قصة الأميرة الميدية ماندانه (1)
جان كورد
02 October 2014
دام حكم الملك (كه ى خسار Key Aksar – ) للميديين 40 سنة، بعد موته صعد العرش ابنه آستياخ الذي ولدت له زوجته الليدية طفلةً سماها ماندانه. ولا تزال كلمة (كه ي) تعني في الكوردية (المختار أو المصطفى) ومنها جاء اسم (كاوا) كما يبدو.
حلم الملك آستياخ مرةً أن ماءٍ يسيل من طفلته، لا يطغى على عاصمة بلاده آكباتانا فحسب، وإنما على كل البلاد الآسيوية، فارتعد الملك من حلمه ذاك، مما دفعه لسؤال السحرة الذين كانوا ذوي مكانة هامة في الدولة الميدية (768-550 قبل الميلاد) وكانوا خبراء في تفسير الأحلام حسبما يروق لهم ويخدم مصالحهم وسياستهم، ففسروا للملك حلمه بحيث يزداد خوفاً ويتوسل إليهم إيجاد مخرجٍ له، ولذا لم يزوّج ابنته لأي أميرٍ من بني قومه الميدي، وإنما بحث لها عن عريسٍ من بيت فارسي أصيل ومسالم، فوجد قامبيس (Kambyses) الذي لم يكن يعلو في مقامه عن ابن عائلةٍ ميدية متوسطة الحال.
لم يمضِ عام على زواج كامبيس الفارسي من ابنة آستياخ الميدي حتى رأى الملك مرةً أخرى حلماً يتعلّق بابنته: كرمة عنبٍ تنبت من حضن ابنته، بحيث يغطي كل البلدان حول مملكة ميديا. فسأل السحرة ثانيةً عن سر هذا الحلم، فقالوا له بأن عليه جلب ابنته من بلاد فارس ووضعها تحت حراسةٍ مشددة لأن من رحمها سيلد من يدمّر دولته. ففعل ما نصحه به السحرة، فلقد صار شغله الشاغل منذ ذلك الحين أن يقتل الطفل الذي ستلده ابنته ماندانه، ذكراً كان أم أنثى، طالما أن حفيدته أو حفيده سيقضي على مملكته العتيدة. ولما أنجبت ابنته ولدها (كه ي روس) دعا الملك آستياخ وزيره (هاربا خ – Harpagos) الذي كان من أقربائه المقربين إليه ومن حفظة أسراره الملكية، وكان المدير الفعلي للمملكة الميدية بأسرها. وقال له.
“هارباخ! أريد أن اكلّفك بمهمةٍ يجب عليك تنفيذها دون تردد وبكل دراية، وحذارِ من مخالفتي في هذا الأمر، وإلاّ فإنك ستجلب الضرر لنفسك. خذ هذا الوليد الذي أنجبته ابنتي مندانه واحمله إلى بيتك واقتله ثم ادفنه بما تراه مناسباً لحفيد ملكي ودون أن يراك أحد.”
فأجاب الوزير هارباخ: “إنك وجدتني دائماً في موضع السمع والطاعة يا ملكي آستياخ، وهكذا سأظل وفياً ومطيعاً لأوامرك في المستقبل أيضاً. فإذا كانت هذه إرادتك الملكية فليس عليّ سوى تنفيذ ما أمرت به بأمانة وإخلاص.”
وهكذا أخذ الوزير هارباخ الوليد الذي تم تجهيزه بثوب الموت المرصّع بالمجوهرات وحمله وسط الدموع إلى بيته حيث أخبر زوجته بالأمر الملكي الصادر إليه، فسألته زوجته: “وماذا تريد عمله الآن؟” فأجاب بمرارة وحزن: “ما أمره الملك آستياخ لن أنفذّه بأي حالٍ من الأحوال، ومهما غضب علي وثارت ثورته فإنني لن أتصرّف حسب مشيئته ولن أصبح أداة قتلٍ مشين كهذا. ثم إن هنالك أسباباً لا تسمح لي القيام بهذه الجريمة النكراء. أولاً – الطفل البريء هذا من أقربائي، فكيف أقتل قريباً لي؟ وثانياً – لقد أصاب الكبر آستياخ وليس له ولد يخلفه على الحكم، فإذا مات ينتقل الحكم إلى ابنته ماندانه حسب تقاليدنا الميدية العريقة القدم، وهذا الطفل الرضيع هو ولدها. وإذا اكتشفت ماندانه أنني قاتل وليدها فلن ترحمني وعائلتي. فإذا كان لابد من قتله فليقتله أحد أتباع آستياخ وليس أحد أتباعي، فلن ألطّخ يدي بدم طفلٍ بريء ولن أسمح لأحدٍ من أتباعي بارتكاب هذه الجريمة.”
قال الوزيرهارباخ ذلك ثم أرسل خبراً إلى أحد رعاة الملك آستياخ الذين كانوا يخدمون في رعي أبقاره في الهضبات العليا البعيدة، التي لا تخلو من الوحوش الضارية، وكان الراعي الذي يدعى ميتراداد (Mitradates) يعيش مع زوجته التي كانت عبدة من عبيدات الملك آستياخ وتدعى كه ي نو (Keyno) وباليونانية سياكو (Spako) التي تعني “الكلبة”، حيث كان الميديون يعتبرون الكلب حيواناً مقدساً لأنه كان خير حارسٍ لماشيتهم من الذئاب وبيوتهم من اللصوص.
كانت تلك المراعي الجبلية الكثيفة الأشجار تمتد من شمال العاصمة الميدية آكباتانا باتجاه البحر الأسود، حيث يعيش الزازييريين (Zazpîr) أجداد الزازا أو (الظاظا) الذين لهم لهجة كوردية خاصة بهم. وكلمة (بير – Pîr) في الكوردية تعني (الرجل المسن = الشيخ الديني ورئيس العشيرة).
سرعان ما جاء الراعي ميتراداد إلى حضرة الوزيرهارباخ الذي قال له: “يأمرك الملك آستياخ بأخذ هذا الطفل إلى مكانٍ نائي في الجبال، حيث تقتله هناك بسرعة وبدون أن يرى ذلك غيرك. إذا لم تقتله فإنك ستلقى مصيراً قاسياً ومعك زوجتك وأولادك كلهم، إن كان لك أولاد. هذا ما أمرني به الملك، وأنا مسؤول أمامه عن تنفيذ أمره الملكي.”
أخذ الراعي ميتراداد الوليد المجهّز للقتل والدفن، وانطلق به إلى كوخه في الجبال، حيث أن زوجته كانت تحمل بمشيئة الله طفلاً في أحشائها في ذلك الوقت، ولما كان الراعي يسرع الخطى صوب الجبال فقدت زوجته حملها وولدت طفلاً ميتاً لأنها كانت قلقة عليه قلقاً شديداً ومضطربة الذهن بسبب استدعائه من قبل وزير الملك لأوّل مرّة في حياته. فاستقبلت زوجها لدى عودته حزينة ومتألمة، وأخبرته بما جرى لوليدها. وبعد أن أزاح الراعي الغطاء عن الطفل لتراه زوجته، نظرت إليه وقالت له: “يا له من طفلٍ كبير الجسم وقوي!” وسألته عن سبب إحضاره هذا الطفل الرضيع معه، ففص عليها القصة كما حدثت معه، فبكت ورمت بنفسها عند قدمي زوجها متوسلةً إليه أن لا يؤذي الطفل، فقال بأن عدم تنفيذه لأمرٍ ملكي سيعرّض حياته وحياتا إلى الخطر وقد يتم دفنهما أحياءً، فنصحته زوجته بأن يدفن طفلهما الميت في الجبال الموحشة والاهتمام بتربية حفيد الملك آستياخ الذي سيصلح عوناً لهما في الكبر، وأن يعتنيا به كأنه ولدهما، فلا يشك أحد في طاعة الراعي للوزير هارباخ وتنفيذه أمره بالقتل.
فعل الراعي ما طلبت منه زوجته، وسار بجثة طفله الميت في حلته الملكية بعيداً عن منزله، حيث تكثر الوحوش الضارية. وهكذا تم دفن طفل الراعي والراعية في ثياب دفنٍ ملكية وعاش الطفل (كه ي روس) حفيد الملك الميدي آستياخ في بيتٍ من بيوت الرعاة في الجبال، دون أن يعلم أحد بذلك سوى ميتراداد الراعي وزوجته العبدة (كه ي نو) أو (سباكو) كما يسميها المؤرخ اليوناني هيرودوت في أثره التاريخي الشهير.
بعد ثلاثة أيام، ذهب الراعي إلى الوزير هارباخ ليخبره بقتل الطفل ودفنه بثيابٍ تليق بحفيدٍ ملكي، فأرسل الملك معه بعض ثقاته إلى حيث دفن الطفل ليتأكدوا من ذلك. وهكذا بدأـت المرحلة الأولى من حياة
(كه ي روس) الذي سيصبح ملكاً على فارس وميديا فيما بعد.
(لمزيدٍ من التفاصيل: أنظر تاريخ هيرودت – حوالي 484 ق.م – 425 ق.م)
(يتبع)……