في أسباب إخفاق المعارضة السورية
أكرم البني
ترتفع هذه الأيام موجة من الانتقادات الحادة للمعارضة السياسية السورية، ولكن هذه المرة، من معارضين احتلوا مواقع مهمة في صفوفها، ربما لأنهم فقدوا الأمل بمعالجة ناجعة لأزماتها ومشكلاتها المزمنة، وربما تحت ضغط التراجع المريع لوزنها أمام تقدم منطق العنف والسلاح، وموات التداول بفكرة الحل السياسي، وربما رداً على تنامي حالة من خيبة الأمل، ليس شعبياً فحسب وإنما من قبل أصدقائها في العالم، كثفتها أخيراً عبارة الرئيس أوباما عن «فانتازيا» أو وهم انتصار المعارضة المعتدلة في سورية.
بداية، ترفض بعض الأصوات الناقدة الحديث الدارج الذي يضع كل المسؤولية في ما آلت اليه الأمور على سلبية المجتمع الدولي وإحجامه عن التدخل لوقف العنف المنفلت، وتذهب إلى تحميل الجسم المعارض المسؤولية الأساس حين بالغ في الرهان على العامل الخارجي لإحداث تغيير سريع، متأثراً بما حصل في ليبيا واليمن، ومغيّباً عن قصد أو من دونه، الخصوصية السورية وتعقيداتها… إن تأثرها بحسابات الجوار الاسرائيلي، وإن ارتباط النظام بمحور نفوذ في المنطقة يمده بكل أنواع المساندة والدعم، وإن ما أظهرته النيات الغربية من ميل الى استثمار الصراع السوري كمستنقع لاستنزاف خصومها بدءاً بروسيا، فإيران وحلفائها، إلى المتطرفين الإسلامويين.
المبالغة في الاتكاء على الدور الخارجي دفعت أهم قوى المعارضة الى تمثل مطالبه، أو السير وفق حساباته وتوقيتاته، ليبدو تطور تحالفاتها السياسية كأنه تلبية لإشارات صدرت عن هذا الطرف الغربي أو العربي، كان أوضحها تشكيل «الائتلاف الوطني» الذي فسر كاستجابة لشروط مجموعة «أصدقاء سورية» من أجل تقديم الدعم الضروري للثورة، ومع تقدير الدور الكبير للعوامل الخارجية في بؤر التوتر والأزمات الوطنية، لكن يبدو أن هؤلاء النقاد أغفلوا تأثير هذا الخيار في درجة اهتمام المعارضة بالتطورات الداخلية وبأولوية مواكبة حراك الناس وهمومهم، وهو تأثير خطير في ثورة كالثورة السورية، جاءت مفاجئة وعفوية، وعطشى لقوى سياسية تقودها، ما جعلها عملياً في وادٍ بينما المعاناة الشعبية والنشاطات المسلحة في وادٍ آخر، لتتبلور صورة عن معارضة تفضل القيادة عن بُعد، بدل التواصل والتفاعل المباشر مع الناس ومساعدتهم في تنظيم حياتهم ومواجهة ما يعترضهم من مشقات وصعوبات.
