كردستان العراق واحة التنوع المشرقي المهدّد
عبدالباسط سيدا
تُعد تجربة إقليم كردستان العراق في ميدان قدرة مختلف المكونات المجتمعية العراقية على العيش المشترك تجربة لافتة، خاصة في منطقتنا التي تعيش واحدة من أسوا مراحلها على صعيد تفكك النسيج الوطني لمجتمعاتها، حتى باتت الولاءات الأهلية من أسرية وعشائرية و»حاراتية»، فضلاً عن القومية والمذهبية والمناطقية، هي الملاذ بالنسبة إلى الكثيرين.
فالأوضاع التي يعيشها اليوم العراق ولبنان وسوريا تجسد تهديدات فعلية وجودية للتنوع المشرقي؛ وذلك نتيجة تبني الأيديولوجيات العابرة للحدود الوطنية، سواء الدينية والمذهبية منها، أم القومية. وهذا ما يجعل الآفاق سوداوية أمام هذه الدول التي تعيش من جهة واقع التوجس المتبادل بين المكونات المتنوعة؛ وهي لا تستطيع من جهة ثانية تجاوز هذا الواقع، لأن نظام سايكس بيكو 1916 ما زال ساري المفعول؛ وما زالت المعادلات الإقليمية والدولية تستوجب المحافظة على الحدود التي كانت على الرغم من الانسدادات التي تحدث هنا وهناك نتيجة الحدود المفروضة، هي الحدود التي رسمت وفق حسابات وأمزجة المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، سيما بريطانيا وفرنسا.
والمصيبة التي منيت بها مجتمعاتنا تمثّلت باستمرار في تلك السلطات العسكرية وشبه العسكرية التي تبنت إيديولوجيات قومية عابرة للحدود، استخدمتها أداة تضليلة لشرعنة سلطاتها، وتسويغ ممارساتها الاستبدادية في الداخل. أما معارضات تلك السلطات فقد كانت غالباً تتوزع بين الشيوعيين الذين كانوا يتطلعون إلى وحدة أممية بقيادة الاتحاد السوفياتي، أو الصين لاحقاً بالنسبة إلى بعضهم؛ في حين أن الإسلاميين كانوا يرون في الخلافة الإسلامية أو الدولة الإسلامية الحل الذي لم يكن يعترف هو الآخر بالحدود المستحدثة. وهكذا بات مجرد التفكير في مشروع الدولة الوطنية من «الهرطقات والبدع» التي كانت تعرّض صاحبها للتخوين من قبل أصحاب الأيديولوجية القومية، وللتكفير من جانب أصحاب الأيديولوجية الإسلامية. أما الأمميون، فقد كانوا يتصرفون مع مجتمعاتهم وكأنهم فئة مصطفاة، يتحدثون مع الناس بوصفهم الناطق الرسمي باسم الاتحاد السوفياتي.
ومع انهيار هذه الإيديولوجيات، وتراجع جاذبياتها على المستوى الداخلي، أصبحت المجتمعات المعنية ساحة مفتوحة أمام المشروع التوسعي الإيراني الذي استغل المظلومية الشيعية في ظل غياب المشاريع الوطنية التي كان من شأنها طمأنة سائر المكونات المجتمعية الوطنية، وسد الطريق أمام التدخلات الخارجية. وقد أسهم المشروع المعني (الإيراني) في تفتيت بنية مجتمعات المنطقة، حتى بات الناس يصنفون بعضهم على الهوية، وبناء على الأحكام المسبقة، واستناداً إلى الأجندات التي لا تؤسس لأي مشروع وطني يكون بالجميع وللجميع.
في هذه الأجواء العاصفة التي تخيم على المنطقة تبدو كردستان العراق، على الرغم من الثغرات والملاحظات الكثيرة، بمثابة الواحة التي تلوذ بها مختلف المكونات المجتمعية العراقية في أوقات الشدة. كما أن المكونات الأخرى التي تعيش أصلاً في منطقة كردستان، تحظى على المستوى الرسمي بحقوقها الأساسية في ميادين التعليم والعمل والنشاط الاقتصادي والاجتماعي؛ هذا إلى جانب التمثيل السياسي؛ كما تحظى بحقوقها الثقافية والاجتماعية، وتمتلك من الأدوات التي تمكنها من تنمية ثقافاتها، واحياء مناسباتها الدينية والقومية بكل حرية.
ولكن الأهم من من كل هذا هو القبول غير الرسمي على صعيد المجتمع والأفراد بهذا التنوع، بل والاعتزاز به والحرص عليه. وهذا ما يعطي التجربة الكردستانية مقومات الاستمرارية والتطور نحو الأفضل. فما هو قائم لا يقتصر على الجانب الرسمي فحسب الذي قد يستخدم لغايات دعائية، وانما هو استمرار لتقاليد راسخة من التسامح والتعايش بين جميع المكونات.
يعيش في الإقليم الكرد والعرب والتركمان والسريان والكلدان والآشوريون. كما يعيش المسلمون والمسيحيون والإيزيديون، ويعيش السنة والشيعة والكاكائية والشبك. كما كان الإقليم ملاذاً للاجئين السوريين، والنازحين من أهالي الموصل وسهل نينوى، والعرب السنة من جميع المحافظات العراقية.
وفي أكثر من مناسبة سمعت من الرئيس مسعود بارزاني موضوع قطعات فيلقي الجيش العراقي التي كانت في كردستان؛ وأسهمت في عمليات الأنفال السيئة الصيت عام 1988، التي راح ضحيتها بحسب المصادر الرسمية في الإقليم، وبموجب تقارير منظمات حقوق الإنسان، نحو 180 ألف إنسان من الكرد العراقيين؛ معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ. هذا إلى جانب مجزرة حلبجة عام 1988 التي ضُربت بالكيماوي، مما أدى إلى وفاة نحو خمسة آلاف إنسان.
إلا أنه على الرغم من المآسي والكوارث التي تعرض لها الكرد على مدى عقود، وكان وراءها النظام العراقي البعثي؛ وعلى الرغم من تفاقم الغضب الشعبي، لم تجر أي عملية انتقام بحق الجنود العراقيين الذين خُيروا بين العودة إلى أهاليهم، أو الخروج إلى المهاجر، أو حتى البقاء في الإقليم وذلك بعد التنصّل من النظام وقطع العلاقة معه. وكان الرئيس بارزاني يحرص دائماً على إظهار اعتزازه بشعبه الذي لم يتسبب في سفك قطرة دم واحدة من أي جندي عراقي بعد 1991 حينما أعلن نظام صدام حسين سحب إدارته من الإقليم، وذلك بعد القرار الأممي 688 عام 1991 الخاص بالحظر الجوي.
ونحن اليوم إذا ما قارنا هذه الصورة بما حدث ويحدث في مناطق عفرين ورأس العين وتل أبيض من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، تشمل الخطف والقتل والاعتداء على ممتلكات الناس وأرزاقهم وحتى أعراضهم، من قبل مسلحي الفصائل المحسوبة على المعارضة السورية الذين دخلوا مع الجيش التركي إلى تلك المناطق، فسنجد أنفسنا أمام لوحتين متناقضتين تماماً.
اللوحة الأولى تعرض ما يؤسس لمشاريع وطنية، تفتح الطريق أمام مجتمعاتنا للنهوض في ظل وجود إدارة حكيمة حريصة على شعبها. بينما اللوحة الثانية تلقي الضوء على استمرارية المنظومة الاستبدادية البعثية والأسدية من المفاهيم والممارسات التي كانت ترى في اضطهاد الكرد من المسلمات التي لا تحتاج إلى النقاش حولها، بل كانت تعتبره من الواجبات القومية. فالكردي كان عليه أن يقبل بتجريده من الجنسية والملكية والاسم والثقافة؛ ويخضع للتهديد والابتزاز. أما التهمة المفبركة الجاهزة فقد كانت «النزعة الإنفصالية».
وبالتناظر مع ما تقدم، يمارس المسلحون في المناطق المشار إليها، كل الانتهاكات التي تدينها سائر الشرائع السماوية والوضعية، وهم يسوغون أفعالهم السيئة بذريعة علاقة هؤلاء مع حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. هذا في حين أنه قد بات مكشوفاً للقاصي والداني أن ما يحصل إنما هو بدافع اللصوصية الممزوج مع الحقد العنصري. وكل ذلك لم ولن يخدم المشروع الوطني السوري الذي يستحق اسمه ما لم يكن بالجميع وللجميع. مشروع يطمئن كل السوريين من دون أي استثناء.
وقد جاءت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، وحرصه على التوجه إلى أور والموصل، وجولته الخاصة في إقليم كردستان العراق، واقامته للقداس الكبير في ملعب فرانسو حريري، القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي اغتالته جماعة أنصار الإسلام عام 2001، لتكون بمثابة تقدير من جانب أعلى صرح مسيحي في العالم لما حققه إقليم كردستان على صعيد التسامح والتعايش المشترك بين سائر أطياف التنوع المشرقي.
ويُشار في هذا السياق إلى التجربة الناجحة التي اعتمدها الإقليم لتحقيق السلم الأهلي حينما تم العفو عن الكرد وغير الكرد من الذين كانوا على علاقة مع النظام السابق، وألحقوا الأذى بالمواطنين، وذلك عام 1991. وهي تجربة ناجحة سبقت تجربة جنوب أفريقيا، ويمكن أن تكون مثالاً يحتذى به في سوريا التي تعاني اليوم من تهتك عميق في النسيج المجتمعي الوطني بفعل الحرب التي أعلنها النظام على الشعب؛ ونتيجة سياسات فرّق تسد التي اعتمدها النظام نفسه استراتجية للتحكّم بالسوريين على مدى أكثر من نصف قرن.
ولكن يبدو أن هذه النجاحات لا تروق لبعضهم ممن أخفقوا في طمأنة مجتمعاتهم، واعتمدوا ايديولوجيات دينية مذهبية، أو قومية تعبوية لكسب الأتباع، وتأليبهم على شركاء الوطن والمصير. لذلك نرى التدخلات المتواصلة التي تريد تحويل التباينات السياسية الطبيعية إلى خلافات تناحرية، وخصومات مذهبية، قومية، مناطقية. كما نرى الاعتداءات والتهديدات المستمرة التي تستهدف زعزعة الاستقرار في الإقليم، والضغط على قيادته، ليصبح هو الآخر تابعاً في ماكينة أصحاب المشاريع التوسعية، وساحة نشاط وعبور لميليشياتهم المحلية التي قد تجاوزت حاجز الخجل والمواربة من جهة تبعيتها للأجنبي المتربص.
تصاعد التوترات في المنطقة لا يخدم شعوبها، ولا يساهم في استقرار دولها. كما أن اعتماد اسلوب تعبئة الناس، وشدّ العصب المذهبي أو القومي من حين إلى آخر عبر شعارات فضفاضة؛ والتمسك بأهداف تحاط بهالة من التقديس المبرمج من جانب الأنظمة التي ترى في تلك الأهداف وسيلة لاستمراريتها، وشرعنة لوجودها غير الشرعي الذي يتم تجديده بانتخابات صورية، تتحكّم الأجهزة الأمنية القمعية بكل تفاصيلها ودقائقها، لتكون نتائجها مجرد تضليل يستخدم لإبعاد الخصوم، وابتزاز المجتمع الدولي الذي باتت المصالح العارية بالنسبة إليه هي الموجه.
الديمقراطية تعيش اليوم محنة كبرى بفعل اتساع دائرة تأثير القوى المتطرفة في الأنظمة الديمقراطية، هذه الأنظمة التي تشكو من ناحية هشاشتها التي يزيدها دعمها وتغطيتها للأنظمة المستبدة الفاسدة في مختلف أنحاء العالم. ولكنها من ناحية أخرى تسعى عبر مؤسساتها الديمقراطية، وبالتنسيق مع منظمات المجتمع المدني، إلى تحجيم القوى المشار إليها، من خلال المبادرات والتشريعات التي تستهدف وضع حد لكل أنواع التطرف.
القدس العربي