجودهم في شمال بلاد الشام على مقربة من الحدود التركية الحالية في حرّة اللجة شمالي العمق وفي أقضية إعزاز والباب وجرابلس والأقضية التي في الشمال الشرقي من لواء الجزيرة الفراتية. وكل هؤلاء أكراد أقحاح لم تصل إليهم العربية بشيء”. (أحمد وصفي زكريا، جوة أثريّة في بعض البلاد الشاميّة، ص 321 دمشق 1934).

فيما ينقل صبحي عبد الرحمن في كتابه، كاليفورنيا الشرق الجزيرة، شهادة الشخصيّة الجاجانيّة عزت سليم بك، وهو من مواليد عام 1905، أنّ المسافة بين ماردين ودير الزور كانت تقطع على البعير والفرس والحمير، ولم يكن إذ ذاك بين ماردين ودير الزور إلا بضع قرى للكُرد في أطراف عامودا ونصيبين والدرباسية وقليل من الأعراب الشوايا المبعثرين على ضفاف الخابور جنوب الحسكة وضفاف الفرات. (د. علي صالح ميراني، كُردستانيّة الجزيرة العليا، ص 26 دار نشر (دار)- قامشلو 2017).

ويؤكّد الباحث الألماني المعاصر، شتيفان فينتر، ما قاله الآخرون، إذ يقول: “كانت الأراضي العليا على طول الحدود الشمالية السورية التركية _والتي تشكّل منطقة انتقال من الصحراء العربية إلى منطقة جبال طوروس_ وما زالت حتى اليوم ذات كثافة سكانية كُردية ”. (د. علي صالح ميراني، كُردستانيّة الجزيرة العليا، ص 29 دار نشر (دار)- قامشلو 2017).

على كلّ حالٍ فمجرّد الحديث عن هجرات كُردية من تركيا لسوريا، دون الخوض في تفاصيل صحتها تعتبر مغالطة تاريخيّة فقد كانت المنطقة إبّان تشكيل الدولة السوريّة وفي فترة الثورات الكُردية التي يتحدّث اللبواني عن الهجرات الكُردية بعدها على أعتاب مرحلة جديدةٍ من التقسيم، لم تكن ملامحها قد تبلورت بشكلٍ نهائي بعد، ولم تكن القيادات الكُردية تتعامل مع الواقع الجديد من منظور اليوم، فالعشائر الكُردية كانت متواجدة على طرفي الحدود بين سوريا وتركيا، فاستقرّت عشائر الملّان في سري كانيي، مثلاً، وهي كانت بالأصل منطقة نفوذ للملان، وبالتالي لم يكن تحوّل سري كانيي إلى مركز لهم حالة لجوء من دولة لأخرى، وفقاً لظروف ومنطق تلك الفترة. (شيار عيسى، موسوعة الكُرد والديمقراطيّة خلال ألف وخمسمائة عام، سلسلة غير منشورة).

ويضيف الدكتور كمال اللبواني في حديثه: “لا يستطيع أحد ادّعاء حقّ تاريخي في أرض الجزيرة، التي لم تكن مسكونة لمدّة أربعة قرون على الأقلّ، والحديث عن شعب يعيش تاريخياً على أرضه غير دقيق، بما يخصّ منطقة شرق الفرات، مع أنّ الشعب الكُردي يعيش تاريخياً في أربع دول هي تركيا والعراق وإيران وسوريا، وقد تنقّل وهاجر كغيره من شعوب المنطقة التي تتصف بالبداوة إلى جانب المدن الحضرية”.

ويُضاف هذا الحديث إلى جملة مغالطاته المستمرّة في مقالته المنشورة، والتي تحاول في مضمونها نفي الوجود الكُردي في سوريا، واعتبار الكُرد وافدين إلى سوريا بفعل الهجرات الّتي صارت نتيجة النزاعات والصراعات في أماكن ثانية.

والحال أنّ منطقة الجزيرة العليا الكُردية ، فيها عشرات القرى والشواهد التاريخيّة الّتي تثبت أنّ المنطقة كان يسكن فيها سكان كُرد عبر التاريخ، وأنّ الوجود الكُرديّ كان فيها مستمرّاً، رغم أنّ المنطقة مرّت تحت سلطة إمبراطوريات ومماليك وحكومات متعدّدة. ويملكُ السكّان المحليون الكُرد وثائق تاريخيّة وشواهد لقبور أجدادهم التي تثبت وجودهم في المنطقة لمدّة أربعة قرون على الأقلّ، حسبما ينفي اللبواني.

على سبيل المثال، يقيم في منطقة الجزيرة العليا، عشيرة شيخان الكُردية ، وتسكن قرب قامشلو/القامشلي، ولها عشر قرى. سكنَ الشيخان المنطقة منذ مئات السنين، حتى بروز الشيخ جبر، الذي دفن أعلى تلة قرب قرية تل شعير شيخان، وما زال مرقده موجوداً ويزوره آلاف الناس سنويّاً. (شيار عيسى، موسوعة الكُرد والديمقراطيّة خلال ألف وخمسمائة عام، سلسلة غير منشورة).

وعلى أعلى قمّة تل موزان الأثريّة في ريف مدينة عامودا، ثمّة ضريح لـ”تمي مجدل بك بن خضر آغا الملّي”، والمتوفّي سنة 1810م. وكان خضر آغا الملّي وابنه إسماعيل آغا، قدّ أسّسوا في منتصف القرن السادس عشر، شبه كيان كُرديّ في بريّة ماردين، بدءاً من منحدر ماردين الجنوبيّ ولغاية السهول الواقعة بين جبل عبد العزيز وجبل شنكال، واتّفق وقتئذ مع قبيلة الطي على رسم الحدود، وكان نهر خابور في مجراه الجنوبي، جنوب مدينة الحسكة هو الحدّ الفاصل بين مناطق الطي ومناطق الجزيرة العليا حتى عامودا وما بعدهابما فيها جبل كوك. (د. علي صالح ميراني، كُردستانيّة الجزيرة العليا، ص 31 دار نشر (دار)- قامشلو 2017).

ويبدو جليّاً أنّ الدكتور كمال اللبواني، لم يتقصَّ ما كتبه وغير عالم بجغرافية وديموغرافية الجزيرة العليا، ونفى وجود الكُرد في سوريا، بقصدٍ أو عن غير قصدٍ، ولا يَخلق هذا الخطاب حواراً جادّاً حول سوريا ومستقبلها وشكلها السياسيّ والجغرافي والإداريّ، على العكس من ذلك، فإنّه يصعِّد من خطاب الكراهية والخطاب الإقصائي بين السوريين، وليس هذا الخطاب سوى توضح مدى تأثير ما حاول النظام السوريّ تكريسه من خلال خطابه نحو الكُرد في سوريا وما نفّذه من تغييرٍ ديموغرافي، وما تُكمله فصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا والإخوان المسلمين في عمليات التغيير الديموغرافي الممنهجة التي تستهدف الوجود الكُردي في كُردستان_سوريا، منذ تشكيل الدولة السورية.

ليفانت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى