آراء

غرباء

ليلى قمر
/ديرك/
البياض الذي امتزج مع آسقف البيوتات الطينية منها والآسمنتية
وكذا الشوارع المهلهلة ابتهاجاً ماغاب عنه دخان المدافىء المزغردة بين آرتال نضة من الآشجار
المتثاقلة أغصانها و نترات الثلج الغامرة لآحياء البلدة مما جعل الهمم تهب لمعانقة سكون البرد دون تردد
كانت لحظات الصباح الإولى تحضر وحضرت معها همم الآحياء وحيوات المكان تنتفض من سباتها الخانق
وكآن آرقام الساعات تخطّت عقاربها وبات الصباح مهرولاً نحو الظهيرة و
الناس يلعبون بالثلج الجميل
لم تكن الأجساد آبهة بسطوة الطبيعة
الفرح اكتسى النفوس المرحة وكأن البرودة دفء وأمان شعر به أحمد وأخاه محمد لينطلقا معًا معانقين بجسديهما الهزيلين عبق الثلج
كانا يلعبان حالهما حال الأطفال حولهما
هي
كانت تراقبهم وخطاهم المترددة وعيناها تلتقط أنفاسهما الخائفة ربما لأنها كانت على دراية بما هما فيه
إنهما ليسا كباقي الأطفال فهما بلا أم
نعم ولسماحة القدر كان الأخ الكبير محتضناً لأخيه الصغير محاولاً ربما سدّ رمقه المتعطش لحنان مفقود ليكون السند والحامي له
فكان كالرادار المتأهب دائماً لحمايته
وكحالة معتادة
كان يحميه من ضربات الثلج العشوائية
فآخذ بيد أخيه في زاوية بعيدة عن لهو الكبار ليهيىء له من الثلج وسخائه تمثالاً جميلا ً
وبالفعل هيّأ الثلج وبأنفاس خجلة تعبة كور الثلج وجعل يعمل منه ما يعرفه ليكون رجل الثلج قائماً امام ناظر أخيه الصغير
كان يتأمّل الأمهات وهنّ يحمين آطفالهن وكان الشرود القاتل يأخذه إلى مكان بعيد بعيد حيث همسات متبقية من أمهما
كانت تلك الهمسات تنطق في أذنيه الباردتين ويداه المرتعشة تتسابق مع دموعه المتحجرة في عين لم ترى من دنياها سوى القهر والألم
كان يسهب في تواريه خلف لهفته على أخيه بالذكريات الهاربة من سرداب روحه المشتاقة ليديها الحانية كانت عليهما
إنها الأم نعم ربما كانت تشعر وهي في مرقدها الإجباري أنّ روحهما الهزيلة الضعيفة
أمام طوفان البرد المتكبر على عري أجساد غير آهلة بالعيش وسطه وهما ليس لهما سوى الإنتظار انتظار أيام قد تكون جميلة لكن الآن هما يلهوان رغم كل الآلام التي تثقل روحيهما وكذا ذاكرتهما وها هما والأولاد
حولهما متلحفين بالصوف والقفازات والطواقي الثقيلة
لكنهما كانا على نقيض ذلك شبه عاريين اكتظّت الدنيا بالثياب الفارهة الناعمة وسط غضب الطبيعة وهما لاحول ولاقوة سوى ذلك اللعب الغير ثمين بأدوات بسيطة أو بالأحرى من نزيف روحيهما
لكن السعادة الفقيرة لاتدوم
على المهمشين في الحياة
جاء نكير صوتها كالسيف القاتل على رقابهما الهزيلة
حضرت تلك المرأة التي لم توفر لحظة نكرة في تعذيبهما طوال سنين ظلّت تتجبّر على جسدين لم يختارا أن تآخذ الأقدار منهما آما لم تسنح لها آيامها في مداراة طفليها ورعايتهما لتكون نزيلة في قبر حتى هما لا يعلمان مكانه
حضرت التي لا تتحكّم بجحود قلبها وتتحوّل إلى رعب قاتل بمجرد لمحها لهما
وما آن اقتربت كانت يداها كصعقات الكهرباء المجنونة تنهال عليهما ويداها العابثة بهما كيفما شاء لها ذلك وكيفما شاءت