ثمة انتقادات أعادت الأمور إلى المربع الأول، إذ اعتبرت أهم سبب لإخفاق المعارضة هو تخليها عن النهج السلمي واستسلامها المبكر للتحولات التي جرت نحو العسكرة، وحماستها المؤسفة لـ «الانتصارات» التي حققها اللجوء إلى السلاح… الأمر الذي أدى في رأيهم إلى الوقوع في الفخ السلطوي وإخضاع المجتمع لقواعد لعبة يتقنها النظام جيداً ويسعى من خلالها الى سحق الثورة، عبر عزلها عن دوائر التعاطف وتسويغ كل أنواع القهر والتنكيل ضدها في ظل توازن قوى عسكري يميل لمصلحته على نحو كاسح، وأدى أيضاً إلى توفير المناخ المناسب لاستجرار الجماعات الجهادية وتمكينها من احتلال مساحة كبيرة في المشهد السوري. ولكن، أين يصرف اليوم هذا النقد وقد أفضت سطوة القوة العارية إلى تنحية الحقل السياسي وتهميش المجتمع المدني وتدمير الحاضنة الشعبية وخسارة فئات ترفض منطق السلاح ويصعب عليها إشهار تأييدها لثورة لا تستمد شرعيتها من ممارسات سلمية وحضارية تنسجم مع شعارات الحرية والكرامة التي تتبناها؟ أم لعل هذا النقد قد ينفع في معالجة المسار الذي خلّفه منطق العسكرة ودفع المعارضة الى التخلي عن أولوية مطلب وقف العنف، بصفته عتبة الإقلاع نحو التغيير السياسي، واعتماد خطاب تصعيدي بدأ بطلب التدخل العسكري الخارجي، كفرض منطقة حظر جوي أو ممرات آمنة، ووصل إلى الإلحاح على تزويد المعارضة أسلحة نوعية، بما هو عنوان لحرب أهلية مديدة تغذي جحيم الفتك والتدمير!
في السياق ذاته، وجد بعض المنتقدين أن سبب إخفاق المعارضة هو تأخرها في اتخاذ موقف واضح من تنامي الجماعات الاسلاموية المتطرفة، بما في ذلك الاستخفاف بوزنها وتغطية أدوارها الغامضة إلى أن تمكنت في غير مكان من مصادرة روح الثورة وقيمها. وهنا يصح السؤال عن موقف هؤلاء النقاد حين دافع بعض قادة المعارضة وفي شكل صريح عن «جبهة النصرة» بعدما أُدرِجت أميركياً في قائمة الارهاب، أو حين شجّع آخرون نشوء تشكيلات عسكرية تدعو إلى الدولة الإسلامية وتغاضوا عن شعاراتها الدينية وردود الفعل الطائفية لديها بحجة أولوية مواجهة السلطة… أو حين قللت غالبيتهم من أهمية ما أوردته تقارير حقوقية عن انتهاكات وتجاوزات ارتكبها بعض الجماعات المسلحة في أماكن سيطرتها، على أنها لا تشكل نقطة في بحر عنف النظام؟ أوَلَم تفقِد هذه المواقف الجسم المعارض فئات متعاطفة معه، كانت مترددة ومحجِمة بسبب غموض البديل المنشود، وباتت اليوم متخوفة من تمدد سلطة المتطرفين وتكرار تجربة أعتى الديكتاتوريات في الفتك والتنكيل، ولكن هذه المرة على يد الميليشيات الاسلاموية؟
وأخيراً ذهب بعض المعارضين في قراءة أسباب إخفاق العمل المعارض، إلى بنيته التكوينية وإلى حزمة أمراض خلفتها عقود طويلة من جور السلطة وظلمها، ما أعاق ظهور العمل المعارض كقدوة وكمثل يحتذى في السلوك الديموقراطي والمثابرة والتضحية، وأشاع صورة لقادته تضج بخلافاتهم الشخصية وبالتنافس المَرَضي والمؤذي على المناصب، وتفوح منها رائحة الأساليب المتخلفة والمصالح الحزبية الضيقة وظواهر الأنانية والاستئثار وأحياناً الفساد… ما يفسر ربما هذا العجز المزمن عن توحيد الصفوف أو على الأقل ضبط إيقاع خطاب المعارضة وخطواتها السياسية.
يبقى السؤال، هل ما يُثار اليوم على لسان أولئك النقاد المعارضين مجرد محاولة لتبرئة أنفسهم مما وصلت اليه الأمور ووضع اللوم على الآخرين؟ أم هو جهد أصيل لاستخلاص الدروس والعِبَر، وأشبه بمراجعة نقدية جدية غايتها وضع الإصبع على الجرح والتنطح لتحمل المسؤولية والمبادرة لتصحيح ما يمكن تصحيحه قبل فوات الأوان؟