صخرة بيهستون المعنى والدلالة
وليد حاج عبد القادر\دبي
1 من 2
مثلما لعب اكتشاف حجر الرشيد ،في مصر الفرعونية ، دوراً محورياً هاماً في حلّ لغز الكتابة الهيروغليفية ، هكذا كان لاكتشاف صخرة بهيستون، والكتابة المنحوتة عليها، دور مفصلي وحاسم في اكتشاف الكتابة المسمارية ، هذه الكتابة – النقش والتي اكتشفت في موقع بجبل بيهستون – بيستون في كرمنشاه بكُردستان إيران ، حيث قام الملك دارا الأول بتوثيق نقشٍ حجري لمرحلةٍ ابتدأت من بداية تتويجه ملكاً على إمبراطورية فارس صيف 522 ق . م ووفاته خريف 468 ق . م ، هذا النقش الذي وفّر فيه داريوس سلسلةً طويلة من الأحداث التي أعقبت مقتل قورش العظيم وقمبيز الثاني الذي خاض تسع عشرة معركةً خلال سنةٍ واحدة ( المنتهية في ديسمبر 521 ق م ) حيث أخمد حركات تمرّد عديدة في أرجاء الإمبراطورية الفارسية . منها سرد لتفاصيل شملت وصفاً لحالات التمرد تلك التي أسفرت عن مقتل كورش الكبير وابنه قمبيز الثاني . وفي عودةٍ إلى النقش ومواصفاته يُلاحظ بأنها دوّنت بثلاث لغات مختلفة وبكتابةٍ مسمارية وهي : الفارسية القديمة ، اللغة العيلامية ، واللغة البابلية ( شكّل في وقت لاحق من الأكدية ) ، وعدّت هذه الصياغات كالوثيقة الأهمّ في فكّ رموز نظم الكتابة النصية المسمارية التي فقدت سابقاً ، والذي أصبح مفتاح اكتشاف لغز الكتابة المسمارية ، وجاء ذلك في بحثٍ مطوّل بعنوان : السيارة الملعونة .. مجلة الرسالة .. العدد 81 حجر بيهستون مفتاح الكتابة المسمارية ، الأستاذ كوركيس حنا عواد . وعلى الرغم من وجود ملاحظات كثيرة على هذا المبحث إلا أنه ذكر كثيراً من المواصفات أرفقها بالمعطيات والمطابقات ومن ثم آليات الدراسات المقارنة ، وهذا الصخر عُرف قديماً باسم جبل باغستان البالغ ارتفاعه 3800 قدم. وقد أطلقت هذه التسمية على هذا الأثر نظراً لوجود تلك القرية الصغيرة المسماة بهستون عند أسفل الصخر، وأصبحت هذه التسمية هي المتعارفة بين علماء الآثار والتاريخ من الأجانب ، وقد استعار السيد هنري رولنصن هذه التسمية من ياقوت الحموي الذي أتى في معجمه الجغرافي على ذكر هذه القرية وينبوعها فقال : ( قرية بين همذان وحُلوان. . . وجبل بهستون عال مرتفع ممتنع لا يرتقى إلى ذُروته. . . ووجهه من أعلاه إلى أسفله أملس كأنه منحوت، ومقدار قامات كثيرة من الأرض قد نحت وجهه ومُلس، فزعم بعض الناس أنّ بعض الأكاسرة أراد أن يتخذ حول هذا الجبل موضع سوقٍ ليدلّ به على عزته وسلطانه، وعلى ظهر الجبل بقرب الطريق مكان يشبه الغار وفيه عين ماء جارٍ. . . ) . وهنا علينا التنويه إلى آراء تقول بأنّ تيودرس الصقلي المؤرّخ قد سبق ياقوت الحموي في ذلك .
وفي العودة إلى الطريقة التي شذب فيه اللوح/ الصخرة وبراعة التنسيق والاستقامة والموقع الذي اخنير بجانب نبع مائي كطريقٍ تعبره القوافل ، وكذلك معظم الجيوش التي كانت تعبر من أرض الفرس إلى شمالي بابل ، وعليه فقد عَدّت تلك الجدارية شبه مقدسة لوجودها كما يقول ديودوروس عند ( هذا النبع المتفجر ) من ناحية ، وكذلك الشكل الهندسي المتقن فتبدو الصخرة أشبه بلوحٌ مستقيم . وقد زخرفت و نحتت بصور ولوحات تجسّد مشاهد مختلفة، إن للبطولات المنجزة أو حالات خذلان الأعداء . و ( .. يبلغ طول واجهة المنحوتات نحو 10 أقدام وعرضها 18 قدماً ؛ أما ارتفاع شكل داريوش فخمسة أقدام وثماني عقد، وارتفاع كلّ سجين ثلاثة أقدام وعشر عقد، أما ارتفاع أورامزدا من أعلى رأسه إلى منتهى أشعته فثلاثة أقدام وتسع عقد، وارتفاع كلٍّ من تابعيه أربعة أقدام وعشر عقد، ومنتهى عرضه أربعة أقدام وعقدتين ) .