وكان ذلك مشهداً معتاداً لكل قاطني الحي فموروث السعادة لا يمنح للبشر
اعتباطاً إنما هي الجينات المتوارثة أزلاًذ في الأرواح التواقة للتسلط
لتتهيّأ الأقدار ولتظل
الآيام ثقيلة متعبة
عبثاً كانا يحاولان مواءمة اللحظات
فهي ترجع بالهوينى إلى ما وراء الذكرى وما كان من وجود أم حانية عليهما لذا كان الشرود والركون على متن التمني زادهما الدائم المتراص مع كينونة ما تنتعش به الأنفاس التعبة وهي قد تأهرمت من ثقل الواقع المكتظ بويلات البشر وبشاعة القدر
وكأنّ همسات الصدور تخترق الضلوع وتجتاز موانىء السعداء
ليبقى الأخان ساهمين عبثاً يحاولان مواءمة المحيط حولهما ولسان حالهما ينطق كم كان الحلم جميلاً
لو ظلّ محتفظاً بنبض وجدانيته الحية ولكانت
الحياة لتكون أروع من التمنيات إن هدآت عواصف المتغيرات وشرعت لتعانق و أوتاد مراكبها في عمق الصدق الموعود ضمن سريالية البؤس
فكأنّ الحبل السري بين الأخوين وأمهما الراحلة ما فقد تواصله وما انقطع و عيناهما التعبة تراقب نبض ذاك التواصل ليكون غذاء الرمق في جوفهما الجائع الفاقد أصلاً لموائد الحنان
فأين هي التي كانت حانية عليهما وما ثناها عن رعايتهما سوى الموت
ليكونا كالطريدة المكبلة عرضة للإنتهاك
وعار الأنسانية يلاحق شبح الضمير الغائب عن الهائمين في فضاء الإستبداد والظلم
كم من الكلمات تحجّرت وكذا الصرخة الموجعة في روحيهما
حيث لا يقين يعلو فوق يقين
الصمت
نعم الصمت سريالية البؤساء المجبرين على الركوع تحت حكم الطاغيات من نوافل الأقدار
وكذا الباقيات رواسيها في صلد الأفئدة المغادرة ل ألوان الحياة.
وبعد أن هشمت ماتبقّى منهما من قوة هزيلة في الجسد أمرتهما للرجوع إلى البيت
أي امرأة هذه التي استطاعت اختراق جدار الصوت في ظل سكون البياض وجليده بصوتها وضربها المبرح على يتيمين ما اختارا أن يكونا تحت رحمتها العقيمة
وبالفعل دخل الأخان إلى سجنهما
حيث التجأ الأخ الكبير للداخل مهرولاً متمسكاً بيد أخيه الصغير علّه
يتمكّن من تفادي طوفان الضربات الموجهة إليهما لكن هيهات عليها أن تفرغ ما تمتلكه من جشع أحمق عليهما لتسمح لهم
أخيراً بأن يخلدا للنوم وسقم الحنين قد تمكّن منهما
وكباقي الليالي شرعا بفؤادهما العليل إلى رسم صورة آمهما على
الجدار المتشقق في غرفتهما الطينية القائمة
على أوتاد هشة وسقف يكاد يهوي عليهم من فقر قوامه
نعم يا أخي ها قد حضرت أمنا وهي تهيىء لنا أسباب العيش
هل تراها أخي قد جهّزت لنا الحمام فكم هو جميل أن تأخذ حماماً بعد كل هذا الشقاء
نعم أخي هل تشعر بالدفء مثلي
آه ما أروع ملمس هذه الثياب
هيا أخي فأمنا قد صنعت لنا مالذّ وطاب من الطعام فهو وقت العشاء
وبالفعل تبلورت صور النهار القاسية
كحطام المرايا على الرخام البلوري
و استدلّ الستار على مشهد آخر
من رواية اليتم
ليكون بذلك قد انطوت صفحة يوم آخر من يوميات العذاب والتي يصعب على الروح قراءتها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى