كردي سوري في روايتي..
أحمد الزاويتي
ولدت في فترة كان والدي فيها راعيا لأبقار القرية، أهلي يقولون بأنها كانت بين أعوام 1967 و1969، ليس معروفا بالدقة أي عام منها كان ميلادي، فأنا من عائلة كردية في محافظة الحسكة السورية، اعتبرها النظام أجانب مجرّدين من الجنسية، فلا وثيقة تثبت متى ولدت.
من علی شاكلتنا لا يحق لهم التمليك في سوريا، ولا التوظيف، حتى الزواج رسميا ممنوع، لا البيع ولا الشراء، إذا تم ذلك يكون خارج القانون، إذا أردت الخروج من البلاد، فلا أمامك إلا سلوك طرق التهريب عبر الحدود، وبمساعدة من امتهن التهريب، فلا يحق لنا امتلاك جواز سفر.
الحدود التي مزقتنا كنا نصبح ونمسي على رؤيتها كل یوم، ومواجهة صعوبة تجاوزها، رغم أننا كنا نكرهها لكننا أصبحنا معا جزءا واحدا، فنحن في ديركا حمو المثلث لالتقاء أجزاء كردستان الثلاث في سوريا وتركيا والعراق، ومن دیركا حمو أینما تولّي وجهك ستواجه الحدود.
منذ نعومة أظافري وأسمع ممن يكبرني من رجال ونساء القرية عن القتل والابادات على شعبنا الكردي في الأجزاء الأخرى من كردستان، ذلك أكثر وأكبر مما جرى علينا في سوريا، لكنني كنت أشعر تماما أن حظنا أسوء من الكُرد هناك عند الآخرين.
أنا كنت دائم الشعور بعدم الانتماء لهذا البلد، لأنني لا أملك جنسيتها، ودائم الشعور بالنقص في فقدان الوطن، فلا وثيقة رسمية تثبت من أنا؟ ومن أين؟ ومتى ولدت؟ وماذا أملك في هذا البلد؟ وعندما كنت أرى في طفولتي الشرّر يطير من عينَي والدي حين لا يحق له شراء دار أو تمليك قطعة أرض لزراعتها، حينها أتيقن فعلا بأن الظلم الذي يمارس علينا أكبر من الظلم هناك.
سعادتي لم تكن توصف ونحن أطفال القرية نخرج باتجاه ضفاف نهر دجلة بالقرب من عينديوار، هي آخر نقطة لا يمكننا تجاوزها، لأننا سنخرج بذلك من سوريا وندخل تركيا، مع أن ما على جانبي الحدود هو بلادنا كردستان.
عند الوصول للهضبة المطلة على عينديوار، قبل نزولنا إليها، كنا نتوقف لالقاء النظرات على منطقة بوتان الشاسعة الواسعة، ومن خلفها جبل جودي الذي هبط عليها سفينة نوح، وبدأ منه المرحلة الثانية من الحياة ما بعد آدم، في وسط سهل بوتان بلدة جزيرة، ففيها قضى العاشقان الاسطوريان الكرديان مَم وزين حياتهما، مات مَم دون أن يصل لمعشوقته زين، مثلما مات ويموت الآلاف من رجال ونساء كردستان دون أن تتحقق أحلامهم في وطن وحقوق كبقية شعوب المنطقة، في الجزيرة مرقد مَم وزين الذي يزار من قبل العاشقين والثوار، كل صباح ومساء كنا نرى بلدة جزيرة ويشقها نهر دجلة إلى نصفين ثم يتجه نحونا لينقل منها إلينا كل معاني الفن والأدب من أبيات مَم وزين التي نظمها أحمد خاني حين قال:
(لو كنا متفقین مع بعضنا، ونطيع بعضنا بعضا، كان كل الروم والعرب والعجم يطيعوننا، كنا حينها نحقق ديننا ودولتنا، ونحصل على العلوم والحكم)
جزيرة تبعد عنا ببضع مئات من الامتار شمالا، لم يكن بإمكاننا السير إليها، لأن هناك يسمى سَرخَت (فوق الخط) والمنطقة التي نحن فيها تسمى بِنخَت (أسفل الخط)، هو خط وهمي مستقيم كأنه رسم بالمسطرة على الورق، ليقسم الخط مدن كردستان إلى نصفين بين تركيا وسوريا:
فنحن في عينديوار يقابلنا في تركيا جَزيرة، وإذا ذهبنا إلى بنخَت في القامشلو فمقابلها نصيبين في سَرخَت، وإذا واصلنا غربا ووصلنا درباسية ففي سَرخَت شینیورت، نستمر لنصل سَريكانيى ليقابلنا في الجانب التركي جيلانبينار، وعلى بعد خمسين كيلومترا تأتي كريسبي ليقابلها آكجقل، وهكذا في كوباني يقابلها برسوز، نصف المدينة فوق الخط، والنصف الآخر تحت الخط، مخافر الأمن السوري تنتشر على الجانب السفلي من الخط، وأبراج المراقبة التركية كانت منتشرة فوق الخط، جعلوا الخط الوهمي خط نار حقيقي يقتل مِنّا من يحاول عبورها.
في الجانب الشرقي كنا نرى الأراضي الزراعية الشاسعة في الطرف الآخر من نهر دجلة، والفلاحون والناس والسيارات تتحرك، هم كُرد العراق، لا يفصلنا عنهم سوى خط وهمي آخر، الخط هنا متعرج وليس مستقيما كما خط الشمال، فالتضاريس في الشرق لم تسمح بخط مستقيم كما الشمال.
كلما كنت أسمع عن كارثة يقع على اشقائنا كُرد الشمال كنت اتوجه إلى نقطة قريبة من الخط الوهمي لأرسل نظراتي وآهاتي إلى هناك، وكلما كنت أسمع من الأخبار حدثا على إخواننا في الشرق كانت نظراتي وآهاتي تتجه شرقا.
الحدود قسمتنا ووزعتنا على دول مختلفة، كانت تلك هي اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التي لم تمنحنا نحن الكُرد كيانا مستقلا كدولة كما منحت لتركيا وسوريا والعراق وايران، وجعلت تلك الحدود تمزقنا تمزيقا، ذلك التمزيق، وذلك الحرمان من الدول جعلت افئدتنا تتجه إلى هناك، والوحدة التي حُرمنا منها في الأرض والإنسان، جعلتنا شعوريا أقرب لبعضنا.
وأنا حينذاك طفل لم أبلغ العاشرة من عمري عرفت من أفواه المسنین في قريتنا، أن قصة تجريدنا من الجنسية كانت تستهدف كرديتنا، فهي لم تكن مجرد تجريدٍ من الجنسية، بل كان تجريدا من الكردية، عرفت أنها بدأت في الثاني عشر من التشرين الثاني – نوفمبر عام ألف وتسعمائة واثنين وستين، قبل أن ألد بخمس سنواتٍ أو سبع ٍ أو ما بينهما، عندما جاء الضابط في وزارة الداخلية السورية برتبة ملازم اول (محمد طلب بلال) وقدم خطة عمل لتجريد منطقة الجزيرة في سوريا من كرديتها، وشكل بذلك حزاما عربيا حول عنق المنطقة الكردية، قلد بذلك خطة عصمت إينونو في تركيا، هكذا فهمت وأنا في بداية فُتوتي، دفعني ذلك إلى معرفة تفاصيل خطة عصمت إينونو فعرفت بعد ذلك تفاصيل تلك الخطة.
كانت تسمى بـ (خطة إصلاح الشرق)، أصبحت فيما بعد قانونا رسميا، بدأ العمل به مباشرة بعد رفعه لأتاتورك بعد التغلب على ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 في كردستان الشمالية، كان القانون هو تتريك المنطقة الكردية في شرق تركيا على مرحلتين: مرحلة غرب الفرات ثم شرقه، تم بموجبه تهجير خمسين ألف كردي سنويا من مناطقهم، ليصبح الكرد بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ أقلية في مدنهم، بعد تسكين الأتراك فيها، وقد أوتي بأتراك المهاجرين من بلاد القوقاس وأسكنوا في غرب نهر الفرات، كانت الخطة تهدف إلى تفريغ كردستان من مواطنيها الكرد، هكذا غيرت خطة إينونو ديموغرافية أربع مدن كردية كبيرة وهي ساوس، ماراش، عنتاب، أورفة، رافق ذلك فرض الحديث باللغة التركية بدلا من الكردية.
عصمت اينونو قام بذلك بتكليف من مصطفى كمال أتاتورك الذي كلف بالتوازي مع مهمة اينونو (شريف فرات) لإعدادِ كتابٍ عِلمي يثبت من خلاله الأصل التركي للكُرد، وفعلا تم تسميتهم بعد ذلك بأتراك الجبال، العرب ايضا في كل من العراق وسوريا حاولوا أن يرجعو أصل الكُرد إلى العرب، والفرس يقولون لكُرد الدنيا كلها بأنهم فرس، والذين فشلوا قبلهم في إيجاد أصل للكرد حسب هواهم، أرجعوا أصلهم إلى الجن، نعم نحن الجن حيث لا يتطلب ذلك لا بحثا ماديا ولا علميا، هذا هم نحن قد نكون عندهم كل شيء إلّا كُردا.
الشيء الوحيد الذي تمكن والدي فعله لنا في مؤسسات الدولة، هو ادخالنا مدارسها.. في المدرسة أردت أن أعوض عن الشعور بالمعاناة والظلم بالتفوق دراسيا فكنت متفوقا دائما، لم أقبل أن أكون دون الأول، كان والدي يفتخر بي دائما، وهكذا الآخرون من عائلتي، والكبار الذين لم يتحدثوا عن شيء غير السياسة والثقافة والأدب، ولم تكن ثقافتنا وأدبنا غير السياسة، ولم تكن سياستنا إلا قضيتنا الكردية.
مدونات الجزيرة
جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media