الكرد و الثورة السورية
فؤاد عليكو
كثيراً ما يتردد على لسان بعض الإخوة العرب مفردات يُشتم منها رائحة الاتهام، من قبيل أن الكرد يمارسون سياسة براغماتية أو (انتهازية) في الثورة السورية، وأن لهم قدماً عند المعارضة وقدماً عند النظام، مستدلين على ذلك بعدم قيام النظام بتدمير مناطقهم أسوة ببقية المناطق السورية التي مارس فيها النظام كل الموبقات العصرية والتاريخية من قتل وتدمير قل مثيله في التاريخ الحديث. ينم هذا الاتهام إما عن جهل بحقيقة مجريات الثورة السورية، أو يأتي بشكل متعمد من أولئك الذين لايزال الفكر العروبي يفعل فعله في لا شعورهم الباطني رغم كل فظائع البعث بحقهم، ويتوجسون من كل كلمة إيجابية تطال الكرد، فالمتابع لمجريات الثورة السورية منذ ما يقارب الأربع سنوات وحتى اليوم يدرك بوضوح أن الثورة مرت بثلاث مراحل أساسية حتى الآن، من الحالة السلمية إلى العسكرة إلى توغل القوى المجموعات المسلحة المتطرفة كداعش وأخواتها ، ولكي لا تبقى الحقيقة غائبة عن الشعب السوري، وكي لا يستمر إطلاق الاتهامات جزافاً بحق الشعب الكردي، سنحاول إيضاح هذه المراحل بشيء من التبسيط، ودور الكرد في كل مرحلة.
في مرحلة سلمية الثورة، خرج الشعب السوري إلى الشارع بشعارات محددة وواضحة، ألا وهي إصلاح مؤسسات الدولة وتخليصها من هيمنة حزب البعث وأجهزته الأمنية، مطالبين بإسقاط النظام الدكتاتوري بكل رموزه ومرتكزاته الأمنية والإتيان بنظام ديمقراطي تعددي يحقق الحرية والكرامة لكل أطياف المجتمع السوري، ولما كان الشعب الكردي تواقاً للحرية وعانى من نظام البعث اسوة بما يعانيه السوريون ككل من استبداد بالإضافة لإنكار حقوقه القومية، وتعرضه لأشد السياسات العنصرية والإقصائية الممنهجة طيلة حكم البعث الذي تجاوز النصف قرن، لذلك لم يكن غريباً أن يكون الكرد من المشاركين الأوائل في التفاعل مع الثورة السورية، والخروج بمظاهرات عارمة في معظم المدن الكردية بعد درعا وبانياس مباشرة، والمشاركة مع الشعب السوري في مدينتي حلب ودمشق وكافة الجامعات السورية، حتى نال اهتمام وتقدير المجتمع السوري ككل، بالإضافة إلى التغطية الإعلامية العربية والدولية المميزة، وقد أطلق على بعض جُمع التظاهرات أسماء كردية، مثل جمعة آزادي وجمعة الوفاء لانتفاضة الكرد 2004. لكن النظام مارس سياسة مغايرة مع الكرد منذ البداية، إذ بينما كان النظام يطلق الرصاص الحي على المتظاهرين في العديد من المدن السورية بدم بارد، كان يمارس سياسة غض النظر مع المظاهرات الكردية مكتفياً باعتقال بعض النشطاء وتعذيبهم وزجهم في السجون بغية ردعهم لا أكثر، منطلقاً من مبدأ تحييد الأقليات والتركيز على إبراز الجانب الطائفي للثورة السورية تحقيقاً لأجنداته الخاصة به، إضافة إلى تقديمه لبعض المغريات للكرد كإنهاء مشكلة المجردين من الجنسية وطلب الحوار مع القوى الكردية للوصول إلى تفاهم حول حل القضية الكردية في سورية. لكن الحركة الكردية كانت واعية لذلك ورفضت الحوار مع النظام منطلقةً من مبدأ أن النظام يحاول إبعادها عن الثورة ودق إسفين الخلاف بينها وبين الشعب السوري الثائر، واستخدامها كوقود لأجنداته الطائفية وتعزيز مكانته باستثناء حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) الذي سلك مساراً مغايراً في الثورة السورية (طريقاً ثالثاً حسب تعبيرهم)، وأعلن صراحةً أنه ليس مع الثورة ولا مع النظام، وترجم ذلك الموقف عملياً من خلال خروجه المتأخر إلى الشارع واختلاف شعاراته وتعبيراته السياسية، فلم يلتزم بأي شيء يخص الثورة السورية لا في أهدافها ولا في شعاراتها ولا في موقفها من النظام، وكان غضُّ نظر النظام عن نشاطه واضحاً لا بل مشجعاً، مما عكس توجه الحركة الكردية التي اتجهت نحو المعارضة وشاركت في كافة مؤتمراتها التمهيدية من أنطاليا حتى تأسيس المجلس الوطني السوري، والذي شارك فيه عدة أحزاب وتنسيقيات شبابية وشخصيات أكاديمية مستقلة، وبعد تأسيس المجلس الوطني الكردي دخل في حوار مع ائتلاف قوى الثورة والمعارضة وتكلل الحوار بانضمام المجلس الكردي إلى الائتلاف ولازال عضواً فعالاً فيه، مساهماً إلى جانب إخوانه من كافة مكونات المجتمع السوري في رسم سياسة الائتلاف. في المرحلة الثانية من الثورة، أي بعد خروج الثورة عن مسارها السلمي المرسوم لها طبيعياً، والتحول تدريجياً نحو العسكرة وبدفع متعمد من النظام، قام المجتمع الدولي بإدارة ظهره أمام الثورة السورية، ووقف موقف المتفرج من تطور الأحداث، واكتفى بمعالجة نتائج الأزمة فقط كموضوع اللاجئين، مما ساهم في دفع الثورة باتجاه العسكرة. حاول الكرد من جانبهم أيضاً تشكيل فصائل عسكرية من الشباب والجنود والضباط المنشقين رغم قلتهم في الجيش، إلا أن قادة الجيش الحر آنذاك أداروا لهم الظهر، ولم يكترثوا لوجودهم، ولم يقدموا لهم الدعم المطلوب من أجل الوقوف على أقدامهم والمساهمة في الثورة عسكرياً، ولأسباب نجهلها حتى اليوم، والأرجح أن ذلك كان نزولاً عند رغبة بعض الدول الإقليمية، ثم اختفت هذه الكتائب تدريجياً عن المشهد العسكري، وبذلك أُفسح المجال واسعاً أمام حزب الاتحاد الديمقراطي لتشكيل قواته العسكرية والسيطرة على المناطق الكردية بعد انسحاب النظام منها لعدم أهميتها الاستراتيجية له، لهذا بقي المجلس الوطني الكردي مفتقراً إلى الذراع العسكري حتى اليوم مكتفياً بالعمل السياسي ضمن إطار الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة.
واليوم وبعد توغل القوى الدينية المتطرفة في الجغرافية السورية وممارستها لأبشع الجرائم بحق الشعب السوري، فاقت النظام في بعض فصولها، مثل جز الرقاب وتعليق الرؤوس على الأعمدة، وقد كان نصيب الكرد كبيراً منها خاصة في تل عرن وقباسين وغيرها من القرى في ريف الباب ومنبج، بالإضافة إلى اجتياحها (الهولاكي) لمنطقة تل أبيض و كوباني وارتكاب المجازر البشعة فيها ونهب ممتلكات المواطنين المدنيين دون أي وازع أخلاقي أو إنساني.
هكذا وفي كل مراحل الثورة السورية كان الكرد يدفعون الضريبة الباهظة أسوة بكافة مكونات الشعب السوري ولايزالون، وهذه ليس منّة لأحد بل ثمناً يجب أن ندفعه جميعاً قرباناً لثورة الحرية والكرامة.
لكن السؤال الأهم هو: هل من الإنصاف بعد كل هذه التضحيات أن يأتي من يقول إن الكرد مارسوا سياسة (انتهازية) في الثورة السورية؟ وأية مكاسب حققها الكرد من وراء آلام الثوار والسوريين حتى الآن غير التشرد والبحث عن لقمة العيش في المجهول؟.