وفي تفاصيل لوحة المنحوتات يُلاحظ هناك كتابات رئيسة، وهي في بالغ الأهمية، ومؤلفة من خمسة اعمدة / حقول لغوية متجاورة يبلغ ارتفاع كلّ واحدة منها حوالي 12 قدماً وبعرض 6 أقدام ، أما عدد أسطرها فتشتمل على الترتيب ( 96 + 98 + 92 + 92 + 36 والمجوع 414 سطراً ) ً. وهي باللغة الفارسية القديمة ( والأصح الكردية الصورانية – مني وليد – ) ، لكنها مكتوبة بالأحرف المسمارية الجديدة المتألفة من 39 حرفاً ، والتي ابتكرها الفرس . وقد دُوّن على هذه الأعمدة نسب داريوش وغزواته وانتصاراته على جميع أعدائه وإخماده الثورات المتعددة التي أعقبت تتويجه، واقتحامه شعوباً متعددة، وغيرها من الأعمال التي قام بها خلال حكمه ، وعن يسار الكتابة الفارسية هناك ثلاثة أعمدة أخرى وضعت باللغة السوسيانية وكُتبت بالأحرف المسمارية السوسيانية (العيلامية)، وهي تشتمل على ترجمة الأعمدة الأربعة الأولى من النص الفارسي. وعدد أسطرها هو على الترتيب 81 + 85 + 94 + 3 ( ملحق ) والمجموع 263 سطراً. وتتراوح أبعادها ما بين 10 – 11 قدماً طولاً و 7 أقدام عرضاً ..)
( وهناك على يسار المنحوتات واجهتان أخريان من الصخر عليهما كتابة باللغة البابلية، وكُتبت بالأحرف المسمارية البابلية المتألفة من بضع مئات . . وتبلغ أسطرهما معاً نحو 112، ويتراوح ارتفاعهما بين 10 – 14 قدماً ؛ أما عرضهما معاً فبين 11 – 15 قدماً ، ويوجد على يمين المنحوتات أربعة أعمدة تكميلية بالخط المسماري ، وربما تتعلّق هذه الأعمدة التكميلية بالحوادث المسرودة على العمود الخامس من النص الفارسي) .
إلا أنّ العوامل الجوية قد أثرت في هذه التكملة تأثيراً سيئا ً، فأصابها ألوان من الخدش والمحو ، حتى أنّ أمر قراءتها أصبح متعذّراً في الوقت الحاضر، ، إلا بعض كلماتٍ من العمود الأول المكتوب باللغة السوسيانية . وقد ضاعت معالم وحتى عدد أسطر هذا القسم وإن كانت مجموع الكتابات المقروءة تبلغ 800 سطر تقريباً ، ويلاحظ على لوحة المنحوتات كتابة فقرات صغيرة تبيّن أسماء تسعة متمردين ، ويبلغ مجموع هذه الفقرات 32 فقرة ، منها 11 بالفارسية و12 بالسوسيانية و 9 بالبابلية . وفي العودة إلى أقدم مصدر تاريخي ذكر فيه. حجر بهستون فهو – تاريخ ديودورس الصقلي – الذي نشأ في القرن الأول الميلادي فذهب إلى أنّ هذه المنحوتات قد أحدثتها ( الملكة سميراميس ) لتكون في طريقها ما بين بابل وأكبتانا. وحسبما يرتأي هذا المؤرخ ، أنّ هذه الملكة العظيمة قد ضربت معسكرها عند الينبوع الواقع في أسفل الصخر ، وقد غرست بستاناً هناك . . . أما وصفه للمنحوتات فهي غير دقيقة ، إذ زعم أن الشكل الذي لداريوش إنما هو لسميراميس ، وذهب إلى أنّ الاثني عشر رجلاً المحيطين بالملك هم في الواقع مائة من حَمَلة الرماح ، شخصوا حول ملكتهم !! . وبخصوص الكتابة فقد أوعز حروفهاإلى السريانية ، وأضاف بأنّ سميراميس تمكّنت من الصعود إلى أعلى الصخر بتكديس أحمال وسروج حيواناتها شيئاً فوق شيء. إلا أنّ هذه الآراء بعيدة كلّ البعد عن الحقيقة وعارية عن الصحة ككلّ ما يُنسب إلى هذه الملكة الوهمية . وذكر ديودورس في موضع آخر من كتابه أنّ الاسكندر الكبير زار هذا الصخر في سيره من سوسا إلى أكبتانا … ) . وقد ذكر كثير من الجغرافيين وإلرحّالة العرب كابن حوقل والأصطخري ( في القرن العاشر الميلادي ) وياقوت الحموي ( في القرن الثالث عشر ) هذه المنحوتات والكتابات التي نُقشت في بهيستون ، ولكن على ما يبدو أنّ أحداً منهم لم يهتمّ بأمر هذه الكتابات والمنحوتات ، ولا الحروف التي كُتبت بها . ومن أقدم السيّاح الأوربيين الذين زاروا بهستون في العصور المتأخرة ( كان التاجر أمبرجيو بمبو ( 1652 – 1705 ) وهو إيطالي من أهالي البندقية رحل إلى بلاد الفرس خلال الربع الأخير من القرن السابع عشر، وأعطانا – بالنسبة إلى حالة زمنه – وصفاً دقيقاً لهذه المنحوتات ، وبعد ستين سنة تابعه في هذا المضمار المستشرق السويدي أوتر (1707 – 1748) الذي ساح في بلاد الفرس وفحص المنحوتات، وكانت ملاحظاته عنها قليلة الخطورة ، وقد اعتبر شكل الإله أورامزدا ( نذيراً للخير ) وبعد انقضاء ستين سنة أخرى ( زار أولفيير ( 1756 – 1814 ) العالم الطبيعي الفرنسي بلاد الفرس، وفحص المنحوتات في بهشتون ، ورسم لها صورة طبعها بعد ذلك في كتاب رحلته . أما هذه الصورة فخاطئة جداً؛ لأنها تمثّل داريوش جالساً على عرش، ورجلاه مستندتان على كرسي صغير؛ كما أنّ استنساخه لبقية أشكال المنحوتات ليس صحيحاً أبداً ) . ومن الغريب أننا نجد هوك في كتابه 1818 يطرح جانباً أحاديث ( بمبو ) وآراءه التي يُركن إليها ويوثق بصحتها إلى درجة غير قليلة ، ويعوّل بالدرجة الرئيسية على ما أتي به أو ليغيّر من المعلومات التي لا تتفق مع الحقيقة دائماً . ) . ( ولم تتوقّف التأويلات عن الصخر حيث وصفها من جديد جاردان ( 1765 – 1822 ) والذي توقّع بأنّ اورامزدا وأشعته النورية إنما هو صليبى، وزعم أنّ الأشكال التي تحته تمثّل الاثني عشر رسولاً ! . . . ) . وبعد عدة سنين قلائل ، ( قام كينير ( 1782 – 1830 ) بعدة رحلات إلى بلاد فارس ، وكان أول مَن خمن بأنّ المنحوتات في بهشتون تعود إلى ذات العصر الذي نشأت فيه آثار برسبوليس . ووافقه في الرأي كبل ( 1799 – 1891 ) الذي أسهب في وصف هذه المنحوتات في كتاب رحلته . وفي عام 1822 طبع بورتر أبحاثاً قيّمة عن رحلاته التي قام بها في جورجيا وفارس وأرمينيا وبابل خلال 1817 – 1820، وإليه نحن مدينون بوصف مسهب لمنحوتات بهشتون. وفي هذا الكتاب رسوم للمنحوتات .. تُعتبر من أحسن ما رُسم لهذا الأثر حتى صدور الكتاب . وقد لاحظ عموماً قدم هذه المنحوتات الغابرة ، ولكنه لم يفهم مآلها ، فقد ذهب إلى أنّ هذه المنحوتات البارزة الشهيرة إنما عملها شلمناصر ( ملك أشور وميديا ) ليخلد بها اكتساحه لبني إسرائيل . وزعم أنّ الأسرى الواقفين أمام داريوش إنما هم من الأسباط العشرة ، واعتبر أنّ شكل داريوش لشلمناصر ، إلى غير ذلك من التعليلات التي نستغربها الآن . . ومع هذا فإنها تطلعنا على وضع علم الآثار في ذلك العصر وتدلّنا وبشكلٍ واضح على فهم الناس لبقايا السلف
…….
* يتبع في القسم الثاني
هوامش :
* غالبية المعلومات وخاصة الموضوعة ضمن قوسين هي من دراسة لكوركيس حنا عواد – الموصل في بحث مطول بعنوان : السيارة الملعونة .. مجلة الرسالة .. العدد 81 حجر بيهستون مفتاح الكتابة المسمارية .
المقال منشور في جريدة “يكيتي” العدد 304